أسامة خليفة
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»
في إطار سلسلة «الطريق إلى الاستقلال» التي أطلقها المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف» منذ تسعينات القرن الماضي، صدر حديثاً كتاب «تحت المجهر»، يحمل الرقم «44» في هذه السلسلة، يشمل الكتاب، قضايا فكرية وسياسية وبرنامجية، تمتد وقائع أحداثها على الساحات الوطنية والإقليمية والدولية، يتوزع مضمون الكتاب على 6 فصول، في القراءة الأولى للفصل الأول تناولت ما يطرح فيه من تساؤل مهم، هو: هل ما زال البرنامج المرحلي هو التعبير الراهن عن المشروع الوطني؟. وفي قراءة ثانية للفصل الثاني تناولت الدراسة البحثية «انتخابات الكنيست الإسرائيلية الـ 25 في 1/11/2022»، ونتائجها.
وفي هذه القراءة للفصل الثالث أتناول ما جاء فيه من «موضوعات في الوضع السياسي الراهن» وهي ثمان موضوعات كما يلي:
1- الانتخابات الإسرائيلية بتداعياتها
2- في الوضع الفلسطيني
3- في المهام المطروحة
4- عن أوضاع الشتات ومحورية دوره
5- في إعادة بناء مؤسسات «م.ت.ف» وإصلاحها
6- في وحدة الساحات وتكامل دور الجبهات
7- في الأوضاع الدولية وأثرها على القضية الفلسطينية
8- في انعكاس الأوضاع الدولية على الحالة الإقليمية
1- تداعيات الانتخابات الإسرائيلية:
أعادت انتخابات الكنيست 25 في 2/11/2022، بنيامين نتنياهو، رئيس حزب الليكود إلى رئاسة الحكومة، ومعه اتجاهاته الأكثر عنصرية وفاشية، متحالفاً مع لائحة الصهيونية الدينية، ممثلة بالثنائي ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، انضمت إليه الأحزاب الدينية الحريدية المتصهينة (شاس + يهودوت هتوراة) في مشهد سياسي يؤشر إلى متغيرات في البنى السياسية والمجتمعية، وانزياحات إضافية نحو اليمين المتطرف واليمين الفاشي، يحتل فيه المستوطنون بتعبيراتهم السياسية والحزبية، ونفوذهم المتصاعد موقعاً مقرراً.
فشل تحالف الوسط الصهيوني واليمين العلماني – الذي تولى قيادة الحكومة الإسرائيلية السابقة – وخسارته معركة الأكثرية بالكنيست، وسقوط يسار الوسط الصهيوني ممثلاً بحزب العمل إلى الدرك الأسفل بـ4 نواب فقط، وفشل ما بات يسمى باليسار الصهيوني، ممثلاً بحزب ميرتس في اجتياز عتبة الحسم، كل ذلك ينبئ بمعارضة سياسية هشة لنتنياهو، ولا يمكن على الصعيد الإسرائيلي فهم ما حصل، إلا من خلال قراءة فشل الحكومة السابقة، حكومة بينيت – لابيد في تقديم سياسة بديلة لليمين المتطرف، ممثلاً بحزب الليكود، والأحزاب الدينية الصهيونية، فقد دخلت هذه الحكومة في تنافس مع اليمين المتطرف، إنما على أرضية ملعبه وبشروطه، حين لجأت إلى التصعيد ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، متبعة سياسات التوسع الاستيطاني، والضم الزاحف، والقتل والإعدامات، وهدم المنازل، وتدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني، والتنكيل بسلطة الحكم الإداري الذاتي، والبحث عن بدائل سياسية تصفوية لأية تسوية متوازنة، كـ«الحل الاقتصادي» في الضفة، و«الأمن مقابل الغذاء» في غزة، ما عزز النزعات اليمينية واليمينية المتطرفة في المجتمع الإسرائيلي، وأفسح المجال لمزايدات سياسية بين أطراف الخارطة الحزبية، لن ينجح فيها – كما حصل بالفعل – سوى التيار الأكثر تطرفاً.
هذه الأجواء والانزياحات في الوعي، ترجمت نفسها ليس في الانحياز لصالح اليمين المتطرف واليمين الفاشي فحسب، بل أدًّت أيضاً إلى رفع نسبة التصويت لدى الجماهير اليهودية إلى 71%، ما يعكس طبيعة المعركة التي خاضتها الأحزاب الإسرائيلية في تشكيل الكنيست 25، ونمط التعبئة التي واكبتها.
عزز هذا المنحى وعمَّق مضامينه، اتساع القاعدة الجماهيرية للمستوطنين ونفوذها، وانتقالها إلى الفعل المؤثر في الحالة السياسية عبر تشكيلاتها الحزبية المتطرفة، والتي تدعو إلى حل صفري للصراع مع الفلسطينيين، يقوم على الاستيلاء على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وانتزاعها من أصحابها ومالكيها، لصالح ممارسات الإقصاء السكاني للفلسطينيين وسياسة الأبرتهايد التي لم تعد موضع خلاف أو حتى تباين جدي داخل مؤسسات دولة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني.
كذلك عززت هذه الاتجاهات، السياسة الأميركية، التي وقفت عند حدود تطبيقات «صفقة القرن»، وحنثت بوعودها للسلطة الفلسطينية، وأبعدت مشروع استئناف المفاوضات إلى أجل غير منظور، ما وفر للتيارات الصهيونية المتطرفة الفرصة للحديث عن غياب «فرص السلام»، والاتجاه بدلاً من ذلك لفرض الحصار على السلطة الفلسطينية، وبالمقابل الانفتاح تطبيعاً على الحالة العربية.
في ظل هذا كله، وفي ظل تصاعد التعبئة داخل المجتمع الإسرائيلي حول المخاطر النووية التي تحيط بإسرائيل في الإقليم، اتجه المجتمع الإسرائيلي نحو المزيد من التطرف اليميني، في العداء للفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 67، وللفلسطينيين عموماً في أراضي الـ 48، خاصة بعد أن خاض هؤلاء تجربة «ثورة الغضب» في أيار (مايو) 2021 إبّان «معركة القدس»، والتي أكّدت بالنسبة لقطاعات واسعة من الرأي العام اليهودي في البلاد مقولة «الخطر الديمغرافي الفلسطيني».
2- في الوضع الفلسطيني:
اعترف الرئيس الفلسطيني في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2022 بفشل اتفاق أوسلو، وبمسؤولية القيادة الرسمية عن تطبيق قرارات دورات المجلسين الوطني والمركزي منذ العام 2015.
إلا أن القيادة الرسمية مازالت تماطل وتعطل تنفيذ قراراتهما، وبخاصة فك الارتباط بإملاءات اتفاق أوسلو، والتحرر من التزاماته واستحقاقاته السياسية والأمنية والاقتصادية، بما فيها تعليق الاعتراف بدولة الاحتلال، ووقف التنسيق الأمني والانفكاك التدريجي عن الاقتصاد الإسرائيلي، والتحرر من قيود الغلاف الجمركي الموحد، والانتقال إلى استراتيجية وطنية جديدة وبديلة تنهي الرهان على الوعود الأميركية، وعلى استئناف المفاوضات، برعاية الرباعية الدولية، لصالح مؤتمر دولي يرعاه مجلس الأمن بموجب قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، التي تكفل الحقوق الوطنية المشروعة لشعبنا الفلسطيني.
ومازالت القيادة الفلسطينية المتنفذة تصر على سياسة التفرد والهيمنة، بديلاً لسياسة الائتلاف الوطني والشراكة الوطنية، كما تقتضيها قيم ومعايير حركات التحرر الوطني في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي.
لقد برز الانقسام الفلسطيني في حوار الجزائر 11- 13/10/2022 من خلال الخلاف حول البند السابع من «إعلان الجزائر» المتعلق بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وما أدى إليه هذا الخلاف من نسف لهذا البند، الذي عكس بوضوح صعوبة تجاوز الانقسام في المدى المرئي، وإلى استعادة الوحدة الداخلية والعمل بوفاق وطني لإعادة بناء النظام السياسي الذي ما زال يتخبط في أزمته، وفي ظل حالة تفكك سياسي على مستوى النخب الممسكة بزمام الحكم في الضفة والقطاع، تتصاعد حملات القمع الدموي الإسرائيلي بكل مظاهرها، ولا شك أن مجيء حكومة القوى اليمينية المتطرفة والفاشية، سوف يزيد الوضع السياسي والأمني تعقيداً، حيث لا مجال، أي لا مساحة للدور السياسي «للعرب واليسار في إسرائيل»، كما صرح بذلك بنيامين نتنياهو، وحيث «التطبيع العربي – الإسرائيلي» هو الخطوة الضرورية التي تؤدي لاحقاً إلى التسوية مع الفلسطينيين.
في الوقت الذي تشهد فيه الضفة الفلسطينية، بما فيها القدس الشرقية، مقاومة شعبية ناهضة، شكلت واحدة من موجات المقاومة الشعبية التي انطلقت بأساليب ووسائل متعددة منذ العام 2015، وإذا كانت الحركة الشعبية في وضعها الراهن لم تصل بعد، إلى المستوى الذي بلغته في «معركة القدس»، حين شملت عموم مناطق الوطن (48 + 67 +الشتات) إلا أن الملاحظ في الوقت نفسه، أن هذه المقاومة تجاوزت حدود الحراك المحلي، لتشمل بتداعياتها كافة محافظات الضفة، من المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، كما تتميز هذه الموجة من موجات المقاومة الشعبية أنها تشمل مخيمات اللاجئين التي التحمت مع المدن في مواجهة الاحتلال، وتشكيل مجموعات المقاومة المسلحة العابرة للانتماءات الفصائلية كـ«عرين الأسود»، و«كتيبة جنين» وغيرها من المجموعات المسلحة، التي باتت هاجساً رئيسياً لدى سلطات الاحتلال، تحاول أن تقتلعها بالاقتحامات العسكرية للأحياء والمدن والمخيمات، وقد باتت هذه المجموعات، في الوقت نفسه تشكل صداعاً لسلطة الحكم الإداري الذاتي، وموضع إرباك سياسي يضعها أمام استحقاقات متعددة، قد لا تندرج كلها في سياق واحد موحد.
إن ما تشهده الآن الضفة الغربية من «مقاومات» شعبية موزعة بأشكالها المختلفة، في المحافظات، ما هو إلا تأكيد على حالة جماهيرية تجاوزت حدود الرهان على دور ما للسلطة الفلسطينية في تحمل مسؤولياتها، وفي إطلاق مقاومة شعبية بمرجعية الإطار القيادي الموحد.
تقف الحالة الفلسطينية راهناً أمام استحقاق مقاومة شعبية تحتاج إلى توسيع الانخراط فيها، بما يشمل كافة شرائح المجتمع الفلسطيني، كما تحتاج إلى تأطير لقياداتها المحلية، وحماية سياسية عبر تشكيل قيادتها الوطنية الموحدة، التي ترسم لها خططها وتكتيكاتها، وتقودها بفعل وطني جامع، يفتح الأفق لانتفاضة شاملة، وصولاً إلى العصيان الوطني، وهذا يتطلب تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية الشاملة، وتوفير الحماية السياسية والأمنية لها، باعتبارها صيغة حرب التحرير الشعبية لشعبنا الفلسطيني للتحرر من الاحتلال والاستعمار الاستيطاني. وفي هذا الإطار تشكيل القيادات الميدانية للمقاومة الشعبية على أسس ائتلافية، بعيداً عن الحساسيات الحزبية الضيقة، واحترام قيم ومعايير حركات التحرر الوطني.
وفي سياق مبدأ وحدة الساحات وتكامل دور الجبهات لا بد من توفير شكل من أشكال التنسيق النضالي بين الضفة والقطاع، وبذل جهود لإنهاء الانقسام، واعتماد خطط التحرك الشعبي في قطاع غزة، للانخراط في المقاومة الشعبية تبعاً لظروف القطاع.
كما يتطلب التفاعل النشط مع القوى السياسية والحركة الجماهيرية في أراضي الـ 48، وفي هذا الإطار تأتي الدعوة إلى لقاء وطني جامع مع الداخل الفلسطيني للبحث في تشكيل جبهة قومية متحدة في عموم فلسطين التاريخية للتصدي للفاشية في إسرائيل التي تستهدف الشعب الفلسطيني على جانبي «الخط الأخضر».
ويتطلب أيضاً دوراً نشطاً لمخيمات اللاجئين، والجاليات الفلسطينية في الشتات، واجتراح آليات للانخراط في دعم المقاومة الشعبية في الأراضي الفلسطينية، طبقاً لظروف كل تجمع، سياسياً وقانونياً. حيث يشهد الشتات حركة نهوض وتأكيد على محورية دوره النضالي، لكن هذا النهوض ما زالت تشوبه بعض ملامح الضعف، ويحتاج إلى العناية والحماية السياسية، أمر لا تستطيع القيام به، بروح وطنية ائتلافية، سوى مؤسسات «م.ت.ف» واتحاداتها الشعبية، ما يتطلب من هذه المؤسسات والاتحادات، إصلاح أوضاعها، على قواعد الائتلاف التعددي الديمقراطي، بعيداً عن سياسة الهيمنة والتفرد، واستيعاب الآخرين، وبعيداً عن سياسة بناء مؤسسات بعناوين صارخة وهياكل فارغة، على غرار ما هي عليه الآن عديد المؤسسات والاتحادات الشعبية الفلسطينية.
إن الاتحادات الشعبية في «م.ت.ف» ما زالت حبيسة القبضة البيروقراطية ولا تعبر بشكل صحيح عن رأي قواعدها، وتضع نفسها – بشكل عام – في خدمة السياسة الرسمية الموغلة في الرهان على المشاريع السياسية الوهمية بسقفها السياسي الهابط في ظل مسار أوسلو.
إن المهمة النضالية الملقاة على عاتق اللاجئين في المخيمات، وعلى عاتق جالياتنا الفلسطينية، وتنشيط دورها وتطويره أكثر فأكثر، يكون عبر العمل الميداني لإعادة بناء المؤسسات والاتحادات الشعبية من أدنى إلى أعلى، وفرض هذه التجربة صعوداً، بقوة الإلزام الديمقراطي، والتمسك بقرارات اعتماد نظام التمثيل النسبي الكامل في الانتخابات، الذي ينصف كل من ينشط في هذه المؤسسات، ويحفِّز المنافسة الديمقراطية البناءة.
إن الوصول إلى الأهداف يسلط الضوء على الأهمية الفائقة لتنقية الأجواء بين فصائل العمل الوطني والبناء على مبادرة «لم الشمل الفلسطيني» التي يرعاها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون والإعداد لحوار وطني شامل يعيد ترتيب أوضاع النظام السياسي الفلسطيني بمؤسساته في «م.ت.ف» والسلطة الفلسطينية، تأسيساً لمرحلة جديدة، هي مرحلة خوض حرب التحرير، من أجل الاستقلال والتحرر من الاحتلال والاستعمار والاستيطاني.
تعيش «م.ت.ف» حالة من التراجع، خاصة على الصعيد السياسي، وفي إثبات جدارتها في الميدان على تحمل أعباء موقعها التمثيلي الشامل لشعبنا الفلسطيني، فاللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية تعيش حالة من البطالة السياسية، تكتفي بعقد اجتماعات موسمية تصدر عنها بيانات تكرر نفسها، تتجاوزها الأحداث المتسارعة، وتقف في حالة انتظارية على رصيف الحياة السياسية، بفعل إصرار القيادة السياسية على التمسك بمسار أوسلو، وتعطيل خطوات التحرر منه، والانتقال نحو محطات الفعل الوطني الميداني، من خلال البرنامج الوطني، كما رسمت قراراته دورات المجلسين الوطني والمركزي منذ العام 2015.
وفي كل الأحوال ثمة حاجة ملحة لإعادة الاعتبار لهيئات منظمة التحرير الفلسطينية، وخاصة اللجنة التنفيذية صاحبة الولاية السياسية في كل ما يتصل بالشأن السياسي الوطني، وإلى الحاجة الماسة لخارطة طريق وطنية فلسطينية يجري على أساسها تجديد الشرعيات في «م.ت.ف» بالانتخابات إن أمكن، وبالتوافق الوطني حين يتعذر القيام بها.
كما يعيش المجلسان الوطني والمركزي لمنظمة التحرير حالة تغييب عن المشهد السياسي، لإخراجهما من دائرة الفعل والتأثير في معارك الإصلاح السياسي والمؤسساتي والإداري لمنظمة التحرير، فالمجلس الوطني، وبعد أن قرر أن تكون الدورة 23 هي دورة انعقاده الأخيرة بملاكه القائم، ما زال مجهولاً موعد إعادة انتخاب (أو تشكيل) مجلس جديد، وكذلك تقطعت دورات انعقاد المجلس المركزي، الذي يحمل تفويضاً بصلاحيات المجلس الوطني، الذي يفترض أن يعقد دورة مرة كل ثلاثة أشهر، يواكب بها الأحداث وتطوراتها، ويتخذ بشأنها ما تتطلبه الحالة الوطنية.
أما في السلطة الفلسطينية، فما زال المجلس التشريعي مغيباً، في مرحلة أولى بفعل الانقسام- 2007، وفي مرحلة ثانية بعد قرار القيادة الرسمية بحله – 2018، ما عمق إلى حد بعيد سلطة الفرد على حساب المؤسسة، وعمّق حالة الفوضى التي يعيشها النظام السياسي الفلسطيني، وقد أزيحت الحدود بين سلطاته المختلفة، بما فيه السلطة القضائية، وباتت السلطة التنفيذية هي الوحيدة المهيمنة والبديلة لكل السلطات، وهو ما أدى إلى تغيب الديمقراطية في الحياة السياسية، وألحق الضرر بالحريات العامة، وتراجعت إلى حد كبير ثقة الشارع السياسي بالنظام السياسي وجدارته القيادية، في ظل تحولات بنيوية في المجتمع الفلسطيني، بلورت أكثر فأكثر مطامع ومصالح طبقة سياسة حاكمة، لا تقيم وزناً للرأي العام، تعتمد العنصر الخارجي سنداً لوجودها على رأس المؤسسة من جهة، واتساع الشرائح المعارضة للسلطة حتى من داخلها نفسها، بعد أن بات واضحاً الخطر الحقيقي الذي يحدق في القضية الوطنية والتي لا خلاص لها إلا بإعادة بناء النظام السياسي على قاعدة وحدة جميع مكونات الحركة الوطنية، وبما يؤهله لحمل أعباء المسؤولية الوطنية في المواجهة الشاملة والفاصلة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
إن العدو واحد وهو إسرائيل، وأهدافه تطال كل مجموعات وشرائح الشعب الفلسطيني دون تمييز، في رفض الاعتراف بكيانيته السياسية وحقوقه الوطنية المشروعة، ويمارس ضد الشعب الفلسطيني أشكالاً شتَّى من الأعمال العدوانية، طبقاً لخصوصية الحالة والشروط التي تتحكم بها، وهذا يشكل عاملاً موضوعياً في وحدة الساحات وتكامل دور الجبهات.
وإذا كان اتفاق أوسلو والتزاماته قد مزق وحدة الشعب الفلسطيني، بتمزيق وحدة حقوقه، وانحدر بها إلى مستوى الحكم الإداري الذاتي في أراضي الـ 67 + مخطط التوطين والتهجير للاجئين في الشتات، فإن تصاعد النضال الوطني الفلسطيني تجاوز الاتفاق ومعطياته إلى حد كبير، وعكس وحدة الشعب على جانبي «الخط الأخضر» وعَبَّر عن ذلك في أكثر من محطة، كـ «محطة الانتفاضة الثانية» – 2000، حين قدم شعبنا في أراضي الـ48 الشهداء والأسرى، ومحطة «معركة القدس»، حين انفجرت ثورة الغضب في أراضي الـ 48 أيضاً، ضد سياسة التمييز العنصري، القومي، والإنساني والاجتماعي.
ومما لا شك فيه أن ما تحمله الحكومة الإسرائيلية القادمة من مشاريع عدوانية، تمس مصالح شعبنا في كل مكان، بات يملي على الحالة الوطنية أن تبتدع آليات، تنتقل بها من حالة وحدة وتكامل جبهات النضال موضوعياً، إلى الفعل الذاتي، بتوفير آليات نضالية تفتح الآفاق لأشكال من التنسيق في الشعارات، والمواقف والتكتيكات، في إدراك عميق أن معركة الخلاص الوطني، لا بد أن تندفع بكل تحركاتها النضالية في ظل وضع بات شديد الوضوح، يتطلب تجنيد جميع القوى وتطوير الفعل النضالي لعموم أبناء الشعب الفلسطيني.
3- في الأوضاع الدولية وأثرها على القضية الفلسطينية:
يشهد العالم منذ مطلع 2022 تطورات سياسية – باتساع مداها ومفاعيلها – هي الأولى منذ انهيار الاتحاد السوڤييتي 1991، دخلت فيه العلاقات الدولية مرحلة انتقالية، تراجع فيها دور القطب الواحد وهيمنته، ممثلاً بالولايات المتحدة، التي لم تتردد لحظة واحدة في الدفاع عن مصالحها الإمبريالية بكل وسائل الضغط التي تملك، سواء الخشن منها: العسكري والاقتصادي، أو الناعم: الثقافي، القيمي، الدعاوي.
فمع انفجار أزمة أوكرانيا، فرضت الولايات المتحدة الحصار الاقتصادي والإعلامي والسياسي والدبلوماسي على موسكو، وقدمت الدعم الواسع لنظام كييڤ سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، لتحافظ واشنطن على الموقع الذي احتلته على رأس النظام الدولي إثر تفكك الاتحاد السوڤييتي، ولم تكتفِ بتسخير الحلف الأطلسي، بل وعمدت واشنطن إلى بناء تحالفات أخرى في المحيطين الهادي والهندي ضمن استراتيجية تعدد الخيارات الجيوستراتيجية، فتوسعت مناطق التوتر لتنتقل إلى غرب المحيط الهادي في مواجهة الصين، التي تواجه الابتزاز الأميركي ودعم واشنطن النظام الانفصالي في تايوان، إلى جانب كوريا الجنوبية، بدعم مباشر من واشنطن، وقد تصاعد التوتر في عموم هذه المنطقة بفعل السياسات الأميركية المتهورة.
استطاعت موسكو أن تصمد، وانتهجت سياسة ناهضة التقت مع نهوض سياسات مشابهة لدول أخرى تملك من المؤهلات والإمكانيات والطموح ما يسمح لها الدخول إلى معركة إعادة بناء نظام عالمي آخر، لا تكون فيه الولايات المتحدة هي الطاغية سياسياً، ولا تكون عملتها (الدولار) هي العملة المتحكمة في الأسواق العالمية والنظام المصرفي العالمي؛ نظام عالمي آخر أكثر مرونة، يتمتع بدرجة عالية من التعاون والتكامل بين مختلف مراكزه، ويُحل التعددية مكان الأحادية.
إن النتائج السياسية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على الصعيد الكوني تقدم نفسها بصور صارخة؛ وبدأ يظهر جلياً، فالاضطراب في السوق العالمية، عكس نفسه تضخماً في الولايات المتحدة وفي الدول الأوروبية، ما تسبب بإطلاق حركات احتجاج مرشحة للتصاعد في الدول الأوروبية الأكثر نفوذاً، كفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وما فتح الباب للحديث عن تحولات سياسية في الخارطة الحزبية والحكومية لعدد من دول أوروبا الغربية، على غرار ما شهدته إيطاليا من فوز تحالف اليمين بالسلطة، وكما عمدت بعض دول أوروبا الشرقية، الأعضاء في الناتو إلى الهروب بجلدها، كبلغاريا وهنغاريا، وعمدت إلى التفلت من التزاماتها الاقتصادية نحو الاتحاد الأوروبي، وقفزت فوق قرارات حصار موسكو، متسلحة بمبادئ السيادة ومصالح شعوبها.
حتى الولايات المتحدة شكلت الانتخابات النصفية 14/11/2022، صورة فاقعة عن حالة القلق التي سادت أروقة البيت الأبيض، من ردود فعل الناخبين على السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الدعم المفرط لنظام كييڤ، ما انعكس تضخماً في الأسعار وانخفاضاً في القدرة الشرائية للمواطنين، ما حدا بعدد من المحللين الاقتصاديين للتحذير من حالة انكماش اقتصادي قد تشهدها الأسواق الرأسمالية، تشكل مقدمة لحالة ركود، قد تقود إلى أزمة اقتصادية عامة.
أمام هذا الاضطراب، ولجوء الولايات المتحدة إلى الحلول مكان روسيا في تزويد أوروبا بالغاز المكلف على سبيل المثال، بدأت تطل برأسها علامات التململ في التحالف الغربي، عبر عنه الرئيس الفرنسي ماكرون بلوم الرئيس الأميركي بايدن الكيل بمكيالين في علاقته مع أوروبا، كما تمثل ذلك أيضاً في التململ الغربي من حجم الدعم الذي وفرته حكوماتها لكييڤ، على حساب مصالح شعوبها، ما دعا أكثر من طرف، مثل فرنسا وألمانيا وغيرها، إلى المطالبة بوضع حد للحرب في أوكرانيا بدعوة موسكو وكييڤ إلى طاولة المفاوضات، وهي الدعوة التي انضمّت إليها واشنطن مؤخراً. وفي هذا الإطار بدأت إدارة بايدن تشعر بوطأة أزمة أوكرانيا على نفوذها، ونبَّهت كييڤ أن مساعداتها لن تكون بعد اليوم «شيك على بياض»، ما يعني أن أزمة النظام العالمي بدأت تؤشر لمحطة جديدة، من علاماتها تراجع ثقة أوروبا بالولايات المتحدة كحليف.
ومما لا شك فيه أن أزمة النظام العالمي، التي بدأت تتبدى ملامحها في الأفق عكست نفسها على القضية الفلسطينية بأشكال مختلفة، لعل من بين أهمها ما يلي:
إن العلاقات الحالية على المستوى الدولي، لم تعد تشكل أساساً صالحاً لبقاء الرباعية الدولية كراعية لعملية السلام في الصراع العربي الإسرائيلي، ولا أي رباعية أخرى على غرار رباعية ميونيخ (فرنسا + المانيا + مصر + الأردن)، وتراجع الرهان الفلسطيني الرسمي غير المحدود على دور الولايات المتحدة في رسم تسوية للنزاع مع إسرائيل.
ابتعدت واشنطن عن هموم القضية الفلسطينية، فأحالت ملفاتها إلى أطراف عربية وإقليمية، لتدير أزمة القضية بحلول ترقيعية، لا تتجاوز حدود «الحل الاقتصادي» الاستسلامي، وحدود حل «الأمن مقابل الغذاء». وهذا ما لم تسلم به القيادة الرسمية الفلسطينية التي ما زالت عاجزة عن استخلاص الدروس من التطورات الدولية، وما زالت عند محطة التمسك بالراعي الأميركي، مدخلاً للحل في المنطقة، رغم ادعاءاتها أنها لم تعد ترى في الولايات المتحدة ذلك «الراعي النزيه والمحايد».
انشغل مجلس الأمن بأزمة أوكرانيا وأزمة العلاقات العالمية، إنما بقيت الجمعية العامة للأمم المتحدة، و«لجنة حقوق الإنسان وتصفية الاستعمار»، ومحكمة لاهاي، تهتم بالقضية الفلسطينية، أجمعت هذه الهيئات على اعتبار الاحتلال للأرض الفلسطينية غير شرعي ويعطل حق الفلسطينيين في تقرير المصير، مما ينسف كل التبريرات التي تبني عليها إسرائيل مواصلة احتلالها، وتشكل سلاحاً فعالاً في معركة التدويل التي تخوضها منظمة التحرير، فضلاً عن معركة المقاطعة B.D.S التي تسعى إسرائيل أن تقطع طريقها بكل الأساليب المتاحة.
4-في انعكاس الأوضاع الدولية على الحالة العربية والإقليمية:
يشهد العالم، كما تشهد المنطقة تحولات سياسية ذات طابع استراتيجي، ستكون لها انعكاساتها على طبيعة العلاقات الدولية، والنظام العالمي، وموازين القوى، الأمر الذي دفع القيادات السياسية إلى إجراء مراجعات لسياساتها وطبيعة علاقاتها الخارجية، لقد أدت التطورات الدولية، إلى ضعف ثقة دول المشرق العربي وبخاصة الخليجية، بسياسة الإدارة الأميركية، تجلى ذلك في نتائج قمة جدة 4/7/2022 بمشاركة الرئيس الأميركي، حين فشلت الدعوات لإقامة ناتو عربي، في مدار الناتو الأطلسي، كما تجلى بالانفتاح الخليجي على روسيا الاتحادية، وعلى الصين الشعبية وتقدم التنسيق بين السعودية وروسيا في منظمة أوبك، ما اعتبر تحدياً للولايات المتحدة، كذلك تبدى ضعف الثقة بالولايات المتحدة في موقف القمة العربية في الجزائر 1/11/2022 من الأحداث في أوكرانيا، إذ لم تقدم موقفاً يساند سياسات الولايات المتحدة في حصارها الاقتصادي والسياسي لموسكو، بل عَبَّرت عن سياسة تنطلق من تغليب اعتبارات المصالح العربية على أية مصالح أخرى، بما في ذلك إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية من خلال إبراز مركزيتها، في ظل تلكؤ الولايات المتحدة وتجاهلها لقضايا الشرق الأوسط.
في وقت ما زالت فيه القيادة السياسية الرسمية الفلسطينية تعيش حالة إرباك وارتباك، تعصف بها رياح التغيير، وهي عاجزة عن امتلاك رؤية جديدة للمرحلة القادمة، وتتعامى عن قرارات المجالس الوطنية والمركزية، وتتجاهل ما يجري في الأراضي المحتلة من تداعيات حقيقية تؤسس لتطورات حاسمة قد لا يطول الزمن قبل أن ترى النور، وتبقي على رهاناتها السياسية، رغم إدراكها العميق أنها رهانات بلا رصيد.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط