فرات المحسن
البرازيل ذات الأمجاد الكروية والعمارات الشاهقة والتمثال الضخم للسيد المسيح الشامخ فوق أعلى ربوة تطل على العاصمة ريو دي جانيرو. البرازيل الجمال الخلاب في التنوع الجغرافي والمظاهر السياحية، واحتفالات البهرجة الجسدية واللونية بمختلف تجلياتها وألوانها. البرازيل تتفوق على الكثير من دول العالم في وفرة السماسرة لكل شيء ولأجل أي شيء، مثلما هي الأكثر في تنوع الحريات والصخب والشجار الضاج في الحارات والشوارع، وكذلك في وسائل الإعلام من صحف ومحطات تلفزيون، ومن أكثر شوارع العالم تنوعا في نماذج الدعارة والبغاء والمخدرات وجرائم القتل.هذا هو الوجه المليء بالمساحيق والألوان الفاقعة والهادئة، الذي يمثل صراع الأضداد في أكبر وأغنى بلد في أمريكا اللاتينية.
ولكن الأهم من كل ذلك، البلد يملك كومة كبيرة من الأغنياء ذوي الثراء المفرط، وفي ذات الوقت متخوم بوفرة عالية من الفقراء والمعوزين، أو الذين يعيشون على هامش الحياة، ويسكنون في مدن الصفيح الراقدة على مرمى حجر من أرقى الأحياء وأغناها.هذا المشهد لا يختلف بتفاصيله عن وقائع الحياة اليومية التي تعيشها شعوب عديدة أخرى في أمريكا الجنوبية. ومثلما البرازيل فأن تلك البلدان قد مرت بذات الدورة التي أرادتها لها الإدارة الأمريكية، حين قررت تنفيذ موديل خاص لتلك الشعوب.
جهد عساكر انقلاب عام 1964 في البرازيل وحلفائهم من إداريي الشركات الأمريكية ومرتزقتها الوطنيين، على صناعة الموديل الذي يستطيع أن يقود السلطة ببراعة وقناعة ثابتة، توحي بالاستقرار الظاهر وفي ذات الوقت تقدم ما يطمئن مصالح الشركات وعصابات المافيا والمرتزقة الملتحقين بركبها. لقد كانت عملية البناء مكلفة وصعبة جدا وقدمت لأجلها الكثير من التضحيات المادية والبشرية. ولكن مردوداتها المعنوية والمادية لصالح القوى الرأسمالية أظهرت جدوى ما بذل من أجل بناء مثل هذا الموديل.
ربما ذات العنوان المدون فوق وجه ملف مشروع موديل أمريكا اللاتينية، هو ذات الاسم الذي أطلقته الإدارة الأمريكية على المشروع المخصص لمنطقة الشرق الأوسط، وبذات المواصفات ولكن مع اسم محدد (مشروع دمقرطة المنطقة ) وبتحويرات تتناسب وخصوصيات الشرق. تشابه عجيب يأتي من جعبة واحدة ربما ترقد فيها مشاريع مستنسخة لمناطق أخرى مختارة من العالم.
مع مرور الوقت والاكتشافات المشجعة للمصالح والتي صاحبت تطبيقاته، جعل الخيار يستقر على تسمية( موديل أمريكا اللاتينية ) كونه نفذ ونجح نجاحا باهرا في الكثير من بلدان قارة أمريكا الجنوبية، بدأً من البرازيل وشيلي وليس انتهاءً ببيرو وبوليفيا وكولومبيا والأكوادور وغيرها. وكانت دوافع تسريع إجراءات تنفيذ الموديل على أرض الواقع
حينذاك، هي الخوف من انتشار ما سمي بجرثومة الشيوعية .حيث انتابت الولايات المتحدة والشركات الكبرى الساندة لسياساتها، جراءها هستريا تحولت مع الوقت إلى عصاب وهوس مجنون،باعتبار أمريكا اللاتينية ذات أهمية حاسمة ومنطقة ذات بعد استراتيجي حيوي لا يمكن التفريط بها، لذا فقد وضعت وفق ذلك خطط وبرامج لمحاصرة المد الشيوعي من خلال الهجوم لتدمير ليس فقط مناطق وبؤر الحركات اليسارية وإنما محاصرة شعوب أمريكا اللاتينية والضغط عليها بالقدر الذي يجعلها أكثر طواعية لمصالح الولايات المتحدة ومن ضمنها مصالح الشركات.
استغلت الروابط الاقتصادية كأفضل نهج يتخذ لخنق أي انحراف عن الطريق، واستخدمت لذلك الهدف جميع وسائل وأسلحة الخسة لدحر التفكير بالاستقلال أو الشروع بالتحرر أو بناء الدولة الوطنية.وبفضل العملاء والمرتزقة من العسكر عمت بلدان أمريكا اللاتينية موجة متعاقبة من انقلابات عسكرية دموية.ولكي تكتمل المهمة فأن طرق الإعداد كانت توجب الاعتماد على إجراءات حاسمة ودقيقة تبدأ أولا بوضع العربة على سكة طريق التنمية الرأسمالية وفق توجيهات صندوق النقد الدولي، الذي يضع في مقدمة شروطه غير القابلة للنقاش، وجوب نهج سياسة إصلاح هياكل الاقتصاد لتتوافق وخطط الصندوق الدولية وحرية التجارة. وهذا لوحده لا يكفي، وإنما البرامج التي ظهرت بعد كل تلك الانقلابات كانت تؤكد على رغبة جامحة لدى الإدارة الأمريكية وحلفائها الوطنيين لوضع الدولة ومؤسساتها بين فكي كماشة القوة المتمثلة بالعسكر والنفوذ المالي المتمثل بالشركات المسيطرة على الاقتصاد الوطني، لذا فقد كان برنامج الإدارة الأمريكية متشابهاً في جميع بلدان أمريكا الجنوبية وبذات الخطوات ، وأتي مباشرة بعد كل انقلاب قام به العسكر في تلك البلدان، ولم يراعِ في التطبيق أي اختلاف في الخصوصيات الوطنية لشعوب المنطقة بالقدر الذي روعي نمط الإجراءات ونسق الأفعال وتدقيق النتائج المرتقبة ومن ثم تطويرها أو تشديدها لتكون أكثر فاعلية وايجابية لمصالح الولايات المتحدة.
نص المشروع أو الموديل على عدة محاور تتفرع عنها العديد من النقاط الحاسمة التي تنتهي إلى ذات الغاية وهي السيطرة الكاملة على البلد وجعله ضمن خارطة البلدان المنخرطة في خدمة الرأسمالية. وتمثل الجزء الأعظم للموديل بما يلي
ـ دمج الاقتصاد الوطني بالرأسمال العالمي عبر تصحيح هياكله من خلال إرشادات وشروط تقنية ومعونات مشروطة تأتي من صندوق النقد الدولي، ومن ثم يتم وضع الاقتصاد تحت رحمة الشركات الكبيرة العابرة للقارات.وهذا التوجه سوف يفرز وبشكل ناجز زيادة هائلة بأسعار المواد ـ بطالة واسعة ـ ـ تقليص حجم صادرات البلد ـ تفشي الرشوة والمحسوبية وسرقة المال العام والفساد الإداري واستغلال الموقع الوظيفي كوسيلة للنهب والإثراء.وتكون نتائج كل تلك المساوئ خراب هياكل مؤسسات الدولة وصراعات اجتماعية اقتصادية كبيرة.
ـ إعادة هيكلة الجيوش وربط مؤسساتها بالجيش الأمريكي حيث يشمل ذلك التحكم بإمدادات السلاح ومهام التدريب والخطط العسكرية ومن ثم وضع الجيش كمعادل مهم وأداة في السياسة والاقتصاد واليد الساندة لسياسة الشركات الاحتكارية.
ـ السماح بتشكيل مليشيات تنشأ من رحمها عصابات (مافيات ) سياسية اقتصادية عسكرية تكون مهامها قيادة مؤسسات الدولة وتسيير الشؤون العامة للمجتمع وحركاته السياسية والاجتماعية. ومن خلال تلك العصابات تتحول حتى عمليات التسول والسرقات والتصفيات الجسدية وبيع المخدرات والأدوية وتجارة الرقيق والدعارة، وجميع الأعمال غير القانونية وغيرها إلى مهن ينخرط للعمل فيها الآلاف من البشر ومن ثم تصبح مصدر الرزق الوحيد لهم. ليصبح الفساد والعصابات بمختلف أنواعها جزء من بنية المجتمع.
تتخذ السلطات إجراءات ظاهرها يطمئن المواطن ويخفف من حدة وغلواء معارضته.وأولى تلك الخطوات تتمثل في فوضى الحرية أو حرية الفوضى (الفوضى الخلاقة حسب التعبير الرامسفيلدي ) حيث يسمح للناس بممارسة مختلف الأفعال التي كانت السلطات السابقة تمنعهم من ممارستها، من مثل الحرية المطلقة للصحافة وإصدار النشرات وتشكيل الجمعيات والفعاليات بمختلف اتجاهاتها وتنوعها، الخروج بالتظاهرات والاعتراض على أي شيء. فتح محطات إذاعة و تلفزيون دون شروط أو رقابة، حرية السوق والمنافسة الاقتصادية، تخفيف إجراءات القضاء والأحكام ضد الجرائم بمختلف أنواعها وطبيعتها، تشجيع الحوارات والنقاشات بشتى المواضيع.
تعد الإدارة الأمريكية تلك الإجراءات والحريات وغيرها، الباب المفضي لخلق قاعدة اجتماعية سياسية اقتصادية تدين في الأخير بالولاء المطلق لمشروعها، حيث تفرز وتنتقى خلال تلك الإجراءات، مجاميع من المرتهنين والمتورطين الذين يشكلون في النهاية عصب الإدارة التي تأخذ على عاتقها حماية المنجزات والمكتسبات التي نفذت لصالح المشروع الأمريكي.وبالرغم مما يرافق تلك الإجراءات من فوضى وخروقات فجة لحقوق الإنسان وقسوة وجرائم، فإن الإدارة الأمريكية تصر على رفض التدخل الحكومي للحد من تلك الحريات وضبط المنفلت منها ولجم المساوئ التي ترافقها. لا بل تكون تلك الخروقات والتعديات في أخر السلم من اهتمامات الإدارة الأمريكية.
وبالرغم من جميع مظاهر الديمقراطية المتمثلة بحرية الصحافة والتظاهر وغيرها من الحريات، فان حصاد الفساد الذي خلفته وولدته طبيعة الموديل الذي أرادته الإدارة الأمريكية لشعوب أمريكا الجنوبية،ووضعت له ميكانيزم خاص، يبدو مفزعا وغير قابل للتصحيح ،لا بل يحتاج إلى قفزات واسعة وكبيرة وفاعلة في النشاط الوطني، ويحتاج تضحيات هائلة لتجاوز الواقع المتردي والمرير.
في المحصلة النهائية وضعت الإدارة الأمريكية ما يكفي من الألغام في الطريق ولذا فإنها أطمئنت لمستقبل الإحداث القادمة حتى وإن أسفرت الانتخابات عن مجيء شخصيات وطنية معادية لنهج الشركات والإدارة الأمريكية. فكومة المشاكل الداخلية سياسية كانت أم اقتصادية سوف تجعل تلك الشخصيات المنتخبة تتخبط في طرق إدارتها ومعالجاتها للمشاكل وتجد نفسها في نهاية المطاف محاصرة من قبل عتاة الشيطنة السياسية من المرتزقة، ووسط هياكل مؤسسات حكومية فاسدة ومافيات تدير شؤون البلاد والعباد، وفي النهاية ففترة رئاسة تلك الشخصيات الوطنية سوف تكون صراعا لا ينجز فيه غير الشحيح الذي لا يلبي أبسط الطموحات للشعب.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط