من يحمل مفاتيح جهنم القادمة؟

حمزة الحسن

هناك تقليد عراقي متجدد:
هو ان كل سياسي عراقي اذا غضب يهدد بحرق البلاد كما لو ان البلاد مزرعة شخصية أو عقار عائلي أو ضيعة،
او علبة بنزين وليست وطناً،
سواء كان في السلطة أو الحكومة
في البرلمان أو المعارضة،
حتى لو كان على مشنقة: هذا وطن وليس مزرعة حيوانات جورج أورويل..
الحوار الذي دار بين الدكتاتور السابق وهو على حبل المشنقة وبين الجمهور الحاضر يلخص تاريخ هذا البلد،
هم ارسلوه للجحيم بالهتافات،
ونسوا الجحيم الذي أسسه لهم في الماضي والحاضر والمستقبل،
وهو توعدهم بالانتظار، هازاً راسه،
ليس غير صانع التوابيت من يعرف عدد مساميرها.
هو الحوار نفسه الذي دار بين الزعيم النجيب عبد الكريم قاسم وبين من حضروا في قاعة الموسيقى لاعدامه ـ تشويه الامكنة ــــ وهو حوار حبل ورصاص وليس محاكم نهج، اي محاكمة العقلية وطريقة ادارة السلطة لكي لا تتكرر الكوارث.
هو حوار انتاج الازمة لا حلها.
حوار افراد أعداء، لا حوار اساليب حكم متعادية.
لماذا نعتقد، في كل مرحلة، ان الحائط والرصاص والحبل، هو حلال المشاكل،
ثم نكتشف ان العقل السياسي المنتج للدكتاتورية ما يزال حياً وفاعلاً ويدير سلطة ودولة؟
صدام حسين هدد بحرق العراق ولا يبقى غير التراب،
والمالكي هدد بفتح أبواب الجحيم،
حتى حدائقي القصور الرئاسية صالح المطلك هدد يوماً بالجحيم لو اقتربوا من سرقته مخصصات المشردين.
وطن أم كازينو قمار ؟ وطن من؟
كاكا مسعود يعلن في كل مناسبة وبلا مناسبة إن العراق إنتهى،
ومن يقترب من كركوك يفتح أبواب جهنم، كما صرح يوماً:
” العراق انتهى مثل تشيكوسلوفاكيا، لا شيء إسمه العراق. مسعود لصحيفة لاستامبا الإيطالية”.
ولم نعد نعرف مفاتيح جهنم في يد من؟
لو أن أحد هؤلاء هدد بهدم كوخ كلب او شجرة او مبولة عمومية يحترم في بلد يحترم الحياة والقانون،
لوضع في السجن او في المصح حالاً ولو كان ملكاً،
لكن من يهن يسهل الهوان عليه.
الشركاء في الحكومة يهددون دائما بالانسحاب منها في كل مرة،
دون أن ينسحب أحد لأنه يعرف ألا أمل بعودة،
ومن في البرلمان يهدد بحل البرلمان دون أن يعلن مثلا استقالته لأنه يعرف انها ستكون نهائية.
من لا في السلطة ولا في الوزارة ولا في البرلمان يهدد
بالصلاة على قادة البلاد بالويل والثبور فلا شكوى تنفع مع هؤلاء الا لله
مع ان” الله فضل القائمين على القاعدين درجة”.
أحد رجال الدين في النجف هدد بنزع العمائم اذا كانت كرة القدم
تجمع بين الناس أكثر من “علماء الأمة”.
الذين في الجنوب هددوا بتحويله الى اقليم ما لم يحصلوا على حياة لائقة،
والذين في الشمال هددوا بالحرب اذا اقترب الجندي والشرطي وبائع الشاورمة من كركوك ما لم يكن يحمل موافقة رسمية حقيقية وبكفيل
أو يرمى خارج حدود الاقليم كنفاية.
الكل يهدد ولكن لا شيء يحصل في الواقع:
السبب بسيط جدا هو ان هذا الواقع المطلوب تغييره خارج ارادة هؤلاء جميعا،
السلطة التي يتمردون ضدها ليست هي التي في الواجهة،
النظام الذي يهددون بتبديله ملجوم من قوى خفية لابدة في الظلام،
الواقع الذي يتظاهرون ويحتجون ضده ليس هو الواقع الحقيقي:
الواقع المرئي صناعة زائفة.
الواقع الحقيقي ليس ما نراه بل هو المختفي.
الواقع الحقيقي مخفي ومحجوب ومستور ومقنّع:
الواقع الحقيقي يحتاج الى سامري لكي يبصر ما لا نبصر.
الواقع الحقيقي مختفي في القيعان السفلية، في المصارف والاقبية والسفارات، الثكنات، المكاتب السرية، والشركات والمافيات والعوائل الحاكمة وفي تحالفات الخارج وفي الثقافة المحلية والتاريخ والسلاح والمخابرات الأجنبية، وهذا الواقع الخارجي ليس هو بل صورة مزيفة عنه ومن يدعي أنه يرى الواقع لأنه يرى البقاليات والشوارع والأسواق والصخب هو لا يرى شيئاً:
الواقع يتوارى ليس عن منتقديه بل عن من يؤيدونه، حسب المفكر بودريار، في اطروحته: موت الواقع.
الواقع الايطالي، مثلاً، السري والغاطس الذي كشف عنه الكاتب روبرتو سافيانو في روايته” غامورا” ليس هو الواقع الذي يراه الناس في الشكل،
لذلك صدموا كيف ان المحاكم والمصارف والاحزاب ووسائل الاعلام وشركات الطيران ومؤسسات جمع القمامة وشركات الغذاء والملابس وحتى المقابر تدار من قبل المافيا الايطالية،
أبعد من ذلك كشف لهم كيف أن اوروبا كانت على حافة الانهيار الاقتصادي لو لا دعم المافيا المالي العاجل بضخ سيولة نقدية للاسواق.
الواقع يتنكر مثل أي كائن حي حين تطمس وتلغى معالمه
وتحل بدلها الصور والشعارات والاناشيد والملصقات والطقوس والخطابات والرموز والخ.
يمكن تغيير الواقع الخارجي، رفع الشعارات، ترقيع السلطة، تبديل الوجوه بأخرى، لكن الواقع الحقيقي غاطس وخارج النظر،
وحده الفكر، عين الطفل، العقل الطليق المفتوح، الفن،
يستطيع رؤية دهاليز السلطة السرية والسلطة نسيح علاقات متداخلة غير مرئية وتتبادل الدعم مع السلطة الاجتماعة من خلال شبكة رموز وتقاليد وادوار واعراف وقوانين والخ .
السلطة، أية سلطة، تتحجب وتتنكر وتتحايل،
للسلطة اقنعة كثيرة ولا يمكن القبض على خيوطها بالخطاب السياسي السائد عندما يخلط بعض أهل القلم بين التفكير وبين التبعير.
ماذا حدث عندما مات الدكتاتور؟
اختفى هو ، لكن الواقع السري، العقلية، الادارة، عقلية الحيازة والملكية والعقار والثأر والسلطة كغنيمة طفحت في النهاية وصارت قوة،
لأن محاكمة العقل السياسي الدكتاتوري لم تحدث.
نحن نقتل الدكتاتور،
لكننا نعيد الى الحياة طريقته في الحكم.
من الذي سيقف في الايام المقبلة، السنوات القادمة، أمام مفارز الاعدام، أو تحت حبال الشنق لو انقلبت الامور في بلاد الرافدين بلاد الغرائب والمشانق؟
ليس هو الواقع الفاسد، ليست مؤسسة القمع، ليس العقل السياسي الرث، ليس هو الدستور المشوه،
ليس القانون المُفصّل على جسد النظام، بل سيقف الحاكم شخص،
لكن النظام حي….العقلية باقية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here