فرات المحسن
دعا أكاديميون وناشطون عراقيون إلى ضرورة تطبيق قانون تنظيم الأحزاب السياسية قبيل إجراء انتخابات مجالس المحافظات نهاية العام الحالي،وأشاروا لأهمية تأطير عمل النظام الديمقراطي من خلال تفعيل تطبيق قانون الأحزاب، الذي يحدد آلية عملها وحدود صلاحياتها وطرق تمويلها، فيما حذروا من آثار ومخاطر خروقات الأحزاب المتنفذه على الاستقرار السياسي والمجتمعي. فعدم تطبيق القانون على تلك الأحزاب يتيح لها هامشا كبيرا من الحركة في ارتكاب المزيد من الخروقات لبنود الدستور واطر العمل الديمقراطي.
لا معنى لانتخاب وعملية اقتراع دون أن تكون هناك ضوابط وآليات شفافة وديمقراطية ترافق مثل هذه الإجراءات. والانتخابات الحرة والنزيهة مستحيلة إذا كانت عملية حشد المصوتين تجري بناءً على رغبة من يملكون السلطة والمال، وتتشكل وفق استراتيجيات تكون حكرا لهم ولمؤازريهم، وتبعد كليا أو جزئيا قوانين وتشريعات هي من صلب العملية الديمقراطية. وأن أفضل سبيل للحفاظ على سير العملية الانتخابية هو وضعها في أطرها القانونية، استنادا للدستور وأعراف العملية الديمقراطية وقوانينها، وكذلك اعتماد النماذج العالمية المثلى لإدارتها.
إن الإخلال بطبيعة العملية الانتخابية وحرفها لا يشكل سوى مظاهر زائفة لمجمل الوقائع والتشكيلات الإدارية والسياسية التي تسفر عنها.ودائما ما تتحمل الهيئات التشريعية المسؤولية المباشرة عن وضع الأطر الكافلة لجعل عملية الانتخاب بعيدة عن توصيف التزوير أو مخالفة القوانين. وعلى أن تكون الضوابط التي تضعها السلطة التشريعية ضامنة لتحاشي عمليات الغبن والإجحاف بحق الناخب وأيضا بحق الأحزاب أو القوائم المشاركة.
أظهرت الانتخابات السابقة للبرلمان ومجالس المحافظات جزرا واضحا في أعداد الناخبين، وهذا الأمر يختلف قطعا عن ما يماثله في الأنظمة الديمقراطية الثابتة المعايير وسنن القوانين. ومثل هذا يؤشر لما هو سلوك غير طبيعي إن حدث في بلد يقدم للجميع كافة الضمانات القانونية، ويفتح أمامهم مختلف الخيارات ومنها الحق في المشاركة بعملية التصويت من عدمها. ولكنه في حال العراق وبعد الخروج من الحكم الشمولي والتوجه لتأسيس الدولة على وفق شروط الديمقراطية والرغبة في المشاركة الجماعية مثلما يعلن، فأن الأمر يبدو وكأنه عزوف مقرر سلفا، ويؤشر لنقص حاد في الشعور بالواجب المدني والاجتماعي الوطني، وعدم اكتراث الناس بالنتائج المتحققة، وهذا ناجم عن الاعتقاد بأن النتائج المتأتية من الانتخابات سوف لا تغير شيئا في مجرى حياتهم اليومية، بل العكس سوف تجلب لهم ما هو أسوأ مما هم عليه.وإن كان هناك ما يؤكد مسؤولية الكثير من الناخبين في عدم المشاركة، عبر عدم ذهابهم لتجديد سجلاتهم والتأكد من مراكز التصويت. فقد شاركت مفوضية الانتخابات (المستقلة ؟!) وآليات الاقتراع التي اعتمدتها في إحداث ذلك القصور والجزر في أعداد المقترعين. حيث لم تأخذ إجراءاتها الاهتمام الجدي للوقائع والمتغيرات التي أحدثتها العمليات الإرهابية والتطهير العرقي والطائفي والانتقال داخل مخيمات النازحين والمهجرين والهجرة من الريف إلى المدن، وأيضا ما كان من الأفعال السياسية التي خدشت وقائعها العملية برمتها وطعنت بمآلاتها. وما كانت عمليات تسجيل الأسماء وتوزيعها على مراكز التصويت لتكون تصويب للأخطاء بل كانت سببا في حرمان الآلاف من حق المشاركة.
ومع اقتراب عمليات انتخابات مجالس المحافظات المقررة نهاية هذا العام. فقد دعت المفوضية العليا للانتخابات، جميع الناخبين إلى تسجيل بياناتهم وتحديثها بأسرع وقت ممكن، وأشارت لعدد الناخبين الذين يحق لهم المشاركة في الانتخابات الخاصة بمجالس المحافظات وهم 27 مليون ناخب. وعلى أن تكون طريقة الاقتراع بايومترية مع وجود مليون و500 ألف بطاقة بايومترية متبقية من انتخابات عام 2021 مع استمرار عمليات النقل والتغيير والإضافة والحذف في هذا المجال .
عملية فرز الأصوات وإعادة الفرز وكذلك دراسة الاعتراضات التي قدمتها بعض القوائم والأحزاب في الانتخابات الماضية إن كانت برلمانية أو خاصة بمجالس المحافظات،قد ساعدت على تقويض ليس فقط ثقة الناس بنزاهة الانتخابات كوقائع ونتائج، وإنما أكدت للبعض من الأحزاب والقوائم التي شاركت في العملية ، إن ما جرى كان يتناقض بحدة مع أطر الديمقراطية ومحاولات بناء الدولة الحديثة ذات طبيعة الحكم المبني على أسس العدالة وسلطة القانون. وإن مفوضية الانتخابات رغم الادعاء باستقلاليتها لازالت الشكوك تطاردها وتوسمها بالتبعية للأحزاب المتنفذة بالسلطة.وكانت آليات الإجراءات التي اتخذتها قد سببت لبعض القوائم خسارات ليست بالهينة، وحجبت عنها حسب نظام التصويت والفرز أصوات ناخبيها، بعد أن دفعت الطعون السلطة التشريعية ومن ثم المفوضية نحو خيار سانت ليغو، وجاء ذلك ضمن معايير وضعت بعجالة وأساءت للعملية الديمقراطية برمتها.
في جميع عمليات الانتخابات التي جرت في العراق بعد سقوط البعث كانت الإجراءات تخضع للتجريب والمقاربات مع انعدام الخبرة المترافقة بالصراع المتواتر للرغبات والأطماع. فكانت السمة الغالبة فيها بناء آليات وإجراءات التهيئة للانتخابات وفي كل مرة، تأتي وفق محاكاة لذات الطرق المعتمدة والتي تكرس التسلط لمجموعة من الأحزاب النافذة . فبين خيار القائمة المغلقة والقائمة المفتوحة أو المزاوجة بينهما،أو الأخذ بقواعد نظام التصويت والفرز على طريقة سانت ليغو. ترتفع وتيرة المقارنات والتفاضل في البحث عن الامتيازات وكسب السباق مع تلك الطريقة أو غيرها، دون النظر لأهمية إنجاح العملية الديمقراطية ذاتها بالآليات والأطر الحضارية المعتمدة في بلدان العالم الديمقراطي. لنجد أنفسنا أمام ابتكارات معقدة وبعيدة عن الدراية والحكمة ولتقتصر على صراع الإرادات والغلبة لكسب القوة العددية لكسر شوكة الأخر.
في كل مرة تحاول المفوضية تجاوز العقبات التي تظهر فجأة أثناء وبعد الانتخابات ولكننا نجدها في النهاية ترضخ لاشتراطات مراكز القوى أو ما يسمى بالقادة الكبار. ومع إن مثل هذه الأمور كانت ومازالت تمس حقوق الناس وتوضع في دائرة الطعون والتخوين. فأن الأحزاب المتنفذة تبدو غير معنية بتغير قواعد سلوكها و إكساب العملية الانتخابية نموذجها الديمقراطي الأمثل والذي يستحقه الإنسان العراقي بعد كل الذي جرى له.
ما من أحد يدعي أن العمليات الانتخابية التي تجري في أنحاء مختلفة في العالم تبلغ حال الكمال. فبعض وقائعها يمكن أن يشوه أو يحور إرضاءً لقوى حزبية بذاتها أو جراء عوارض سياسية أو اقتصادية. ورغم ذلك ولكثير من الأسباب فأن الانتخابات الحرة والنزيهة لها قواعد واشتراطات لا يمكن التخلي عنها أو إهمالها ولا حتى تحويرها، وهي
في مجملها ترتكز على وجود نظام سياسي مستقر، لا تتعرض فيه القيم الديمقراطية في أغلب الاحتمالات لخيارات شخصية أو حزبية خاصة.وأن أهم تلك القيم والمصالح هي حق المنافسة الشريفة التي تضمن العدالة وتكافؤ الفرص بين الجميع، وبذلك يتحقق الهدف الذي صممت من أجله الانتخابات. ولا يمكن اعتبارها نزيهة وحرة دون أن يوضع في الاعتبار تشريع يعالج مشاركة الأحزاب فيها، وقبل هذا يحدد وضعها القانوني، وكيف يتسنى ضمان حقوق الجميع في المنافسة ومن ثم في إدارة السلطة.
ادعت المفوضية المشرفة على إدارة انتخابات مجالس المحافظات القادمة على أن هناك أكثر من 269 حزبا وقائمة قدمت ولحد منتصف الشهر السابع من هذا العام، طلباتها للمشاركة وبلغ عدد طلبات تسجيل الأحزاب قيد التأسيس 77 طلباً. وعدد طلبات تسجيل الأحزاب المرفوضة بقرار مجلس المفوضين 151 طلباً، وبلغ عدد طلبات تسجيل الأحزاب التي تقدمت بسحب طلبها 18 حزباً، بينما بلغ عدد الأحزاب التي حلت نفسها 3 أحزاب. وعند بداية الشهر الحالي 8/ 2023 تم تسجيل 30 تحالفا سياسيا 20 منها جديدة ويزداد العدد قبل نهاية موعد الإغلاق. وأضيف ما يقارب المليوني ناخب من المواليد الجدد. وهنا يطرح السؤال الأكثر حيرة ودهشة، عن طبيعة برامج تلك الأحزاب وأهدافها وكيف يتسنى للجمهور معرفة تلك البرامج مع هذه الوفرة الغرائبية والمقصودة لتشتيت وإضاعة الأصوات.
يمثل تشريع قانون تسجيل وتنظيم العمل الحزبي الثقل الفعلي في إنجاح العملية الانتخابية ووضعها في مسارها الصحيح، ومن دون هذا التشريع فأن أي عملية انتخابية تعد مبعثا للشك والريبة في أعراف الديمقراطية. وفي النهاية تكون محاولة يفُضلَ فيها خيار تحوير العملية برمتها لصالح أحزاب ذات أغراض خاصة، تسعى لإبعاد ما يفرض عليها لتكون ضمن تنافس حقيقي ديمقراطي. فقانون عمل الأحزاب يتطلب الكشف عن مصادر التمويل وكذلك الصرف. وهو يعني أيضا كشف حساب عن آليات عمل الأحزاب ومقدار قربها أو بعدها عن الديمقراطية في الوسط الحزبي وخارجه، وكذلك طبيعة التشكيل والهياكل الحزبية وعدد الأعضاء المسجلين فعليا، وطريقة إجراء الانتخابات الداخلية ومددها، وآليات صعود القيادات وطبيعة النظام الداخلي وتوصيفه للديمقراطية، ورغبة الحزب وإقراره بالسلم الاجتماعي والسياسي،وعدم امتلاكه لفصيل مسلح وابتعاده قطعا وضمن أدبياته المعلنة عن أساليب الصراع المسلح، وقبوله بالتداول السلمي للسلطة.وهذا التشريع الذي يوصف به الحزب وضعه التنظيمي والفكري هو المحك والمدخل والقانون الذي يسمح للحزب المعني بالمشاركة في العملية الانتخابية من عدمه.
لحد الآن فأن الكثير من الأحزاب المتنفذة في الحكومة العراقية حرصت قدر الإمكان على النأي بعيدا عن الخوض في تشريع وإقرار قانون تنظيم العمل الحزبي، وعدته إشكالا متنازعا عليه لا يمكن ربطه بالعملية الانتخابية الحالية وماسبقها، بالرغم من كونه مؤشرا يؤسس لبناء حقيقي للدولة الديمقراطية. ودائما ما اعتبرته ووفق رؤاها السياسية، ترفا غير مستساغ وليس من المستحسن النظر فيه أو تشريعه، وحاله حال الديمقراطية ذاتها التي تنظر لها تلك الأحزاب، على إنها وسيلة للوصول إلى الحكم وليس غاية لبناء دولة المواطنة.وفي مسعاها هذا تبتعد كليا عن إجراءات انتخابية واقعية وديمقراطية. فمع عدم وجود هذا القانون لن يكون هناك أي نوع من الصلة بين ما يجري من عملية انتخابات في العراق و السلوك الديمقراطي الصحيح والشفاف. وعندها تترافق العملية الانتخابية وبشكل ناجز بعمليات تزوير وتزييف، مع خلوها من عدالة وتكافء للفرص. وتبعا لذلك فليس من المجدي إجراء الانتخابات مع وجود مثل هذا الخلل الفاضح في المنهجية والآليات. ودائما ما سيكون هناك غبن وإجحاف بحق المواطن قبل الأحزاب.في النهاية يمكن القول إن الدولة الساعية لتشكيل أطر مؤسساتها القانونية والدستورية وبما يبعدها عن طبيعة الحكم الشمولي، يجب أن تضع في المقدمة ما يضمن شفافية الفعل ودستوريته. وسن قانون عمل الأحزاب واحدا من أعمدة بناء الدولة الديمقراطية.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط