حمزة الحسن
عاش في شارع الأرامل،
جيل عراقي من النساء عشن معركة الحياة بشرف وبطولة بلا تذمر:
جيل العباءات السود والثياب السود .
جيل هو التوقيع الأخير على زمن لن يتكرر،
عشن بلا مسرات ولا تعبير عن مشاعر وعواطف.
ممنوع البوح بل مسموح الموت، صمتاً، بلا أدوات زينة ولا حقائب يد ولا حياة خاصة ولا عطر غير رائحة القرنفل .
عندما قرأت رواية” شارع ميجل” للروائي التريندادي ف.س. نايبول
الحاصل على نوبل وقارنت شخصياته بنساء شارع الأرامل،
كانت المفارقة أن المسافة واسعة بين الإثنين،
في شارع ميجل مسرات وأعياد وحفلات مجون،
وخداع واحتيال ومرح.
في شارع الأرامل تكريس مطلق للعمل والأطفال،
والزي الوحيد هو اللون الأسود غالباً في كل الفصول
الذي يتبدل مرة واحدة الى اللون الأبيض
في الخروج الأخير من المنزل ، لون الكفن.
الحياة الحقيقية تسكن هذه النفوس الكبيرة،
التاريخ في الهامشي وليس في مقاهي وثرثرة المثقفين،
والأدب يسكن هنا في هذه الاحاسيس الثابتة المنسية.
يوماً جاء الشاعر المرحوم مشرق الغانم هاربا من الشامية في الحملة على الشيوعيين،
ولم يكن الوضع آمنا فهربنا معاً الى بغداد.
خرجنا في الليل الى الشارع المضاء بالمصابيح،
وقف منتصف الشارع وتأثر بعمق بتلاحم الجدران الطينية،
كما لو أنه بيت واحد،
التفت وقال:
” ستظل ذاكرتي مطلية بلون الطين من اليوم”.
مات في الدنمارك وهو جالس على كرسي.
كنا نحن فتيان الشارع قد توزعنا على انتماءات مختلفة،
لكن الأغلبية نحو اليسار بسبب نداء الفقر والعدالة والثورة لا عن فهم عميق للأفكار،
وقد أكون إستثناء الشارع عندما توجهت مبكراً نحو الأدب لكن لا نجاة من نظام متوحش لا يؤمن بأنصاف حلول : إما المحو أو الدمج.
في ذلك الزمن يجب أن يصنّف الفرد في خانة ولا مجال للفردية
وقد يجلب شاربه المتهدل أو المقهى التي يجلس فيها أو الاصدقاء الذين يمشي معهم
تهمة الانتماء لحزب ما في زمن لم تكن اللحية شائعة،
لأنها تتحول الى مكنسة في غرف الأمن.
على اليسار الجارة دولة الخبازة تكدح طوال النهار في الفرن من الفجر،
الزوج غائب ولا حضور له،
يقال قُتل يوما في طريق.
على اليمين بدرية نحلة لا تكل ولا تمل مع العمل،
الزوج حاضر لكنه هامشي.
كل أزواج الشارع بلا فاعلية بين ميت ومختفي ومطرود
والحي منهم عرضة لنوبة تعذيب فورية لأن الاستقلالية الاقتصادية تترافق مع قوة الشخصية،
وما دام الرجل لا يصك ولا يفك فهو مشروع في أية لحظة للطرد أو في حالة إغماء بنصف بلوكة محلقة في الرأس أو ذراع عتيق لكرسي يكفي لمحو قارة .
في الركن حسنة والزوج حي لكنه ميت حتى في ذاكرتها،
كل ما يفعله هو الجلوس فوق عتبة الباب ومراقبة المارة،
وفي المشاجرات التي تندلع لسبب او بلا سبب ،
تقوم حسنة بخلع ملابسها كحرب نفسية ضد العدو للإخزاء، وكان صبيان الشارع في انتظار لحظة الاشراق والتوهج البابوبة
ولم ير صبيان الشارع يوما حسنة وهي ترتدي لباساً كما لو انها
تستعد كل لحظة لمعركة .
كما يقول المثل الروسي:
” وقحة الحي سيدة جيرانها” .
جوارها العمة كاظمية بدجاجات أعالت عائلة.
مقابلها حمزية عنزة ودجاجة ونخلة كانت كافية
للعيش بلا عوز،
قربها نورية الخياطة خاطت كل دشاديشنا بصمت،
كنا نحلم لو خاطت جراحنا القادمة.
الجار الرابع أخرس ـــ وجاره المقابل أخرس أيضا ـــ وعندما سأله صديق بلغة الاشارة عني أجاب الأخرس علامة الخطر والابتعاد وعندها فكرت إذا كانت سمعتي القرمزية كزبون دائم للأمن وصلت الأخرس،
فما حال الباقي وهم في كل الأحوال بكم في زمن لا ينفع فيه الكلام إلا لقضاء الحاجات البدائية لا للتفكير والتواصل؟.
فهيمة جارتي في الامام والزوج مصاب بالخرف
وعندما يضيع في الشوارع يسأل عن إسمي المعروف في سجلات الأمن وكرة القدم ومطاردة
الخفافيش في الليل يوم كان الخفاش حقيقياً وليس خفافيش النهار كما اليوم ،
وحين يرى منزلنا يتذكر منزله.
عباسية جمع حطب وقراءة كف وبريد رسائل بين العشاق قبل زمن البريد الالكتروني وصفحات التواصل،
لا تقرأ ولا تكتب وكنا نكتب الرسائل الغرامية على ذراعها بالقلم الجاف مثل:
” شحرورة، انتظرك اليوم قرب بحيرة روما،
قرب مبنى الفاتيكان جوار الخطوط السويدية”،
وهي رموز مشفرة لأمكنة:
البحيرة خرابة والفاتيكان بقالية والخطوط الجوية السويدية خان للخيول
وكتبت عن تلك الرسائل رواية منشورة: حفرة فيراب.
الشارع ظاهرة نادرة وسيطرة إمومية مطلقة على رجال مهمشين أو مقصيين وعودة للمجتمع
الإمومي Matriarchy.
الشارع الموازي يسمى شارع العميان والسبب عائلة تعاني من مرض العيون، وهذه الالقاب شائعة بسبب عوق او مهنة وحتى زلة لسان.
الرجل الوحيد الأعزب الساكن وحده في الشارع هو جبار الأعرج،
وجبار سكير وفاسد وشرس،
وجدتُ أرامل الشارع حول جنازته حائرات في النعي،
وحضرت الكوالة أو الندابة السيدة حياة ابتسامة شارعنا،
فقالت حائرة أمام النعش:
” ماذا أقول عن هذا الفاجر؟
علّقت حسنة :
” قولي شايل ” عضوه” ويفتر بيه اسمع يا الشامت “.
في اليوم الثاني سقط محسن الفهد الخرف بنوبة قلبية وهو يضحك وتبعه علوان الحائك القصير القامة جداً كما لو أنه دمية بعكال وشماغ وعباءة تمشي وحدها في الشارع،
تاركاً زوجته أم غائب وحيدة بلا أبناء، مطمئنة بلا قلق زمن الحرب ،
وفي أيامها الأخيرة صارت شبه عمياء وتسكن في ركن شارع العميان وكانت المرأة الوحيدة في الحي أيام الحرب مع إيران التي تنام بلا قلق.
المرة الأخيرة كنت ماراً في الشارع في المساء وكانت تجلس على العتبة تضع يديها على خدها، سألتني:
” من أنت؟”
أجبتها فقالت وهي تتوكأ على ركبتيها:
” حمزاوي؟ تعال يُمّة المصباح إنطفأ”.
غروب غسقي يطل من خلال العينين الغائمتين،
أم غائب سعيدة في زمن الحرب،
لا قلق ولا إنتظار ومحسودة نساء شارع الأرامل.
قلت:
” ساشعل لك الليل لو إنطفأ المصباح”
” تعرف أنك هدية سبع البوسلطان الامام الحمزة على بنات؟”
” سمعت”.
كانت فقط تريد أن تتكلم من أعماق وحدتها،
أشعلت الضوء وجلست بعض الوقت وغادرت وتلك المرة الاخيرة.
كان الشارع في الليل غارقاً بالصمت والعتمة ولون الطين والسواد،
وما يزال ،
لكن ذلك المصباح لم ينطفئ في الذاكرة حتى اليوم.
Read our Privacy Policy by clicking here