من ثنايا حياتي الماضية ، بزغت ببالي هذه الخاطرة !

تلقيت من صديقي الدكتور صادق السامرائي الرسالة التالية مشكورا وهذا نصها :

(ارجو ان تكتب عن تجربتك الابداعية المتوهجة والتي تمتطي قرنا من الزمان فما احوج الايام لشاهد تبارى مع الاحلام، دام نشاطك المقدام، اكتب فالقلم امام)

من ثنايا حياتي الماضية ، بزغت ببالي هذه الخاطرة !

بقلم الدكتور رضا العطار

هذه الحلقة عزيزة علي، حدثت لي في الماضي البعيد. وقد الهبت ذاكرتي ان اسمبها :

( سوي زين وذبً بالشط ) .

عام 1954 كنت طالبا في الكلية الطبية لجامعة برلين في المانيا, وكان التنقل بين قاعات الدرس في حرم الجامعة يتطلب المشي السريع, فمن يصل متأخرا كان من الصعوبة ان يحصل على مقعد في قاعة الدرس حيث ان عدد الطلاب يومذاك كان يفوق عدد المقاعد.

كان بين الطلاب طالبة تعاني من السمنة المفرطة يثقل عليها الجري السريع, وبالتالي يتعذر عليها اللحاق بزملائها. فكانت بحكم الظروف تأتي في الأخر، وتقف طوال ساعة الدرس واقفة، وقد راق لي ان احجز لها مقعدا بجواري. وبهذه الوسيلة تم التعارف بيننا. ثم بفعل التكرار ومرور الوقت نشأ بيننا نوع من المودة, انها كانت مودة صادقة, اتسمت بالبرائة العراقية, لكنها كانت وطيدة, ووصل الأمر بنا، ان احدنا اصبح لا يغادر ظل الأخر الا بعد انتهاء الدوام.

وعند انتهاء الفصل الدراسي، فاجأتني الزميلة عن رغبتها في دعوتي الى دارها, فسألتها على الفور: وماذا تبتغين من زيارتي الى داركِ ؟ أجابت : (لكي اعرفك على زوجي، فقد حدثته عنك كثيرا, انه طبيب عيون ذائع الصيت. فلو رغبت بذلك, ارجو ان يكون قدومك الينا يوم الأحد القادم ظهرا، كي نتناول طعام الغذاء سوية, وسوف يكون لك مع زوجي في عطلته الأسبوعية متسعا من الوقت للحديث, فكان لها ما ارادت.

وصلت دارها في الوقت المحدد، حاملا باقة من الزهور. كان للدار موقع مرموق وقد بُني على الطراز الريفي، واحيطت جهاته الاربعة بحدائق غناء، متوجة بشجيرات الورد الجميل.

استقبلتني السيدة عند مدخل الدار مرحبة وقادتني الى الداخل ونادت على زوجها وقالت: اعرفك على زميلي رضا العطار, رحب بي الزوج ترحيبا حارا وسأل عن حالي وطلب مني الجلوس، ثم اخذ مجلسه بجانبي و بدأ يتحدث معي عن نشاطي الدراسي.

كانت صالة الجلوس مزدانة بالأرائك والرياش متناثرة بنسق ينم عن رقي في الذوق مثلما زينت اركانها الأربعة بقطع أثرية واخرى فنية نادرة. اما الجدران فقد ازدانت بلوحات زيتية رائعة تعكس جمال الطبيعة الزاهر.

كان للأسرة اربعة اطفال. يجمعهم جمال صورة الأم وديناميكية حركات الأب وهم في عمر الزهور. كان الدفئ الاسري عندهم يشع حبورا، وكم سررت لما لمست بين اعضاء هذه الاسرة من مشاعر الألفة المتسمة بالظرف والرقة, وكم طربت كلما تأملت الاطفال وهم في طراوة لهوهم ولعبهم، متنعمين بعاطفة الأم في حبها وحنانها, فجو الحميمية الذي غُمرتُ به كان يذكرني بأهلي في العراق، يزيد اشتياقي لهم. ومن جهة ثانية كانت المشاهد المحببة داخل هذه الاسرة تلهيني وتنسيني معاناة الغربة الى حد ما، خاصة بعدما اعلمتني الأم بان اطفالها اصبحوا يتطلعون الى رؤيتي، ينتظرون قدومي اليهم بفارغ الصبر، حيث كنت اداعبهم، اثير البهجة و الفرح فيهم. ومما كان يشجعني على الذهاب اليهم قرب محل سكناي عن زقاق دارهم.

وفي عصرية احد ايام الاحاد، كنت مع الزوجين جالسين في الحديقة الخلفية نشرب الشاي، وخلال تلك اللحظات الهانئة فوجئت بسماع صوت الأذان يعلوا من مأذنة الجامع الاسلامي المجاور للدار، فشعرت بالغبطة، لقد ذكرني ذلك الصوت بالعراق العزيز. كان هو الجامع الوحيد في برلين التي كان تعداد نفوسها انذاك زهاء عشرة ملايين نسمة.

لم يمض وقت طويل واذا بي استلم في البريد دعوة لزيارة الجامع المذكور. والمناسبة كانت يوم عاشوراء. فذهبت الى هناك مدفوعا بحب الفضول.

وصلت الى الجامع في الوقت المحدد ، وعند مدخل الباب أستقبلني شاب الماني عرًف نفسه انه امام الجامع مرحبا بي. كان الجامع صغيرا في حجمه، مكتظا بحوالي سبعين عائلة المانية مسلمة، يرتدي معظم نسائهم اجمل ملابسهن وكأنهن ذاهبات الى حفلة ساهرة، مرحات مسرورات،

ومن نافل القول ان اذكر ان هذه العوائل كانت خلال سنوات الحرب العالمية الثانية محرومات من الاتصال بالعالم الخارجي، فلن تحظى بالخبرة والاطلاع الكافي على عادات وتقاليد الاخرين.

وفي زحمة الافكار فوجئت بامام الجامع يطلب مني ان اتلو عليهم آيات من القرآن الكريم، فوجدت نفسي محاصرا، ولم اجد منفذا للآعتذار، وقبل ان ابدأ بالتلاوة، اوضحت لجمع الحضور بان زي النساء القريب الى التبرج يتنافى مع مراسيم مناسبة عاشوراء الحزينة. يرتدي المسلمون فيه السواد تضامنا مع اليوم الحزين.

بدأت اتلو من القرآن الكريم بعض الأيات من سورة ياسين. كان الامام الالماني قد تلقى تعليمه الديني في الأزهر الشريف بالقاهرة, كان يترجم ما يسمعه من الذكر الحكيم.

وقبل ان اغادر، شكري امام الجامع على الحضور كثيرا وناشدني بالحاح ان ازوده بنسخة من القرآن الكريم مترجم الى اللغة الالمانية، فأوعته خيرا.

لم تستمر علاقتي مع الاسرة الكريمة طويلا، بل وهنت مع الايام، خاصة بعد ان انتقلتُ الى القطاع الشرقي لمدينة برلين لدخول دورة الاختصاص في طب وجراحة العيون، اكملتها بدورة فوق التخصص في جراحة ترقيع القرنية لسنة والتي انتهت مع نهاية عام 1964 وهي السنة التي رجعت فيها الى العراق.

اما العلاقة مع العائلة الكريمة فقد استمرت عبر ارسال كارت معايدة في عيد راس السنة الميلادية كل عام، مهنًئا اياهم بهذه المناسبة السعيدة.

في عام 1980 قمت مع افراد اسرتي بسفرة سياحية الى اوربا, مررت خلالها على مدينة برلين، عسى ان اجد من بقى من اصدقاء الشباب الذين عاصرتهم سنوات طوال. لكنني لم اكن اتوقع ان يصل خبر قدومي الى علم السيدة زميلتي د. نورا فخابرتني لتحيني وتدعوني الى دارها للعشاء, معززة رغبتها في رؤية افراد اسرتي, فمضينا اليهم حاملين الورد. وبعد ان جرى التعارف بين افراد الأسرتين, وبودلت عبارات المجاملة, اجلسونا في صالة العائلة لا في قاعة الضيوف, وهذه لها دلالتها. وقد لاحظت باقات الورد، وقد تناثرت على اطراف الصالة ترحيبا بمجيئنا, كان سؤالي الاول عن أخبار اطفالهم, فأستبشرتنا السيدة مغتبطة بأن اربعتهم اصبحوا دكاترة وان اكبرهم سنا امتهن حرفة ابيها في طبابة العيون, ففرحت كثيرا.

وعندما سألتها عن حال الزوج قالت : انه قد تقاعد عن العمل, تراه جالس هناك فدنوت منه وسلمت عليه, وعندما تأملته عن كثب، بان لي ان اوراق الخريف قد تساقطت من حوله, واصبح الرجل عجوزا, عجيب امر هذا العمر ؟ .

ثم توجهت الدكتوة الينا وقالت : العشاء جاهز، تفضلوا ! . . .

كانت مائدة الطعام تزخر بأشهى انواع الطعام متوجة بمركة البامية العراقية. وعندما ابدت زوجتي السيدة سميرة اعجابها في جودة الطهي، قالت الدكتورة:

(انها ضمن الاكلات الشعبية التي علمني اياها زوجكم المحترم)

وظهرت اكواب الشاي بعد العشاء, كانت الوجوه تسطع بمشاعر الود، وقد اخذت الصور وجرى تبادل الهدايا بين النساء, وقدمت لي الدكتورة مجموعة فاخرة من اربطة العنق، شعرت خلال تلك اللحظات كيف ان العلاقات الانسانية في الاوساط الراقية تتجلى في اسمى معانيها. لقد اثار الخلق الرفيع للسيدة المشاعرالنبيلة لدى زوجتي سميرة، فأشارت على بنتي الانسة مها ان تجلس الى بيانو الأسرة، تسمع الحضور بعض الموسيقى. فانطلقت مها تعزف السوناتا لبيتهوفن، كان عمرها يومذاك عشر سنوات..

و اثناء استماعي للعزف الموسيقي, رحت في شبه إغماءة. وبرقت في خيالي مجريات الماضي البعيد، اليوم الذي حجزت فيه للزميلة مقعدا بجانبي في قاعة الدرس، كان ذلك قبل ربع قرن من الزمن حتى انتهت الى ما نحن عليه اليوم، مجتمعين في هذا اللقاء التاريخي. وعندما صحوت على اصداء التصفيق, تذكرت الأية الكريمة

( ومن يعمل مثقال ذرة خير يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) صدق الله العظيم

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here