ماريا إيفانوفا : قصة قصيرة .. لأنطون تشيخوف

ماريا إيفانوفا : قصة قصيرة

لأنطون تشيخوف

( أهمية هذه القصة تكمن في كونها تُثير طبيعة العلاقة الشائكة بين القارئ والكاتب وكذلك أهمية وجدية المادة أو مواضيع الكتابة ذاتها ــ المترجم ) ..

ترجمة مهدي قاسم ــ عن الهنغارية من المجموعة القصصية لتشيخوف المعنونة ب ” هاوية ”

ماريا إيفانوفا أودنوشتشكينا ، امرأة شابة تبلغ من العمر حوالي ثلاثة وعشرين عاما ، تجلس على أريكة مبطنة بمخمل بنفسجي اللون في صالة مؤثثة بصورة فاخرة ..

ــ يا لها من بداية نمطية مقوّلبة ! ــ صاح القارئ اللطيف ــ يبدأون هؤلاء السادة دوما مع صالونات مؤثثة بشكل فاخر ! .. حتى يفقد الإنسان رغبته في القراءة ! .

عذرا.. سأواصل : يقف أمام السيدة ، شاب حزين و شاحب الوجه ، في السن السادس والعشرين .

ــ تفضل .. بدأ من جديد ! ــ صاح القارئ العزيز وأردف ـ عرفت أنا !…أنه شاب حتما ، وفي عمر السادسة والعشرين !. حسنا و بعد ؟ ، أكاد أن أعرف التتمة مسبقا : فالرجل يتوسل من أجل قليل من الرومانسية و الحب ، بينما السيدة تطلب منه بصورة مبتذلة اساور يد ، ولكن من الممكن أن يكون العكس هو الصحيح أيضا ، السيدة هي التي تتوق إلى شيء من رومانسية ، بينما الرجل الشاب … من الأفضل أن لا أقرأ ..

مع ذلك سأستمر:

في أثناء إلقاء الفتى الشاب نظرات التوله إلى السيدة بشغف ، فإذا به يهمس :

ـــ أحبكِ.. أنت امرأة رائعة .. لا زلتُ أحبكِ إلى الآن ، و حتى عندما يكون القبر باردا حولنا .

هنا يفقد القارئ العزيز صوابه تماما وينفجر ساخطا :

ــ ليأخذ الشيطان كل هذا ! ، مع ماريا إيفانوفا التي تملأ القبر برودة ، مع صالونات مؤثثة بشكل فاخر، و مع كل حماقات مماثلة التي يحشون بها أذهان جمهور القراء !.

ربما يستاء القارئ العزيز ، وهوعلى حق ، أو ربما لا ؟ … بالضبط هذه هي سمة عصرنا ، من حيث إن الإنسان لا يستطيع التأكد ، إطلاقا ، مَن هو البريء ومن هو المذنب .. حتى إن المحلفين القضاة الذين يصدرون أحكاما بحق لصوص صغار سيئ الحظ ، لا يعرفون على وجه اليقين من هو المذنب : هل هذا الذي قام بارتكاب السرقة ، أم الأوراق النقدية ، لكونها كانت مرمية هناك ؟، حيث ما كان ينبغي أن تكون هناك ، أو ربما هم فقط ، أي القضاة أنفسهم مذنبون ، وذلك و بكل بساطة ، لهذا هم يعدون مذنبين ، لكونهم قد جاءوا إلى العالم ؟ ، حقيقة لم يعد الإنسان يفهم شيئا في هذه الأرض .

ولكن إذا كنتَ على الحق أيضا عزيزي القارئ ، فعندها حتى أنا لا أعتبر نفسي مذنبا أيضا . هل تظن أن قصتي مملة وغير مثيرة للاهتمام ؟ . فلنفترض أن الأمر كذلك ، وفعلا أكون قد ارتكبتُ خطأ ما … ولكن على الأقل خذ الظروف المخففة بنظر الاعتبار .

هل حقا سأكتبُ قصة مفيدة ومثيرة للاهتمام ، إذا كان مزاجي سيئا ، و تعذبني الحمى منذ أسبوعين ؟..

ــ لا تكتب ، إذا كنتَ تعاني من السخونة .

ــ هكذا إذن … حسنا .. و لكي لا نضيع الكلام هباء لفترة طويلة ، فكّر إنه حينما عندي سخونة و مزاجي سيء ، و ثمة كاتب آخر هو أيضا مريض ، بينما كاتب ثالث زوجته عصبية ،علاوة على أنها تعاني من ألم الأسنان أيضا ، بينما كاتب رابع يعاني من كآبة شديدة ، فهل علينا نحن الكتّاب الأربعة نترك العمل ؟!.

ثم كيف تتكرم بملئ أعمدة وزوايا الجرائد والمجلات ، ها ؟ .. أم أراك ستحاول أن تملئها بتلك الأعمال الفنية التي يرسلها القراء في كل يوم مبارك ، و بأعداد كبيرة ، إلى هيئة تحريرنا ؟ علما أنه من النادر جدا ، و بعد عمل مضني وشاق ، نتمكن من اصطياد جوهرة واحدة ، في زحمة وركام تلك الأكياس المليئة و ثقيلة الوزن .. بينما

نحن لسنا كتّابا هواة إنما كّتابا محترفين ، بل عمال المياومة الكادحين في حقول الأدب .. فنحن جميعا بشر.. بشر مثلك .. مثل شقيقك العزيز .. مثل أخت زوجتك .. فنحن أيضا عندنا نفس الأعصاب التي عندك .. ونحن أيضا عجنّونا من نفس المادة : نحن أيضا يعذبنا نفس الشيء الذي يعذبك .. ولدينا حصتنا من كآبة بحيث أنها فريدة من نوعها ، أكثر مما لنا من مسرة .. وإذا أردنا أن لا نعمل فنستطيع العثور دوما على أية ذريعة نشاء .. صدقني .. في كل يوم .. هذا .. إذا قبلنا بنصيحتكم بأن : ــ ” لا تكتب ” ــ .. ولكن إذا سلمّنا أنفسنا للتعب ، للمزاج السيء ، أو بقشعريرة الحمى ، عندها ــ أن شئتَ ــ سيتوقف و ينتهي كل أدب عصرنا الحالي ..

بينما هذا ، يا عزيزي القارئ ، سوف لن يتوقف حتى ولو ليوم واحد.. حتى لو رأيتموه تافها و رماديا أيضا .. ولو إذا لا يجعلكم تنفجرون قهقهة .. لا يثير عندكم شعورا بالفرح أو إثارة للغضب ، ــ مع ذلك فهو موجود ــ ويفي بالغرض المطلوب منه .. لإنه مهم .. توجد ثمة حاجة إليه … ولكن إذا نحن غادرنا ــ ولو لدقيقة ، وتركنا الساحة ، سيحل محلنا على أثر ، وفورا ، مهرجون من ذوي قبعات مزدانة بأجراس ، معلمون سيئون ، محامون رديئون ، طبعا ، ضباط عسكريون أيضا ، الذين كأنما يقومون بترديد إصدار الأوامر فقط : ــ ” يسار يمين ! يسار يمين ! ” ، ثم يغمروننا بقصص مغامراتهم العاطفية الحمقاء ..

إذن لهذا السبب ينبغي أن أكتب . رغما على تعكر المزاج وارتفاع درجة السخونة …أجل يجب و بلا هوادة ، وكل ما في وسعي ، و بمقدار ما تستطيعه إمكانياتي ، إذ إن عددنا قليل ، يمكن نحسبهم بعدد أصابعنا ، ومن حيث يوجد أناس قليلون فإن الإنسان لا يطلب إجازة ، حتى ولو لفترة قصيرة ، غير ممكن ، ولا يليق أصلا ..

ـــ لماذا لا تختار موضوعا جديا على الأقل ؟ ، إذ لا يوجد معنى كثير لهذه ال ماريا إيفانوفنا ، أليس كذلك ؟ ، أم لعل قليلة حولنا ظواهر أو أسئلة كافية التي …..

ــ أجل أيها القارئ العزيز ، كثيرة هي الظواهر و كذلك الأسئلة أيضا ، ولكن حدد اسم ما تحتاجه في حقيقة الأمر ، إذا أنت مستاء إلى هذه الدرجة ، فقلّ لي بالضبط ، و إلى حد أستطيع أن أقتنع بمصداقيته ، من إنك فعلا إنسان جاد ، وأن حياتك أكثر جدية كذلك ، تَحدّث بوضوح ، كن حاسما ، و إلا فسوف أجد نفسي أفكر بأن تلك الظواهر و الأسئلة غير موجودة على الإطلاق ، التي سبق إنك قد ذكرتها ، و أنت بكل بساطة ، لست سوى شابا صغيرا و لطيفا ، الذي يحلو له ، في غمرة استغراقه في اللاشيء أن يثرثر ــ أحيانا ــ عن أشياء جدية .

ولكن الآن ، قد آن الأوان في أن أنهي هذه القصة :

وقف الشاب لفترة طويلة أمام السيدة الرائعة ، بعد ذلك نزع سترته ، و خلع جزمته ، و أخذ يهمس نحوها هكذا كأنما مبتهلا :

ــ بارك الله بك حتى يوم الغد !.

ثم استلقى بكامل طوله على الأريكة ، متغطيا ببطانية من قطيفة .

ــ في حضور سيدة ؟ــ سأل القارئ العزيز مصدوما ــ ولكن هذه حماقة ، هذا شيء فظيع ، بل شائن أيضا ! ، أطلبوا الشرطة ، نادوا رقيبا !.

قف لدقيقة واحدة فقط أيها القارئ العزيز ، الصارم ، حاد الذكاء ، ولا تعّجل الأمور إلى هذا الحد : إذ فما هي هذه السيدة سوى لوحة مرسومة بألوان زيتية ، تتدلى فوق الأريكة بالصالة المؤثثة بصورة فاخرة ، تفضل ! ، بعد كل هذا ، يمكنك الآن أن تستاء قدر ما يشاء وحسب مزاجك .

ولكن كيف تتحمل الورقة شيئا مثل هذا ؟ ، في أن تظهر للعلن حماقة تشبه ماريا إيفانوفا ؟، ومن المؤكد إن سبب هذا يرجع إلى عدم وجود مادة قيمة تحت التصرف ، هذا واضح من تلقاء نفسه ..أجلس عزيزي القارئ أسرع ما تستطيع .. لتعبّر بشكل بارع عن أفكارك العميقة ..أكتب ثلاث وريقات كاملة و مليئة .. ثم أرسلها إلى إحدى هيئات التحرير .. أجلس بأسرع ما يمكن .. أكتب .. و أكتب .. وأرسلها بأسرع ما تستطيع …

ثم سيقومون هم بإعادته إليك .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here