حمزة الحسن
( عندما يتعرض بلد لقمع طويل،
تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج الى الحرية وتتواءم مع الاستبداد، ويظهر فيها ما يمكن تسميته: المواطن المستقر).
* المفكر الفرنسي إتيان دولا بويسي في كتابه : العبودية الطوعية .
المواطن المستقر تحت نظام غير عادل وفاسد وعبودي،
هو المواطن الميت كنظام الزومبي الميت المنتظر الدفن،
المتنازل عن كل أسس وشروط الحياة الحقيقية:
الحرية، المصير، الكرامة، والحياة.
لكن هذا” المستقر” كحجرة ولد ونشأ نتيجة ظروف ومراحل
حتى وصل الى هذا” الاستقرار” المنعش المخدر .
يقول المفكر الفرنسي إتيان دولا بويسي في كتابه” العبودية الطوعية”:
( عندما يتعرض بلد لقمع طويل،
تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج الى الحرية وتتواءم مع الاستبداد،
ويظهر فيها ما يمكن تسميته: المواطن المستقر).
يضيف لابويسي” أن هناك عاملين مهمين يخدمان قضية العبودية الطوعية وهما: الدين والخرافات”. أي التوظيف الديني وتحويله الى خرافات وخلق الدين الجديد والنتيجة؟ .
” إذا اعتنقت طبقة من اللصوص أسطورة فانتظروا مذبحة أو ما هو أسوأ من ذلك : ولادة دين جديد. “- إميل سيوران.
جميع نظم الاستبداد تحرص على ترسيخ الطقوس ، أو ما يعرف بالطقسية، في اجترار مزمن للحوادث التاريخية للهروب من رهانات الحاضر واستحقاقاته وفي الحفاظ على الازياء الكهنوتية لخلق التراتبية بين الناس، واعادة تكرار مفاهيم الطاعة حتى يجد المواطن نفسه معتقلا من الداخل بشبكة مفاهيم .
مارس النظام السابق الطقسية بافراط من خلال الحفلات والمهرجانات وصور الطاغية في كل منعطف وشارع ومؤسسة ومنزل وصحيفة وشاشة وحفلات التكريم وكذلك التماثيل لكي يشعر المواطن ان الواقع الحالي هو أبدي ويستسلم ، أي ” الترويض” الناعم وهو من مفاهيم علم الاجتماع عكس الترويض الخشن ،
ولم تتغير الطقسية اليوم بل تغيرت رموزها لكن الغاية واحدة: خلق الواقع البديل والاعتقال الذاتي وتأبيد الواقع وخلوده.
الطقوس والرمزية هي وظائف وعلى المواطن واجب العمل بها كطقس تطهير من آثام وذنوب التاريخ وليست هناك طريقة أفضل للسيطرة عليه أفضل منن حشوه بمشاعر الاثم والذنب لان كل احلامه تتمحور حول الغفران وليس الحرية.
هذا المستقر رضع العبودية مع الحليب
وقدمت له على شكل قوانين ودساتير وقواعد ومبادئ،
ونظامه يعتبر الشعب أسرى والثروة غنيمة حرب والوطن مُلكية عقارية ومزرعة.
هذا المستقر يرعبه توقف ساعة الحائط وانفجار اطار سيارة وقت الظهيرة،
ويصاب بالهلع من سقوط ورقة خريف كما لو أن السماء أطبقت على الأرض،
بوق بائع النفط في الشارع يحسبه بوق اسرافيل يوم القيامة،
ولو فقد جوربه يظل يبحث ويلعن
مؤامرة ضده من قبل أشباح،
وانقطاع الكهرباء في السينما يعني عملية سطو مسلح،
ونظرة عابرة من عابر طريق انذار باغتيال،
وتوقف سيارة مضببة الزجاج يعني عملية اختطاف،
ووجود شخص في مقهى بنظارات سوداء وجريدة،
يعني عميل مخابرات يتابعه مع ان زبال الشارع لا يعرفه ولا صاحب الفرن المجاور،
ولا وجود له حتى في قوائم الاغتيال،
ولا سجل بقال الحي.
المواطن المستقر، بعد اضطرابات وفوضى وصدامات يريد العودة الى الاستقرار،
كما لو أن ما قبل الفوضى وغياب العدالة والمجازر والنهب ليست فوضى،
والاستقرار عنده توفر العيش حتى ولو بلا عدالة،
لا يوجد أي استقرار بلا عدالة:
العدالة نقيض الفوضى.
المستقر يريد العودة لتحكيم القانون والدستور،
ولا يجد رابطاً بين موته اليومي وبين القانون والدستور لأنه يُسرق تحتهما،
يعيش سلسلة انفصالات : عن نفسه وعن الواقع وعلاقته بالتاريخ علاقة تخيلية
غير موثقة وسرديات شفوية متداولة،
كذلك علاقته بالاخر تخيلية فلا يراه كما هو بل كما يتخيله،
لكنه عاجز معرفيّاً وفكرياً ونفسياً عن تخيل ذاته
وعلاقته معها علاقة معطف معلق فوق مشجب
أو ثوب على حبل الغسيل.
يريد السلم الاهلي مع غابات السلاح والقتل الكيفي.
المستقر فرح وسعيد لو اشتغل قطار أو مصنع أو مطار أو ارتفع سعر العملة أو قبضوا على لص أو ترميم حائط في مؤسسة او رفع نفايات من الشارع ،
لان العقل الاختزالي لا يرى الواقع الا تفاصيل وجزرات معزولة .
لا يعرف انه لن يقبض شيئاً من كل ذلك،
ويحتفل باخبار مشاريع لا ناقة له ولا جمل فيها،
في بلد بلا اقتصاد واضح الملامح ونظام مصرفي لصوصي وطبقة فاسدة،
وهو يجزيء الاحداث ويعزلها عن بعضها وعن النظام
لان العقل الاختزالي عاجز عن الربط بين الظواهر واذا ربط ، فهو يربط بين ظواهر لا علاقة بينها، كالانسان البدائي في العقل السحري The magic mind الذي كان يربط بين العواصف والبرق والمطر وبين الارواح، وأما العقل السحري المحسن المطور فيربط بين فوزنا بكرة القدم وبين المستقبل وبين القبض على لص وبين قوة السلطة وبين زيارة مسؤول الى مؤسسة وبين تحسن الاداء الوظيفي ومحو الصورة المعقدة المركبة المتداخلة التي يتشابك فيها التاريخ والتراث والتقاليد والسياسة والثقافة والمجتمع وبين الدول والمصالح والاحلاف والعقائد والشركات والمال والسلاح والمافيات والعصابات والجوار والجغرافيا والعقائد الصلبة والخ ،
لان العقل التبسيطي الثنائي المانوي لا يرى أبعد من ذلك وهو سعيد ومبتهج بهذه القراءة المختزلة للواقع.
المواطن المستقر لم يعد بحاجة الى الحرية،
بل يحتاج الغفران بعد أن تم حشوه في مناحات طويلة لا تنتهي بكل جرائم التاريخ،
كما لو انه ليس من هذا الحاضر بل ينتمي لتاريخ قديم
في معارك كبرى لم يكن فيها شجاعاً ومنصفاً
ولم يولد في مدينة مكتظة بل في صحراء عريقة في القدم.
هذا المستقر صديق النظام القائم،
وهو العائق الأول والأخير عن ولادة أي نظام عادل قادم،
لأنه لا يرى غير الموت فيرضى بالحمى.
المواطن المستقر هو جيش النظام الاحتياطي الخفي خلال أوقات الغليان لانه لا يشارك فيها،
مما يوفر للنظام الفرصة وحشد القوة في أضيق الأمكنة وتوفير الوقت للاستفراد بالمحتجين وقمع العصيان للعودة الى” الاستقرار” و” النظام” و” الهدوء ” و ” القانون” والخ من مفاهيم الاعتقال الذاتي.