الى متى نتأرجح بين العقل والغريزة، !

` الى متى نتأرجح بين العقل والغريزة، ! (*) د. رضا العطار

كي نعيش الحياة الكريمة ونتذكى بالحكمة يجب ان يعرف كل منا انه مركب من غريزة وعقل – – الغريزة هي قديمنا الموروث من حياة الغابة والكهوف، هي ذاكرة النوع الجامد. والعقل هو جديدنا الموروث الذي يتعلم وينمو، يميزنا بالفهم عن الحيوان.

ذلك ان الحيوان يعيش بالغرائز، او ان 99% من حياته كذلك. وفهمه للدنيا هو فهم ذاتي على مستوى خفيض ليس له عقل موضوعي. ولكن الانسان بعقله يستطيع ان يجعل فهمه موضوعيا وان يصل الى حقائق الدنيا كما هي او ما يقرب من ذلك. وعلومنا وآدابنا وثقافتنا وحضارتنا انما هي ثمرات العقل وليست افرازات الغرائز.

الحيوان بفعل غرائزه في ذهول دائم، وكأنه في حلم. والانسان بالمقارنة، في تنبه ويقظة الذي يجعله يتصرف وهو يدري انه يتصرف ولكن الحيوان لا يدري، وهذا العقل هو الذي يجعلنا ندرك اننا نعيش ونحن على دراية بالموت وحدوث الكوارث على ارضنا حتى قبل وقوعها احيانا. ونحن بالطبع نشقى بكل ذلك، ولكن هذا الشقاء – الانساني – لا نرتضي بالنزول عنه كي نعيش بالغرائز، نقضي اعمارنا في ذهول مستديم كما يفعل الحيوان. وعندما نربي انفسنا او ابنائنا انما نعمد الى هذا العقل ونستنبط التفكير ونحاول التعرف الى الاشياء كما هي في حقيقتها وليس كما تصورها لنا غرائزنا.

ليس هناك انسان – ماعدا سقراط – يعيش بعقله فقط، يتعقل كل شئ ويتفهم الدنيا تفهما موضوعيا، لان كثيرا من تصرفاتنا تعود الى الغرائز التي نندفع بها احيانا اندفاع الحيوان او نسيطر عليها بقوة التعقل، فتعين لهذا الاندفاع سرعته وطريقته… ومهما حقر الانسان وهان وانحط،، الا انه يستطيع عندما يتأمل عقله ان يقول: ما اعظمني ! اي ما اعظم عقلي الذي يتجرد من غرائزي ويبحث عن مواقع النجوم والكواكب في الكون ويعرف معنى الاخلاق والوطن والشهامة والشرف والانسانية وفلسفة الوجود

ومهما عظم الانسان ونضج فانه يستطيع عندما يتأمل غرائزه ان يقول: ما احقرني !

اي ما احقر هذه الغرائز التي اندفع بها الى الطمع والحسد والضغينة، الى العدوان والانتقام، الى النهم والشر واخيرا الى ايذاء الاخرين من بني جنسي ؟ .

ولأن الانسان عرف الخسة التي تنحدر اليها غرائزه واحس مضض النفس وصداع القلب في المواقف التي اصطدم فيها عقله بغرائزه، ولانه عرف هذه المواقف، لذ عمد في كثير من الاحيان الى جحد هذه الغرائز بالزهد والنسك ومن هنا نشأت الرهبنة في بعض الاديان، انكارا للغريزة الجنسية، كأن الغاية ان نعيش بالتعقل ولو مع الحرمان.

ولكن هذا الانحياز نحو التعقل وانكار الغرائز لا يطيقه الاّ الاقلون، بل يجوز لنا ان نشك حتى في هؤلاء – الاقلين – وهل اطاقوا نسكهم وهل استطاعوا انكار غرائزهم ام بقت هذه الغرائز كامنة مختبئة في اغوار نفوسهم تتحين الفرص لا للثورة على العقل فقط بل احيانا لتتسلل ملتوية منحرفة عن طريقها حتى تحملهم على ان يسلكوا السلوك الشاذ ويتصرفوا التصرف المخبول ؟

ونحن نعرف من السيكولوجية ان الغريزة وقت التهابها تفور بنا كالماء المغلي وتطلب المتنفس، فاذا لم تجده اندست في العقل الباطن وبقيت بفعل قوتها تبحث عن المخارج الضعيفة حتى اذا وجدتها انفجرت فلا يكون منها غير الاذى الفادح لشخصنا وللاخرين . واولئك الذين حبسوا الغريزة الجنسية مثلا لم ينجحوا قط في الغائها ومحوها، وقصارى ما وصلوا اليه عربدة، مختلفة الالوان، او هم قد خدعوا انفسهم من حيث لا يدرون فاتجه نشاطهم الجنسي الى الوان قاتمة من السلوك والتصرف تؤذي المجتمع وتفتت شخصياتهم، حتى ان السيكولوجية الحديثة لتعرف الوانا من الهوس الديني ترجع في الاصل والاساس الى الحرمان الجنسي.

ولا تطالبنا الحياة الكريمة كبت العواطف وقمع الغرائز لاننا لا نستطيع ان ننكر طبيعتنا، اذ اننا كلناغرائز وعقل. فيجب ان نصالح بينهما اي نهذب غرائزنا ونجعلها ملائمة لقواعد سلوك المجتمع الذي نعيش فيه دون قمع او جحود. وفي اغلب الاحوال ينتهي معنى التهذيب للغرائز الى الاعتدال فلا نسرف في الانقياد للعاطفة الجنسية ولا نغلو في الطموح والغيرة والحسد لكننا حين نتأمل نشاطنا الاجتماعي نجد انه يعود الى ما يشبه ان يكون غريزة واحدة هي شهوة الامن والطمأنينة.

فغريزة الخوف وطلب الطمأنينة يدفع بالانسان الى جمع المال وهذا حسن اذا عرف اين يقف ومتى يقنع لكنه ينساق في عادة الجمع فلا يكون المال خادمه بل سيده الذي يستبد به ويحمله على الجهد اكثر من طاقته، فتراه يتسابق مع عماله الذين يخدمونه حتى ليصل الى مصنعه قبل دخولهم ويخرج منه بعد خروجهم وهذا هو شأن معظم الناس الذين يعانون لان طرائق الرزق عندهم مغلوطة، ساقون بغرائزهم دون ان يسيطروا على عقولهم … ومن شأن الغرائز انها تسرف، لان الطبيعة تحرص على بقاء النوع، ولكي تكفل لنا البقاء في ميدان التنازع بين الاحياء، لذا جهزت الذكر الواحد منا بالخلايا المنوية ما يكفي لتلقيح جميع الاناث على وجه الارض.

ولهذا تقتضي الحياة الكريمة ان نعيش بالعقل والغريزة معا في مصالحة ووفاق بين الاثنين. فالعقل انساني والغريزة حيوانية. ولان الفرق بين الانسان الانساني والانسان الحيواني هو ان الاول يعتمد في الاكثر على عقله في حين يعتمد الثاني في الاكثر على غرائزه.

* مقتبس من كتاب فن الحب والحياة للعلامة سلامة موسى.

*

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here