تلك الأيام المضنية : ج الأخير

فرات المحسن

طوال الطريق نحو الشقة كنت أشعر بغثيان يلف رأسي وأحشائي. أحسست بخدر ودوار يجعلان جسدي يرتخي، فيسندني مرافقي لبعض الوقت. وأخيراً شعرت أن ساقي ما عادت تساعدني على المسير، فاضطر مرافقي لرفعي، وحين وصلنا الشقة وضعني على السرير وجلس جواري، فدفنت رأسي بالوسادة وبدأت أبكي بحرقة.

* * *

شحيح الضوء يتسرب من بين فتحة الستارة، والمساء الثقيل قد ابتعد وأنا ما استيقظت طيلة الوقت. رفعت رأسي ونظرت حولي. كانت هناك جالسة تطالع سقف الغرفة دون أن تنتبه لي. حيّيتها تحية الصباح فلم تجبني. ناديتها فلم أسمع سوى صوتي. كانت أمي هناك تجلس فوق كرسي قريباً من باب المطبخ. سمعتها تدندن، ربما كانت تحدث أحداً ما في المطبخ. من يكون ؟ هل هي راشما أم مرافقي؟ ولكن لم تتغاض أمي عن ندائي. ما الذي يجعلها تهملني بهذا الشكل!

ـ أمي..أتسمعينني..اليوم قررت الذهاب إلى يوتوبوري للحصول على الجائزة..أتودين مرافقتي..أجيبيني لا تجعلي الصمت يزيد من ألمي.أمّاه سوف ترافقينني أليس كذلك..إني أخاف هذا البولوني…سوف يقتلني إن عرف بالأمر.

دخلت المطبخ دون أن تلتفت نحوي. أهملت وجودي كلياً. لم ألمح سوى ثوبها الكالح الذي مازال يظهر جوار حافـّة باب المطبخ. سمعت صوت راشما وكان همساً خفيفاً وهي تكلم أمي. حركت جسدي فكان ثقيلاً مثل الصخر، وازداد ارتعاش أطرافي ولكني استطعت في النهاية أن أحركه وأرفعه، ثم هبّطت من السرير وطالعت ساعة الجدار التي كانت دقاتها الرتيبة تملأ الغرفة وصوتها ينخر رأسي الذي لفـّه دوار غريب. الساعة تشير إلى السادسة صباحاً. تقدّمت نحو المطبخ فلم أجد أحداً هناك. أين ذهبوا ؟ ما عاد ذهني المشوش يحتمل كل هذا. أشياء غريبة تحدث. لِمَ يتركوني وحدي ؟ ولكنـّي لست بحاجة لمساعدة أحد. أنا قادر على إنجاز كل شيء. ما الذي يفعلونه الساعة. ألم يعدوني بالمجيء ؟ مشقة السفر لن أتحملها وحيداً. لترافقني أمي وسوف أحكي لها ما يعذبني. ما من أحدٍ سواها يعرف ما ينتابني من تعب وألم.

* * * *

الصباح البارد يجعل الجسد ثقيلاً متكاسلاً. لملمت بعض قطع الملابس التي أحتاجها في سفري، ودسستها دون عناية في حقيبتي الصغيرة، وسرت باتجاه موقف حافلات النقل التي توصلني إلى محطة القطارات المركزية. كنت أشعر بالوحدة والخوف، فربما لا أستطيع تحمّل مشاق السفر، فيا ترى من سوف يساعدني إن شعرت بالإرهاق، وانتابتني أعراض المرض. مثلما قال بيتر الفنلندي فالموت يلاحق رابحي الجوائز، وشركات اليانصيب تنتظر ذلك ودائماً هي من يربح الرهان. أتراني أستطيع أن أغلبهم في هذا الرهان ؟ الموت، أيّ معنى سخيف وأية نهاية لا تقبل المساومات. أتراني أقع صريعاً قبل أن أتسلم الجائزة؟

الشوارع مزدحمة، وحركة سير الحافلة بطئ جداً. تلمست الحافظة للتأكد من وجود ورقة اليانصيب ونظرت نحو الأفق المترامي لفسحة الوادي المخضرّ الذي يمتد مجاوراً الشارع. هذا اليوم يتوقف عليه الكثير من مستقبلي، وتلك الورقة هي التي ستكون مصيري الجديد أو منقذي الذي بحثت عنه كثيراً.

قطعت تذكرة السفر واتجهت صوب الرصيف رقم سبعة عشر، حسب ما نبهني له قاطع التذاكر بعدما لاحظ ارتباكي وارتعاش يدي، وسألني إن كنت أحتاج لمساعدة فهناك في المحطة من يستطيع تقديم العون للذين يحتاجونه. شكرته وتقدمت أخط بقدمي فوق أرض الرصيف.

كانت حركة القطارات تملأ المحطة بضجيج طاغ، وصوت أزيز العربات المسرعة يرتطم برأسي فأشعر بثقل غريب ينتاب جسدي. القطارات تنطلق مثل البرق مخترقة المكان، قادمة أو عائدة من جهة ما، بعضها لا يتوقف عند المحطة وإنما يندفع شاقاً فضاءها مثل سهم حاد محركاً الهواء بحدة تشعرني بالخوف، وتنتاب جسدي قشعريرة باردة. جلست فوق الكرسي جوار الباب ورحت أطالع تقاطع سكك الحديد. وبين لحظة وأخرى كان هناك قطار يخترق المكان بسرعة هائلة. أشعر الآن أن قرار سفري وحيداً جاء متسرعاً، وأني اتخذت هذه الخطوة دون دراية بمخاطر وضعي الصحي. وحتماً إن طول المسافة سوف يرهقني، ولكني أشعر بأن هدفي يستحق العناء. أردت أيضاً أن أحافظ على سرّ ورقة اليانصيب، أن أتفرد بها، أن لا يعلم بها ذلك الوحش أو غيره.

لحد الآن لم أشاهد من السويد غير مدينة ستوكهولم، وحتى في هذا الأمر فإن لي حدوداً لم أكن لأبرحها. لا أعرف من ستوكهولم غير بضع مناطق، وهذا الشيء يزيد من قلقي وخوفي. قاطع التذاكر أخبرني حين سألته، أنّه يكفيني أخذ سيارة أجرة حال وصولي محطة القطارات في مدينة يتوبوري، وسوف يتكفل السائق بإيصالي إلى بناية التلفزيون. سوف أحاول النوم أثناء الرحلة، فأنا لم أستطع النوم وبقيت أتخبط، ينتابني الفزع والقلق طوال الليل.

كان الزحام في المحطة على أشده وكنت أطالع الوجوه بريبة ووجل. وسيل البشر أمامي يبعث في نفسي خوفاً شديداً. فجأة اقترب مني فتى طويل أشقر، أشعث الشعر بجبهة ناتئة وعينين صغيرتين، ودون مقدمات جلس جواري ووضع رأسه فوق كتفي وهمهم بصوت مبحوح أن أعطيه بعجالة سيجارة أو قطعة نقود. دفعت رأسه وأخرجت علبة السجائر وناولته واحدة. دفعني من كتفي بقوة حين همّ بالوقوف. بعدها انحنى نحوي ووجّه لي التحية وأطلق ضحكة مدوّية أرتجف لها قلبي، ثم مد يده المتسخة فارجاً ما بين الأصابع ووجّهها نحو وجهي مباشرة وصاح بسويدية ركيكة.

ـ لن أقول لك ما سوف أفعله أو ما لا أفعله، فأنت مثلهم..لن أقول ما سوف أقوم به حتى لو حاولت قتلي أيها السويدي القذر…أيها الغبي.

فجأة بدأ ينتحب، ثم راح يدير رأسه بشدة يمنة وشمالاً، وذهب مسرعاً نحو باب الصالة الداخلية. شعرت بقشعريرة برد وبدأ العرق يغرق جبهتي وبدأت أحس بالاختناق. انتابتني حالة من الكمد والوحشة، وكأن كل شيء حولي مسكون بالأرواح. هزتني رجفة وشعرت بوهن شديد وبدأت أصابع يدي لا تقوى أمساك السيجارة. صمت ضجيج الناس، وبدت الساحة أمامي فارغة تماماً. تقاطع السكك الحديد أخذ يتشابك ويتلوّى بحدّة وثمة صوت صفير يأتي من بعيد. راح الصمت يكبر ويتـّسع، وصوت الصفير ينفرد ليخترق فضاء السكون. بدأت سكك الحديد تتلـّوى أمامي مثل أفاع تتراقص كأنها في حمى سراب هلامي غطى كل شيء. انكشفت أمامي تلال ترابية يغطيها السبخ وعوسجات تتناثر بين طيات الكثبان وثمة يد مغطاة بالدم خارجة من حفرة قريبة تلوح في الفضاء. اقتربت أمي من الحفرة وكانت تنظر نحوي بعينين متسعتين. مدت يدها وسحبت اليد من الحفرة. أخرجته، كانت بدلته مطلية بلون دم قان متيبّس. شدته أمي إليها وضمته لصدرها. كانت تنتحب، سمعت صوت نحيبها، أمال الجسد رأسه نحو صدرها ونظر اتجاهي بابتسامة شاحبة، ولوّح بيده مرة أخرى وكانت عيناه تتوسلانني. صوت الصفير يشتد ويقترب. صرخت بكل ما أوتيت من قوة أن ابتعدوا عن المكان كي لا يدهسكم القطار. تقدمت أمي ساحبة معها العسكري الجريح نحو تشابك سكك القطارات. سحبته وهي تحتضنه بحنوّ. صرخت ..توسلتها أن تبتعد. كان ثغرها ينفرج عن ابتسامة رضيّة. وكنت أصرخ وأحس أن صوتي يُكتم في جوفي ويختنق بحشرجة موجعة. نزلت عن الرصيف وتقدمت نحو سكة القطار. سمعت ورائي صراخاً وضجيجاً. التفتّ فكانت هناك وجوه فزعة وعيون ناطة وأفواه فاغرة وأياد تشير نحوي. نظرت نحو القطار القادم بسرعته الجنونية ثم اقتربت من أمي. اقتربت منهما ..اقتربت وأخذت يدها، ضممتها إلى صدري وأجهشت بالبكاء. كان هناك صوت عميق ثقيل يندفع صداه في أذنيَّ. لقد أصغيت له جيداً.شعرت ببرد قارس وثمة ألوان كثيفة تتجمع في عينيّ. كان جسدي ينسحب خفيفاً مثل ريشة يلاعبها الهواء، والسماء تقترب مني شديدة الزرقة تبرق من خلالها ألوان تومض. اختلطت الألوان وثمة ضباب كثيف يغطي المكان. بدأ جسدي يرتجف وغطّتني غمامة سوداء.. صوت هدير قوي.. القطار يقترب..كان يقترب.. صوت ضجيج يملأ الكون.. يحتدّ.. ثم راح الهدير يكتسح كل شيء .

***************

قصة ( تلك الأيام المضنية) أو بطاقة اليانصيب. واحدة من مجموعة قصص تبحث فيما تبقى من وجع ولوثات عافتها الحروب في النفس البشرية، وبالذات عند أبناء الشعب العراقي الذين نخرت أرواحهم حروب عديدة أشدها إيذاء كانتا حربي الخليج الأولى والثانية، وهما حروب صدام. في تلك الحربين ذهب أكثر من مليون شهيد وتعوق الآلاف وترملت النساء ويتم الأطفال. وهناك من خرج منها مكبل بالوجع بعد أن حزت الحرب بمشرطها روحه وبات يلوك وجعها في ساعات يومه، في صحوه ومنامه، لوثة تغلف كيانه تتلبسه مثل شياطين، فلا يعرف كيف يهرب منها.عندها يثار السؤال الضاج أبدا.

من يسمل عين الحرب ؟

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here