عسكرة الطفولة لن تبني وطن

فرات المحسن

دائما ما يتداول بين أوساط مقاتلي تنظيم داعش شعار ( دولة الإسلام باقية وتتمدد ) حيث يعتقد هؤلاء بأن الغلبة لا محالة، سوف تكون لدولتهم، وأن عليهم واجب الإعداد بشكل متقن وناجز لفتوحات قادمة تتوسع فيها دولتهم وتمتد حسب ما عرضته خارطتهم التي سربوها إلى الإعلام عند نجاحهم في احتلال مدينة الموصل عام 2014. حيث ضمت في حدودها السوداء، ليس فقط الدول العربية والإسلامية، وإنما أجزاء من أوربا.

هوس انتشار وتوسع تنظيم الدولة الإسلامية وبقائها ورسوخ كيانها بحدود معترف بها دوليا،يشكل الطابع الغالب على تفكير قادة التنظيم، لذا استعاروا بعضا من سيرة الدولة العثمانية، لتتماثل معها صيرورة دولتهم المستقبلية. وكانت واحدة من تلك الاستعارات تجنيد الأطفال .

فالدولة العثمانية وعلى عهد الخليفة أورخان الأول 1324 م اختارت هذا الأسلوب لبناء جيش قوي جبار. وبني ذلك الجيش على أسس عقائدية ووفق الطريقة الصوفية الإسلامية البكتاشية، وكان ملهمهم بداية الأمر، في العزم والقوة والشجاعة الأمام علي بن أبي طالب. وبالتماثل مع شجاعته سحق هذا الجيش الذي سمي بالانكشاري من وقف بالضد من الدولة العليه.

كان هذا الجيش العرمرم يتألف من أسرى الحروب أو من يختطفهم جيش الدولة العثمانية من أطفال وصبيان العوائل المسيحية في البلقان. حيث تجرى لهم عمليات غسل دماغ لقطع صلتهم السابقة بأهلهم، ويربون في معسكرات خاصة على وفق التعاليم الإسلامية، ويغدق عليهم بالعطايا والرتب، وتكون حياتهم بنسق عسكري ومهنتهم الوحيدة هي الحرب.

مع مرور الوقت تغولت قوتهم وسطوتهم وباتوا قوة كاسحة يحسب لها ألف حساب داخل الدولة العثمانية ، وراحوا يتدخلون في شؤون السلطة ويزجون أنفسهم في السياسة العليا لها، مما ارهب الخليفة العثماني، فقرر السلطان محمود الثاني في حزيران من عام 1826 القضاء على تمردهم والتخلص منهم، فأبيدوا بمعركة سميت بواقعة الخيرية، ألغي إثرها نظام تجنيد الانكشارية.

قامت فكرة تجنيد الأطفال على مبدأ تنشئة أجيال تتوارث ثقافة العنف وتتشرب بنمط من التعامل الاجتماعي المشحون بالقسوة والسلوك الإجرامي. فعملية اختطاف الأطفال من قبل تنظيم داعش و تدريبهم و زجهم في عمليات القتل وخوض المعارك. ما كانت لتعني عند قادة التنظيم ولا يجدون فيها ما يخدش الحياء أو الضمير الإنساني، وهم غير معنيين بالمواثيق والعهود وأطر القوانين والأعراف الدولية الخاصة بحماية الأطفال، و ضرورة إبعادهم عن مناطق النزاع. بل كان التنظيم يجهد لخلق جيل من المقاتلين قساة لا رحمة ولا شفقة في قلوبهم، تعدم لديهم المشاعر والعواطف الإنسانية لكثرة ما يشاهدونه من فضائع قتل وسفك دماء، لترسخ في أذهانهم بعد كل تلك الوقائع المرعبة، مشاعر العدوانية والرغبة الدائمة بارتكاب الجريمة، والتلذذ برؤية الدم لطمأنة النفس بوجودها وبقائها وتعاليها على الآخرين، وفي الوقت نفسه طمأنة عوامل الخوف الكامنة بالنفس من الأخر الذي يشكل تهديدا دائما، لتكون النتائج المستقبلية نشوء جيل من وحوش كاسرة لا هم لها أو لا علاقة لها بالبشر الأسوياء سوى تركيبة الجسد الخارجية.

احتسبت داعش عند الكثيرين بناءً على طبيعة مناهجها الفكرية أو أيدلوجيتها الدينية على بعض المذاهب الإسلامية السنية، وبدورها دائما ما كانت ولازالت تروج إعلاميا عن

علاقة وطيدة تربطها بالسنة النبوية المحمدية، لا بل يصر قادتها على أن فكرهم يتماثل بجميع حيثياته مع السنن التي جاء بها القرآن والنبي محمد، حتى وإن أنكر الآخرون عليها ذلك.

دائما ما راودت فكرة استغلال الأطفال وزجهم في النازعات والحروب عقول البعض من الأحزاب والسياسيين والحكام الدكتاتوريين وشاهدنا ذلك بأسطع صوره على عهد الزعيم الايطالي الفاشي بينيتو آندريا موسليني وحليفه الزعيم النازي أدولف هتلر. ولم تكن الرؤية في بناء جيل من القساة والقتلة لزجهم في المعارك السياسية، لبعيدة عن مناهج وأفكار حزب البعث،فعلى نمط هذه التعاليم ولأجل أن يعتاد الطفل على سلوك القسوة والقوة والجرأة وينزع عن فؤاده الخوف، وضعت سلطة الدكتاتور صدام حسين لمجاميع الأطفال من الذين أطلقت عليهم تسمية طلائع البعث، قواعد تدريب تشمل تعلم فنون القتال واستخدام السلاح. ثم طبق إثر ذلك نهجٌ جديدٌ في جميع مدارس العراق أثناء وبعد حرب الخليج الأولى، حيث يرافق رفع العلم في اليوم الدراسي الأول من كل أسبوع إطلاق رصاص من بندقية كلاشنكوف، والغرض من ذلك، وحسب فهم قيادة الحزب ، جعل الطلاب يعتادون سماع دوي الإطلاقات النارية وعندها تقوى عزائمهم وتذهب عن قلوبهم الرهبة، ويكونون دائما على استعداد لمواجهة أعداء الثورة والحزب. أما الطفولة والسلام والأمن فليس لها في الحسبان مكان، ولن تكون كوابح أمام هذا الهوس المجنون، وغير معنية بالخسارات القادمة في مستقبل تلك الأجيال، لابل تتقدم في أهميتها لتكون حاضرة في خيال صناع القرار حول ضرورة الاستعداد لمواجهة العدو المفترض .

للوقوف بالضد من هذا العمل المشين الذي ارتكبته داعش وقبلها سلطة حزب البعث بتوظيف الأطفال وزجهم في النزاعات، أقامت الحكومة العراقية على عهد رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي يوم 15 من شهر حزيران في العام 2015 في بغداد مؤتمرا تحت شعار مناهضة تجنيد الأطفال وزجهم في العمليات العسكرية، وقد ألقى السيد العبادي كلمة في ذلك المؤتمر، أعتبر فيها ما تقوم به داعش بحق الأطفال، جرائم ضد الإنسانية، ولم تراع في عملها هذا القيم والأعراف الدولية بعدم استغلال الأطفال في العمليات العسكرية. وبدوره حذر وزير العمل والشؤون الاجتماعية السيد محمد شياع السوداني ( رئيس الوزراء الحالي) من مخاطر وانعكاس تجنيد الأطفال وانخراطهم في المعارك، على مستقبل الأجيال في المنطقة والعراق بالذات، مؤكدا على أن هذه الأعمال خارج الأطر القانونية الإنسانية، ومنافية للمعاهدات الدولية. وصدرت عن المؤتمر مجموعة من التوصيات من ضمنها اعتبار ما تقوم به داعش ضربا من عمليات وجرائم إبادة ضد الإنسانية، ودعت التوصيات أيضا إلى وضع مزيد من التدابير التي تسهم في حماية الأطفال والحد من استغلالهم من قبل العناصر الإرهابية وضرورة تبني نهج التثقيف والتعليم في إطار التعايش السلمي ونشر قيم المحبة والسلام.

جاء المؤتمر وقتذاك التفاته نبيلة وشجاعة من الحكومة العراقية لكشف خطر وجريمة إشراك الأطفال في النزاعات وزجهم في مواقف مشحونة بالعنف والقسوة ومناظر الدم . وقدم المؤتمر توصيات للسلطة التشريعية بإصدار قانون يحد أو يمنع مثل هذه الممارسات المضرة بحياة الطفل. وكان من المؤمل أن تنفذ توصيات المؤتمر بإيجاد أرضية جادة لوضع أسس تشريعات قانونية لتعامل حقيقي يضمن الحفاظ على حياة الأطفال ويبعدهم كليا عن عوامل ومواقع الصراع ويبعد عنهم جميع أنواع العنف والقسوة، ويتم إرساء اطر

عامة بتدابير علمية عقلانية، تمكن الطفل من العيش بحياة سوية، يتمتع فيها بحماية خاصة

تتيح نموه البدني والعقلي والروحي والاجتماعي نموا طبيعيا سليما، وأن تكون مصلحته في مقدمة الاعتبارات في سن القوانين والتشريعات. ومنحه فرصة ضبط الانفعالات وتنمية مواهبه وقدراته وميوله واتجاهاته السلمية الحضرية بعيدا عن الغل والكراهية.

ولكن ما حدث منذ عهد المؤتمر ولحد الآن جاء عكس هذا، لا بل بالضد من ما أعلن في المؤتمر، حين ظهرت في وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي أفلام يظهر فيها رجال دين وقادة فصائل وحتى تربويون، يشرفون على تدريب مجاميع من الأطفال على السلاح، استعدادا لزجهم وتهيئتهم لمعارك ربما تندلع مستقبلا مع خصوم للطائفة أو بسبب صراع سياسي. وأخذت تنتشر وفي العديد من مدن العراق ، تجمعات منظمة كانت أم عشوائية، يزج فيها الصبيان دون السن القانوني للتدريب على حمل السلاح، دون اعتبارات أخلاقية وإنسانية،وبعيدا عن أي علاقة بالعهود والمواثيق المناهضة لتجنيد الأطفال وزجهم في الحروب.

وفي مشهد أخر أكثر إيلاما وبشاعة، نشاهد الأطفال والصبيان يشاركون بالترغيب كان أو بالإكراه في عمليات تبكيت للذات وتكفير عن ذنوب لاعلاقة لهم فيها، جرت وقائعها في التاريخ البعيد. حيث نشاهد صبيانا وبأعمار متدنية يقومون بممارسة التعذيب الجسدي والنفسي في عمليات جلد وشطب للجسد بالآلات الحادة. وترافق تلك الطقوس إثارة للغرائز العدوانية عبر إخضاع الطفل لعملية إلغاء العقل والذات، والمشاركة في حشد جماهيري يستسيغ مناظر الدم ويألف معها العنف والقسوة. وقد تجاوزت تلك الطقوس في البعض منها حدود العنف المنفلت والوحشية لتشمل تعذيب للأطفال بأعمار لا تتجاوز سنوات الرضاعة، يظهر فيها الأب أو الأم بوجوه باشة وروح رضية وهم يحتضنون أو يرفعون طفلهم المضرج بالدماء دون خوف من رادع أو مساءلة .

في تلك المشاهد المؤلمة لا بل المفزعة يتعرض الطفل إلى عملية ممنهجة لتنشئته وفق سياقات ذات طابع خاص يتم فيها تطويعه نفسيا وجسديا، ليكون جزءا من مجموع غاضب منفعل متوتر ومتطوع دائم للهجوم والوقوف كخصم وند لعدو افتراضي أو حقيقي للطائفة أو الجماعة. وكل ذلك يجري كنشاط مدروس ومعد بعيدا عن مساءلة أو منع من أي جهة سلطوية كانت أم دينية أو مجتمعية.ولم نشاهد أي اهتمام حكومي أو مجتمعي فاعل، يقف بوجه تلك الهمجية التي تغولت ممارساتها اجتماعيا ودينيا، مع شح ظاهر لا بل معدوم في مناهج وتعاليم وسلوك تشاركي مجتمعي يحاول إبعاد هؤلاء الأطفال عن مثل تلك التجمعات الانفعالية المضرة والمسيئة للطفولة ومنع مستغليهم من ممارسة تلك الافعال البعيدة عن روح الإنسانية ومفاهيم التحضر والعقلانية.

ومن الواجب على السلطة وصناع القرار السياسي والديني والمجتمعي والتربوي خلق فرص تبعد الأطفال كليا عن العنف واستخدام الألفاظ القاسية والتطير وروح القسوة، وتعمل على تغذيتهم بثقافة السلم المجتمعي وزجهم في التعليم النافع وتدريبهم على الثقة بالنفس والقدرة على فعل الخير والحرية في أبداء الرأي ومنحهم مشاعر الأمان والطمأنينة وتدريبهم على المشاركة الفاعلة بالحياة الحضارية والقبول بالخلاف الفكري.لتكون تراتيبية المجتمع ناجحة في وضع سليم ومعافى يحبذ روح التفاهم وحرية الرأي ويبحث بشكل دائم عن خيارات السلام ويستنكر أساليب العنف والقسوة في حل المشاكل والعقد المجتمعية والسياسية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here