ساهر عريبي
أعاد التمرد الذي قادته مؤخرا مجموعة “فاغنر” الروسية الخاصة ضد موسكو, أعاد مرة أخرى تساؤلات بشأن مدى خطورة اللجوء إلى ميليشيات مسلحة لتحقيق انجازات عسكرية عادة ماتعجز القوى العسكرية النظامية عن تحقيقها لأسباب مختلفة, لعل القاسم المشترك بينها هو هشاشة المؤسسة العسكرية وفي أحيان كثيرة هشاشة مؤسسات الدولة فضلا عن حالة الفساد المالي والإداري التي تعتري تلك الدول التي تلجأ إلى الميليشيات من أجل قلب المعادلة على الأرض لصالحها.
ماحصل في روسيا مؤخرا كشف مدى اختلال المنظومة العسكرية رغم إن القوات المسلحة الروسية تحتل المرتبة الثانية عالميا حسب مؤشر القوة العسكرية. فقد عجزت هذه القوات عن حسم الصراع في بلدة باخموت الإستراتيجية في أوكرانيا رغم أنها بلدة صغيرة نسبية لا يتجاوز تعداد نفوسها قبل الحرب 70 ألف نسمة, مادفع الكرملين إلى الاستعانة بقوات فاغنر التي تمكنت من السيطرة على المنطقة بعد شهور من القتال غير المتكافئ مع القوات الأوكرانية, إذ تميل كفة الميزان لصالح روسيا رغم الدعم الذي تحظى به كييف من حلف الناتو.
كشفت معركة باخموت ضعفا عسكريا روسيا, قد يكون أحد أسبابه الفساد المالي الذي أشار له زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين وعدم إيمان الجنود الروس بالحرب الدائرة هناك في زمن تميل فيه المجتمعات في الوقت الراهن إلى حياة الدعة وتطوير الأوضاع الاقتصادية والطموحات التي لا سقف له لشباب اليوم, وإذا بهذه الأحلام تتلاشى في مستنقع الصراع الذي تورطت فيه موسكو ولا تجد طريقا للخروج منه مع حفظ ماء وجهها. ويمكن بكل وضوح استقراء حالة النفور من هذه الحرب داخل روسيا من خلال الترحيب الذي حظيت فيه قوات فاغنر لدى انسحابها من أوكرانيا ومرورها بمدن روسية عدة حتى اوشكت على الوصول إلى موسكو مع أن المسافة بين روستوف الحدودية والعاصمة تبلغ نحو ألف كيلومتر, ورغم ان عدد قوات فاغنر التي يقودها بريغوجين لا يتجاوز 25 ألف مقاتل.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الحرب الروسية على أوكرانيا كشفت مدى الارتباك الذي يسود المؤسسة العسكرية التي غيرت قياداتها العسكرية مرات عدة طوال عام ونصف من الحرب, فشلت فيها الأسلحة الروسية التقليدية في تحقيق مكاسب تتناسب مع حجم القوة العسكرية الروسية, التي تبين أنها نووية لكنها معطلة, فوجود الأسلحة النووية مع عدمها سيان في حرب تقليدية لا تستخدم فيها مثل هذه الأسلحة إلا كقوة ردع لا غير.
ولعل هذا الأمر ما أثار مخاوف لدى الدول الغربية من تطور الأوضاع إلى الحد الذي تسيطر فيه قوات فاغنر على مركز القرار في الكرملين فيصبح زر السلاح النووي تحت يديها, وذاك خطر كبير أن تتمكن قوات غير نظامية من التحكم في مصير العالم. ورغم انتهاء التمرد بنحو أظهر ضعف الكرملين الذي أبقى على قوت فاغنر ولم يحاكم وزعيمها بتهمة الخيانة كما عد تمردها ذلك بوتين, فإن تداعيات هذا التطور ستترك آثارا لا على الوضع العسكري في أوكرانيا فحسب, بل على المؤسسة العسكرية الروسية وعلى وضع الرئيس بوتين فضلا عن تأثيراتها على الرأي العام الروسي, الذي يضيق ذرعا يوما بعد آخر بحرب لم تحقق أهدافها فحسب بل حققت الأهداف التي أريد منع تحققها وأهمها توسع حلف شمال الأطلسي, وهي أحد الذرائع التي ساقها الكرملين لتبرير الحرب عند اندلاع شرارتها في 24 فبراير من العام الماضي.
لم تكن تجربة فاغنر الوحيدة سواء على صعيد الاستعانة بالميليشيات أو على صعيد تداعيات ذلك. فهناك تمرد آخر يحدث في السودان تقوده هي الأخرى ميليشيات مسلحة تعرف باسم قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو( حميدتي). تكاد تتشابه الحالة مع فاغنر إلا من حيث السيطرة على التمرد كما حصل في روسيا وفقدان ذلك في السودان. فمنحيث الاستعانة فقد دعمت حكومة الرئيس السابق عمر البشير ميليشيا الجنجويد لوقف الاضطرابات في ولاية دارفور, بعد عجز المؤسسة العسكرية عن حسم النزاع فكانت الاستعانة بقوات من المرتزقة نجحت في قمع الاضطرابات ولكن عبر ارتكاب مجازر كانت نهايتها توجيه اتهامات لللبشير بارتكاب جرائم إبادة.
كانت أبرز تلك التداعيات هو تغول ميليشيات الجنجويد وتحولها إلى قوات شبه نظامية تنافس الجيش وتتمتع بنفوذ اقتصادي كبير عبر السيطرة على مناجم الذهب في دارفور الغنية بالنفط وبالمعادن وخاصة اليورانيوم. وصل الحال بهذه القوات إلى الحد تصورت فيه أنها قادرة على إزاحة الجيش من المشهد في السودان وإحكام قبضتها على البلاد, فكانت الحرب الدائرة في البلاد منذ أكثر من شهرين والتي يعجز فيها الجيش النظام عن حسم المعركة لصالحه, وهو ما يعكس أيضا هشاشة المؤسسة العسكرية السودانية.
اللافت في هذين النموذجين الميليشياويين هو ان المحرك لنشاطهما اقتصادي فالأموال تجذب مرتزقة جدد من أجل جذب مصادر دخل جديدة سواء عبر التدخل في بلدان أخرى لأخذ حصة من ثرواتها كما هو عليه الحال مع تدخلات فاغنر في إفريقيا والتي تخدم سياسة موسكو في الوقت ذاته, أوكما تفعل قوات الدعم السريع التي يتمدد نفوذها اقتصاديا في السودان.
يكاد العامل الاقتصادي والطموحات السياسية أبرز القواسم المشتركة بين هذه الميليشيات, ولا تشذ عن ذلك حتى الميليشيات ذات الخلفية العقائدية. إلا أن هذه القوات التي تتأسس بخلفية دينية تتميز بألا سقف لطموحاتها السياسية أو الاقتصادية ولا تكترث لسيادة البلاد, خاصة عندما تظهر في دولة فاسدة ذات مؤسسات مهترئة, سواء أعسكرية كانت ام مدنية. فعندما تنجح مثل هذا الميليشيات في الهيمنة على السلطة فإنها تتغّول في البلاد, فتحكم قبضتها على الحكم وعلى موارد البلاد الاقتصادية وعلى المؤسستين الأمنية والعسكرية وعلى الإعلام وترسم السياسة الخارجية للبلاد, مستعينة بالخارج و بالخلفية العقائدية الزائفة التي تجعلها تظن أنها تمتلك الحقيقة المطلقة وأن ما عداها باطل محض, فمن يخالفها إما عميل أو منحرف لا يستحق الحياة, مع انها قمة في الفساد والتخلف والجهل والإجرام والتفريط بالسيادة والبعد عن قيم السماء والأرض.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط