نزلاء الواقع المخفي

حمزة الحسن

ـــ ماذا سيحدث لو قمنا بقلب التقديرات المعتادة والعادات المقررة؟ ثم ماذا؟
* نيتشة، انسان مفرط في انسانيته.

فعلا ماذا سنخسر؟ عود ثقاب لن ينكسر. حصان سباق لن يكبو. حامل لن تجهض. حتى غبار زجاج السيارات يبقى على حاله. عملية تنظيف كما يحدث للمنازل. لم الخوف؟ أم انها دجاجة برترولت بريخت التي تخيلت دائرة الطباشير حولها جدراناً عالية؟.
في دول ومجتمعات القمع يكون المجتمع
أشبه بعمارة من طوابق كعمارة علاء الاسواني
في روايته” عمارة يعقوبيان”
المنتحلة من رواية” عمارة نيس” للروائي الفرنسي ميشيل بوتور
من كتاب الرواية الجديدة
كما أعلن ميشيل نفسه في القاهرة في محاضرة.
الذين في الطابق الاول يعرفون الذين في
في الطابق الثاني بالوجه والملامح والتفاصيل الصغيرة،
وهؤلاء يعرفون نزلاء الطابق الثالث والرابع والخ بالطريقة نفسها،
لكن كل نزلاء العمارة يختبئون عقليا ونفسيا في سراديب وانفاق نفسية
سرية للتحاشي او الخوف،
وجميع هؤلاء النزلاء ينتقلون حالاً وحسب الظرف من شخصية إلى أخرى،
أي تعدد الشخصيات الذي يصل داخل الشخص عشرات وحتى المئات،
بل آلاف الشخصيات في الفرد الواحد،
لأن القمع والخوف يشوه حياة الانسان دون أن يدري،
وتعدد الشخصيات في الفرد يؤدي الى اضطراب الهوية الفردية والهوية العامة،
الشعور أنه لا ينتمي لذاته ولا الى جماعة،
وهو ملطوش وملصق وليس متجذرا بالهويتين،
ديك يتخيل نفسه نسراً وانقاض يتخيل نفسه حديقة وقناع يحلم أنه وجه حقيقي.
لماذا هذه الأيام كثير من جرائم القتل والسرقة تحدث من ” وسط قريب” ، من الجار أو الأقارب أو من صديق أو حتى عضو عائلي، بقسوة شرسة.، في حين العلاج الوحيد هو الشرطة والسجن؟ والسؤال الغائب: كيف عاش هؤلاء لسنوات بأقنعة لأن صناعة قاتل ومجرم لا تحدث فجأة، مما يثبت أن الواقع العلني للافراد ليس دائما هو الواقع الحقيقي المخفي والصادم.
الأغرب أن الانتقال من شخصية إلى أخرى
يتم بسلاسة وتلقائية ، حسب علماء النفس، بلا شعور ولا توعك،
وكل شخصية لها معاييرها الخاصة وعلاقاتها الخاصة ونظرتها للحياة،
كما لو أنك تجلس وتتحدث مع جمهور في فرد واحد،
ولا تدهش إذا انتقل أحد هؤلاء، حالاً، خارج سياق الحديث،
وخارج ما تعرفه عنه وتبنى معايير مختلفة عن شخصيته قبل لحظات،
لأنه هو نفسه لا يدري.
الجميع يعيشون في مخبأ داخلي سري.
عندما لا يستطيع الانسان التعبير عن مشاعره وأفكاره،
ينزل للقيعان السرية لبناء عالم تخيلي،
هناك يعمل اللاوعي على تحقيق كل ما فشل الوعي
في تحقيقه من أحلام سوية وبسيطة وعادلة،
بل يذهب أبعد من ذلك لتحقيق بطولات خارقة،
وعمليات انتقام أسطورية من أعداء النهار،
لكنه في الصباح يكتشف بؤسه وعجزه أمام أول عابر
طريق أو جار لكي تبدأ لعبة المراوغة وتعدد اللغة وتعدد الشخصيات
مع عدد الذين يلتقي بهم للتحاشي والتجنب.
تشظي اللغة يحوّل الانسان الى أنقاض لأن اللغة كيان عضوي ونسيج حساس وليست إطاراً،
بصعوبة يعرف من هو لأنه يقول شيئاً ويفكر بآخر ويفعل عكس الاثنين،
ويسحق البنية العضوية للذات ويخلق هوية مزورة للتجنب،
أو هوية مصنعة عامة تصلح للجميع.
بهذا الطريقة يصنع الخوف الناس،
حتى مطاردة الاحلام الخاصة السرية ومداهمة القيعان العميقة آخر الملاذات،
آخر المعاقل السرية للتنفيس،
فإلى أين المفر؟
هذه المهمة قد تقوم بها سلطة أو حتى فرد واحد في الأسرة،
والنتائج نفسها في كل الأحوال،
لكن ماذا يحدث في أعماق الانسان في هذه الحالة عندما يعيش في مخبأ
نفسي سري؟
النتيجة التشظي النفسي والمرض والقنوط والدونية والخوف المزمن
والتشوهات الفكرية التي تظهر عكس حقيقتها في حيل
نفسية متنكرة ومشاعر توقع الخطر وهو أسوأ من الخطر نفسه،
وتقوم الاحلام السرية بالتعويض عن واقع شرس،
وعندها تبدأ أخطر عملية في الذات وهي الانتفاخ المرضي،
لضخامة الأحلام والأوهام،
وهذه الذات المنتفخة المريضة تجد فرصتها في انهيار النظام،
وزوال المكبس والكابح كما حدث بعد الاحتلال.
يخرج السر الى العلن ويتحول المكبوت الى الفعل،
تصبح شهوة الانتقام السرية علنية،
يُصدم الناس من مظهر الجيران والأصدقاء الجديد،
وهو ليس جديداً في الحقيقة بل كانوا متنكرين ومختفين
في قيعان نفسية عميقة، في الطابق الأرضي من العمارة،
لم يعد هناك اللاوعي القديم بل وحدها الذات المنتفخة والاحلام السرية
تحقق وجودها على بشر حطام وعزل،
وهي فرصة الضحية للتعويض عن ذل معتق
لأن التعويض والانتقام الحقيقي من الماضي
هو بناء دولة عادلة،
وليست دولة تشبه أحلام القبو النفسي السري.
هل نحن اليوم في الزمن السابق نفسه؟
بعض نزلاء العمارة القديمة تلاشوا واختفوا أو هربوا لإنهيار سلطة العمارة
وجاء نزلاء جدد واحتلوا الطوابق نفسها بعناوين وأسماء وشعارات مختلفة.،
وكل فرد مجمع أفراد والدورة نفسها.
مات اللاوعي القديم مخزن الاحلام المقموعة
وصار وعياً وخرج الوحش وتحول الى افعال،
لم تعد هناك الأحلام السرية لأن المواطن يحقق ما يريد
على أرض الواقع بطرق للتعويض غير سوية.
في هذه الحالة سنكون أمام جماعة في فرد ومواطن في شخصيات ومجتمعات عدة
بأقنعة ومواطن السلطة و المواطن الآخر المقصي،
وأمام مجتمع السلطة والاجهزة والحواشي والاتباع،
والمجتمع المعزول والمقصي وهو الأغلبية الساحقة ومجتمع الرفض ومجتمع الموالاة
ويصبح الكلام عن” المجتمع” كنسيج موحد ضرباً من الوهم والغباء.
لكي نعود ثانية الى دورة تكرارية للقبو السري،
أي الاجترار وتشظي اللغة والاختباء والتربص في قيعان نفسية.
ليس صدام حسين وحده من إختبأ في حفرة أو مخبأ،
نحن جميعاً نختبئ بحفر فكرية ونفسية وسياسية أعمق بمرح وثقة،
ولا يحتاج اكتشاف ذلك غير لحظة صدق ومكاشفة مع النفس.
هل تستطيع أن تكون كما تريد أو كما يراد؟
هل أنا واحد مع الناس ومع الذات؟
هل أقول شيئاً وأفكر وأفعل عكسه؟
نحن في هذه الحالة أمام أكثر من شعب وأكثر من مواطن،
وأكثر من واقع وحتى في المنزل الواحد لا يعرف نزلاء هذه الغرفة عالم
نزلاء الغرفة المجاورة بل وحتى نزلاء الغرفة الواحدة إلا السطح الظاهر والقناع.
اذا كان الكون المادي كله كما يؤكد عالم الفيزياء كارلو روفيلي في كتابه” الواقع ليس كما نراه” لا يتطابق مظهره مع حقيقته وهناك قوانين تتحكم به لا نراها،
فكيف يمكن توقع أن الواقع الإجتماعي والسياسي الاشد اضطرايا وتحولاً يظهران على حقيقتهما وهما من طبقات وعقائد ومشاعر وأهواء وقوى متناقضة ومتعادية ومتصارعة
وأكثر عناصر الواقع غموضاً وتغيرا واختفاء لمجرد كوننا نراهما بالعين المجردة كما يتباهى بعض السذج بعبارة: نحن نرى الواقع أمامنا؟
واحدة من أسوأ ما أنتجته الثقافة السياسية السائدة هو التسطيح: تسطيح الوعي والواقع واختزالهما بمقولات غبية وتسطيح الانسان كما يظهر مع انه طبقات غاطسة في قيعان عميقة تستعصي على الانسان نفسه وعلى الخبراء والعلماء في تجارب مختبرية وفحوصات ولقاءات والخ.
كيف يمكن القول بتلقائية واستسهال إن هذا هو” الواقع” وهذه هي” الحقيقة”؟ من أية زاوية منظور لهذا الواقع ، وعن أية حقيقة نتحدث بلغة عمومية؟ حقائق الفيزياء الثابتة نسبياً تختلف عن حقائق المجتمع والسياسة والثقافة المتغيرة والمختلفة، وحقائق الرياضيات ليست هي حقائق العلوم الاجتماعية والنفسية، وحقائق التاريخ ليست حقائق الحاضر ، وحتى مفهوم الحقيقة يختلف من ثقافة الى أخرى ومن شخص الى اخر في أسرة واحدة، فكيف هذا الاختزال المطلق والتأطير السطحي ؟ ومن أين تنبع هذه الثقة العمياء؟ وفي الوقت نفسه لماذا العالِم متشكك والأحمق واثق بتعبير برتراند راسل؟
في السياسة خاصة ليست هناك حقائق بل زوايا نظر ومصالح وصفقات وتسويات واتفاقات وحتى هذه تختلف من جماعة الى أخرى في نظام واحد وأبعد من ذلك حتى في حزب واحد.
من أخطر ما يتعرض له البشر أن تتحول الأكاذيب والإفتراءات الكبيرة الى حقائق خاصة في حال تبنيها من قبل جماعات بلا فحص ولا سؤال وبهذه الطريقة ومع الزمن تتحول في عقول الناس الى” حقائق” ومسلمات بسبب التكرار لذلك تكرر قنوات التلفزة الاوصاف نفسها لجماعات معينة لانها بالتكرار تفتح ثغرات في الدماغ.
المجتمع القديم يتفسخ وأنتج مجتمعات:
وظهر المواطن الموالي والمواطن المحتج.
ظهر مواطن جديد بعناوين جديدة:
المواطن الذيل والارهابي والعميل والمفخخ
وأولاد المتعة وأولاد السفارة واولاد الرفاق …والخ في تاطير خطير وحجز وصناعة كيانات منعزلة متعادية دون وعي النتائج باسفاف مخيف ومقلق لحعل ذاكرة الانتقام مشتعلة من جيل الى جيل.
هناك لغة مواطن السلطة ولغة مواطن الشارع،
صراع على السلطة والثروة وصراع لغوي وتضارب مفاهيم،
أفعال مواطن السلطة وأحلام مواطن القبو،
الواقع الظاهري والواقع المخفي،
وهو أمر يستعصي على الثقافة السياسية السطحية
المهتمة بكل ما هو عابر ومظهري نتيجة سنوات من تلقين
نظم الحكم والاحزاب التي خلقت المواطن المخصي عقلياً،
المتشظي ولا يعرف والمختفي وهو يظن نفسه واضحاً،
وكل هذه العاهات والتشوهات تظهر في هؤلاء في المنافي عندما ينتقلون
للعيش في ثقافة سوية مختلفة وفي مجتمع نظيف واضح،
لذلك كان المنفى حقل دراسات واسع لهذه النماذج المقموعة والمحطمة.
الصراع الخافت لن يظل خافتاً،
دورة جديدة من التربص في إنتظار رفع المكبس عن البالوعة السرية،
وفي أي إنهيار جديد سيخرج المقصي والسري والمكبوت للعلن
كما حدث بعد الاحتلال،
كصلال الأفاعي في الرمل ونعيد دورة انتاج القمع.
مع إنسان غاطس في قيعان نفسية عميقة،
ينعدم أي شكل من أشكال الحوار وتصبح اللغة أداة نفي وليست
أداة تواصل وتتحول الحياة إلى حفل تنكري بالاقنعة
والويل لمن يدخل الحفل بوجهه الحقيقي بتعبير كافكا.
الكل في مخبئه السري.
لا مكان للبراءة والعفوية والنزاهة والنظافة الاخلاقية بل هو زمن الشطارة والحيلة.
واقع في الظاهر عادي لكنه قناع
وانسان في الظاهر متماسك وهو انقاض
كما لو اننا لسنا في مجتمع بل في مسرح للتهريج والاقنعة:
في عقلية المخبأ السري نحن أمام عنف عام مؤجل،
ويمكن ملاحظة أن الأفراد في دول المنفى الديمقراطية الذين عاشوا في مرحلة عمل سياسي سري أو ظروف قمع،
تهيمن عليهم النظرة الارتيابية وقراءة رسائل مشفرة بوليسية
من أبسط الأفعال لأنه ليس من السهل الخروج من القبو الى الحرية،
ويستدعون مخاوف المكان القديم وتلبيسها على الواقع الجديد للتوازن.
للقمع طقوس وعادات عميقة
وحرية هؤلاء فتية بلا تقاليد.
سيقال كما هو اليوم إن الناس تغيرت ،
ليست هذه هي الحقيقة لأن الشعوب تحتاج لسنوات
وفي حالات الى قرون لتغيير قناعات وتقاليد ومعتقدات راسخة،
حتى اليوم نمارس بعض عادات الجاهلية وعندما سقطت الاندلس غاص المسلمون في السرية وهم في الشارع باسماء ومعتقدات للتحاشي وفي المنزل باسماء وطقوس اخرى لقرون، ورغم نهاية النازية لكن هناك جماعات متمسكة بها ، وفي الفترة الاشتراكية السوفيتية ظل الناس يؤدون طقوسهم الدينية بسرية في المنازل وأم غرباتشوف الرئيس الشيوعي الأخير كانت تخبيء الكتاب المقدس خلف صورة في جدار وابنها الرئيس والسكرتير العام للحزب لا يعلم،
والامثلة كثيرة.
كل من يصدق اكذوبة ضخمة تم تسويقها بمكر وخبث
في أن الواقع القديم مات ونحن أمام واقع جديد مختلف،
هو غبي أو مسطح أو ساذج،
لأن الواقع هو نتاج تراكم قرون وأسبابه لا تظهر للعلن،
بل تكتشف في البحث والدراسة والتأمل،
وما يظهر من واقع” جديد” هي واحدة من ألاعيب الواقع
عندما يتنكر ويحتجب.
الواقع ليس أثاثاً أو ديكوراً ليتغير بل هو منظومة مفاهيم وعادات وأفكار.
لا الواقع القديم مات، بلغة غرامشي، ولا الواقع الجديد ولد:
الواقع القديم يحتضر ويتفسخ ولا يموت،
والواقع الجديد طلق بلا ميلاد وعاصفة بلا هبوب،
في الحالتين تفسخ القديم والجديد بلا موت ولا ميلاد.
هذه أعراض لحظة المنعطف التاريخية وتشوهاتها.
خرج الالمان من النازية بعقدة الشعور بالذنب،
واتجهوا نحو البناء،
وخرجنا من الدكتاتورية بعقدة الشعور بالغطرسة وانتفاخ الذات المرضي
واتجهنا للخراب والانتقام وعقلية الثأر
وخسرنا جميعاً ضحايا وجلادين كما حدث في الماضي.
لا يحدث التغيير حسب اليوم الأخير من التقويم،
لا يفيق الناس فجأة ليجدوا أنفسهم ملائكة أو شياطن،
هذا تسطيح تبسيطي للذات البشرية،
كل ما حدث وسيحدث هو أقنعة تسقط،
وأقبية نفسية تنهار وطوابق تتكشف،
ومشاعر وأحلام وأفكار ولغة تخرج للعلن من بالوعة الجيف السرية ومن انسان دفن حيّاً
داخل جلده وخرج الى ضوء النهار
ليدخل في دوامة أخرى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here