حكم بعقوبة الحرمان من القراءة و الكتابة ! ــ قصة قصيرة

حكم بعقوبة الحرمان من القراءة و الكتابة ! ــ قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

مع تقدم حشود بشرية حثيثا إلى الأمام ، على شكل موجات متلاطمة و متضاربة ومتشابكة وهي في حالة اضطراب و هيجان و سط موجة أصوات تذمر واحتجاج ، شعر ” هو ” أن التيار البشري يجرفه نحو منصة عالية و فخمة مغطاة بفرشة مخملية مهذبة أطراف توحي بالأبهة والعظمة ، كان يتوسطها شخص أشبه ما يكون بحاكم أعلى أو رئيس قضاة ، فما أن لمحه قاضي القضاة الأعلى حتى التفت إلى أحد مساعديه الجالسين جنبه فسأله شيئا ما ــ لا زال يتفرس في وجهه بانتباه مرّكز ، فتكّهن إنه هو قد يكون معنيا بأمر الاستفسار ، فأجاب عضو الجلسة الآخر :
ــ أوه .. إنه معروف عنه شخص مشاغب و متمرد على طول الخط ، فلم يعر يوما أهمية لوصاياك أو بالانضباط بتعاليمك ، مولانا المعظم !، أن لم يكن قد استخف بها أيضا ، بعدم اكتراث ولا مبالاة بها ، بالأحرى بمحاججة عنيدة و مستميتة بهدف دحضها في كل الأحوال ــ بالمناسبة ،ــ لم يكن يهمه غير القراءة والكتابة طوال حياته .. إنه أشبه ما يكون بمدمن على ذلك ..
فسأل القاضي مستغربا :
ــ الإدمان ؟ .. كنتُ أتصور أن بعض الناس يكونون مدمنين على الكحول و المخدرات و لعب القمار أو الهوس الجنسي ..أما على القراءة فأول مرة اسمع بذلك .. صمت الحاكم الأعلى ، قليلا ، وهو لا زال متفرسا في وجهه ولكن في هذه المرة بنظرات ازدراء ، ليسأل مجددا :
ــ هل هو فيلسوف ، عالم اجتماع ، شاعر ؟ أم كاتب حكايات أم ماذا ؟ ..
ــ أنه شيء من هذا القبيل كله دفعة واحدة !..
ــ ملاعين هؤلاء ! .. لا يعجبهم عجب ولا يرضيهم أي شيء .. أخطر فئة على الأطلاق لأنهم يستهدفون العقول و الأذهان والأفكار ، ليقلبوا الأمور راأسا على عقب ,, أحيانا أشعر وكأنهم يريدون منافستي حتى على موقعي أيضا ، ليزيدوا العالم فوضى و خرابا ..ولكننا بالتأكيد سنكون لهم بالمرصاد دوما ..
قال الحاكم الأعلى ذلك ونظر نحوه شزرا و بكراهية كاسحة ، وهو يجعّد جبينه مستغرقا بالتفكير لحظة ، بينما ” هو ” خُيل له أن الحاكم الأعلى يفكر في إيجاد العقوبة الفظيعة التي قد يستحقها بجدارة ــ حسب تصوره ــ ثم تشاور مع أعضاء الجلسة ظن ” هو ” عن حجم أو نوعية الحكم الذي يتناسب مع فداحة أفعاله ، فاقترح بعض أعضاء الجلسة المحلفين عقوبة الحكم التالية:
ـــ السلق حيا بماء فوّار و غليان حتى ذوبان الطبقة الثالثة من جلده !..
أطرق الحاكم الأعلى رأسه قليلا متفكرا ثم هزه رافضا :
ــ إن حكما من هذا النوع قد يكون مخففا بحق شخص أعلن العصيان و التمرد و بهذه العلنية السافرة ، بل متباهيا أيضا ، ثم توقف ليلتقط أنفاسه الثقيلة المتقطعة بين فترة و أخرى ، عندما يبذل جهدا كبيرا في التفكير أو الكلام :
ــ إذا سلقناه سيتعذب قليلا ثم يموت ويتخلص ومن ثم ماذا ؟ ، فهذا العقاب المخفف لا يصلح إلا للدجاجة ! ، فأنا أرى أنه من الأفضل الحكم عليه بحرمانه من متعة القراءة و نشوة الكتابة مرة واحدة و إلى الأبد .. مؤكدا على أنها أقسى عقوبة على الإطلاق بالنسبة لشخص مدمن على القراءة والكتابة و بهذه الصورة من إدمان قوي جدا و بهوس شديد ، مشيرا ــ كحيثيات عقوبة الحكم ـــ أنها ستكون ذات تأثير نفسي تعذيبي بطيء و ماحق جدا وعلى المدى البعيد طالما هو باق على قيد الحياة ..
و عبثا صاح هو محتجا ، مستنكرا قسوة العقوبة :
ـــ اسلقوني .. أسلقوني رجاء .. بدلا من حرماني من القراءة و الكتابة و ..
غير أن صياحه ذهب أدراج الرياح عندما أعلن قاضي القضاة الأعلى وهو يضرب المنصة بمطرقة العدالة :
ــ خلاص !.. لقد أصبح الحكم قطعيا وساري المفعول نهائيا ، بدون اعتراض أو استئناف .. يلا يا خادم المحكمة … أخرجه من قاعة الجلسة فورا !.. الآن دور المتهم التالي فأدخلوه حالا ……
ملحوظة : يؤكد كاتب القصة أنه هو الآخر لا يعرف بالضبط و بشكل دقيق الصفة الوظيفية لرئيس جلسة المحكمة : فيما إذا كان هو الحاكم المطلق أم رئيس و قاضي القضاة الأعلى لذا استوجب التوضيح ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here