من أجل دولة عشائرية

كامل سلمان

لا يختلف اثنان بأن العراق اصبح اول بلد في العالم وفي التأريخ البشري أصبح دولة عشائرية بهيئة دولة مدنية ، القانون لم يعد يحمي المواطن ، العشيرة فقط تحمي المواطن ، رئيس الدولة يستعين بعشيرته للدفاع عن نفسه وعن حكومته امام خصومه ، لكل عشيرة راية أو بيرق ( البيرق بمعنى العلم الكبير ) وشعار ولكل عشيرة شيخ يحاكي اكبر مسؤول في الدولة ، ولكل شيخ ديوان للعشيرة يوازي مقر الحكومة .
العشائرية ليست تطوراً لكي يفتخر بها ابناء ما بين النهرين ، سيجف النهران لا محالة لعدم وجود الدولة الصحيحة التي تبحث عن مستقبل شعبها ، وسنرى بعدها الى اين تأخذنا العشائرية . يقول احدهم وهو بصدد الدفاع عن العشائرية ( عمودان لا يسقطان العشائرية والمرجعية الدينية وهما سر بقاء العراق ) . السبب الأبعد الذي دفع الناس نحو قبول إقامة الدولة العشائرية هو أن منذ تأسيس العراق الحديث كانت جميع الحكومات الحاكمة تجعل من السلطة والحكم ملك لعشيرة الحاكم ، فتصبح شؤون الدولة كلها بيد عشيرة الرئيس وأقرباءه ، وذلك ضمانة لبقاء الحكم اطول فترة ممكنة وهذا الشيء لم يتولد في العراق الحديث بل له امتدادات تأريخية منذ مجيء الاسلام الى الحكم ، وقد بدأته قبيلة قريش قبل الف واربعمائة عام ، عندما قرر الخليفة الاول بأن الحكم قريشي الى يوم يبعثون ، ثم انقسمت قبيلة قريش على نفسها لتولد انساب من نفس القبيلة حكمت البلاد والعباد توزعت بين نسب بنو أمية ثم بنو العباس ثم النسب الواحد انقسم على نفسه وهكذا كلما كبرت العشيرة انقسمت على نفسها ، لو عدنا الى الوراء الى ما قبل ثمانين عاماً تقريباً كانت العشائر تعد بالعشرات واليوم اصبحت بالالاف ، العشائرية موروث اجتماعي في جميع مجتمعات الدنيا حتى عند الهنود الحمر ، لكنها بدأت بالذوبان مع ظهور الدولة المدنية الحديثة ، فلم يعد للعشيرة وجود في الدول المتحضرة ، فالحماية والامان أصبح القانون هو المسؤول عنه ، الحاجة الى دولة قانونية دستورية قوية تضمن لجميع الناس حقوقهم هي البديل مع تغيرات الحياة ، فالناس اصبحوا في داخل الدولة المدنية عشيرة واحدة ، سمعة وكيان وبناء الاوطان صار الهم الاول لكل مواطن ، أما أن تصبح العشيرة دولة داخل دولة بمعنى الدولة عبارة عن مجموعة دول فهذا ما يحدث الان في العراق بشكل غريب ، بمعنى ان الدولة ذابت بالقوانين والعرف العشائري . . ماذا تعني العشائرية ؟ تعني أن لا هيبة للدولة ، تعني ان الطبيب يخشى اجراء العمليات الجراحية لأن الخطأ يكلفه مقاضاته عشائرياً ، تعني ان رجل المرور يخاف من السائق المتهور كي لا يقع في مشكلة عشائرية ، تعني ان أي مواطن ممكن ان يتعرض لإبتزاز عشائري امام اية حالة يختاره من تقف وراءه عشيرة قوية شرسة ، تعني ضياع حضارة البلد ، تعني البقاء للأقوى ، ومن أراد أن يتنصل عن تبعيته العشائرية ويأبى بنفسه الرضوخ للقوانين العشائرية سيجد نفسه مذموماً مخذولا ، العشائرية تخدم الدولة الدينية ولا تخدم الدولة المدنية لأن الدولة الدينية هي سلطة الوجهاء وليست سلطة القانون وهذا ما توفره الدولة العشائرية .. الدولة العشائرية تعني التراجع التدريجي وصولاً لإنسان العصر الحجري ، بمرور الزمن سينقرض التعليم سينقرض الطب سينقرض البناء ستنقرض الصناعة ستنقرض الزراعة ستنقرض الخدمات وغيرها ، وهذه الاشياء كلها لها المصداقية اليوم في ارض الواقع ، فلا يفرح ابناء الرافدين بالعشائرية فالنتائج الكارثية للدولة العشائرية لم تصل بعد ذروتها بسبب مقاومة اصحاب العلم والثقافة لبقاء الحد الادنى لمقومات المجتمع المدني والدولة المدنية ، وهؤلاء سيعيل صبرهم في يوم من الايام وفي النهاية سيهربون الى ارض الله مثلما هرب أقرانهم من قبل ، عندها ستطفو الى السطح مساوىء الدولة العشائرية . حكام اليوم والاحزاب ورجال الدين الذين يعيشون الغبطة والسعادة بسبب تحويل الدولة الى دولة عشائرية ، وسعادتهم نابعة من كون العشائر خاضعة للمرجعية الدينية ، وهذا يتطابق كلياً مع اهدافهم ومبادئهم في العمل السياسي ، لكنهم لم يحسبوها صح . حسبوها بطريقة بدائية وسيتذوقون مرارة هذا التوجه بكل الم وحسرة ولكن بعد ان يجدوا طريق الرجعة قد صار مستحيلاً . المشكلة عندما يضع أحدنا هذه الحقائق امام الجميع يتهمونه بالزندقة ، يتهمونه بمعادات الانساب العشائرية والمرجعية الدينية ، يتهمونه بالثقافة المنحرفة ، يتهمونه بتجاهل الواقع الاجتماعي للمجتمع العراقي ، وكأنما هذا الواقع ختم من السماء لا يجوز المساس به ، فتتوجه إليه أنواع التهم وقد يتعرض للتعنيف لأنه كشف المستور ، كل ذلك يحدث لأن هؤلاء القوم جهلة لا يفقهون ابجديات التطور ، وليست لهم القدرة في النظر الى المستقبل وعقولهم مغلفة بأقفال محكمة . ولاتجد في أنفسهم غير الظلام الدامس ، ، هذا هو القدر السيء الذي لا ينبغي لأي إنسان عاقل تقبله ، فنحن من حقنا ان نجعل انفسنا بمصاف اهل المعرفة ، من حقنا أن نتطلع الى بلوغ المعالي ، ننافس على ناصية العلم لا أن نسارع الى مستنقع التخلف ، ثم نوهم أنفسنا بأننا الافضل .

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here