الألكترون في الذرّة، تعلمنا معنى الحرية ؟ * بقلم د. رضا العطار
لماذا نقصر امر (الحرية) على الانسان ؟ اللهم إلاّ اذا اردنا بلورة طبيعتها في عبارة لغوية تصفها وتحددها. فإن كل كائنات الكون من الذرة فصاعدا الى الشموس والنجوم و المجرات، وإلى دنيا الاحياء من انسان و نبات وحيوان، نعم، ان كل كائنات الكون لها انصبة متفاوتة من الابداع غير المسبوق باسباب معلومة تنبئ عما يتولد عنها.
فكهارب الذرة ( الكترونات ) تقفز من مدار الى مدار (بحرية) دون ان يكون في مقدور العلم البشري ان يعرف عن تلك القفزات كيف تحدث ؟ ومتى ؟ ولماذا ؟ واذا اراد العلم صياغة قانون يحدد مساراتها، فليس امامه سوى تخمينات يمكنه الاعتماد عليها في عمليات التنبؤ.
اذن فالذرة حرة النشاط بمعنى من المعاني. وعلى هذا الاساس يمكن القول كذلك بشئ من حرية النشاط في سائر الكائنات ما دامت كلها مؤلفة آخرالامر من ذرات حرة، حتى اذا ما ارتفعنا بالنظر الى عالم الاحياء، ثم سمونا في سلم الحياة لنبلغ ذروته متمثلة في الانسان، وجدنا تلك الحرية قد نمت عنده حتى اصبحت (ارادة) حرة
ومن هنا يمكن القول ان فكرة الحرية الاساسية لدى الانسان تكمن في الذرة !
هكذا جاء التحول العظيم في بنية العلم نحو حرية العقل، الذي به انبثقت الرؤى الثقافية بصفة عامة، فبعد ما كان القديم يأخذ بالفروض بغير برهان ويعطي حق التسليم بصحته، اصبح من حق الحديث ان يحرك اوضاع الحياة نحو الافعل والافضل والاقوى.
وهكذا نرى فكرة (الحرية) في بلادنا، حتى عند اكثر المثقفين ضاقت حدودها بحيث كادوا يقصرونها على التخلص من قيود السيطرة الأجنبية بالمفهوم السياسي في اغلب الاحيان. ومثل هذه النظرية الضيقة تضلهم في وهم كبير اذ تجعلهم يتوهمون انهم قد باتوا احرارا وما هم في حقيقة امرهم بأحرار.
فلأن تفك عنهم قيود السيطرة على اختلاف ضروبها لا يعني انهم قد صاروا بذلك احرارا بل يعني انه قد توافرت لهم الظروف التي تمكنهم من ان يكونوا احرارا لو ارادوا، لان الحرية في صميم معناها هي القدرة على العمل في الميدان الذي نريد ان نكون احرارا فيه. ومعنى ذلك هو ان الحرية مستحيلة بغير علم بتفصيلات العمل الذي تزعم لنفسك انك حر في مجاله. فمن تعلم القراءة والكتابة – مثلا – حر إزاء حروف الابجدية. ويستطيع التصرف فيها تركيبا وتفريقا. والزارع حر إزاء ارضه وادوات الزراعة والحرث والري التي يستخدمها، وسائق السيارة الذي يعرف كيف يصلح محرك سيارته اذا اصابه عطب، وكذلك قل في رجل السياسة إزاء المشكلات التي يعالجها في شؤون الحياة الداخلية وفي العلاقات التي تتشابك بين بلده وغيره من بلدان العالم وهكذا فالحرية الحقيقية هي المحصلة للمعرفة الحرة بالمجال الذي يريد ان يكون حرا فيه.
ومن هنا يتضح لنا كيف ان الحرية لا تكون مطلقة لأي انسان وانما هي منسوبة دائما لما يكون الحر على علم دقيق به. وكان افلاطون قد ادرك هذا المعنى للحرية ادراكا واضحا اذ جعلها صفة تدور مع العلم وجودا وعدما، فحينما يكون للأنسان علم بشئ تكون له بالنسبة الى ذلك الشئ حرية بقدر علمه به. وقد فصل القول في هذا المعنى في محاورة بين امير صغير وعبد يخدمه، فمن حق الأمير ان يأمر العبد بما يشاء، وعلى العبد ان يطيع. فالأرادة هي ارادة السادة الذين يملكون الرقاب.
لكن ذلك العبد كان يجيد رياضة الخيل وركوبها، وقد اراد الأب لولده ان يُدرب على ركوب الخيل، فأمر العبد ان يتولى بتدريب ابنه الأمير. بمعنى ان يكون للعبد حق ان يأمر وعلى الامير واجب ان يطيع. اي ان الارادة تصبح للعبد وتسلب من السيد ارادته. واذا قلنا ( الارادة ) فقد قلنا ( الحرية )، ففي ساعات التدريب يصبح الحر هو ذلك العبد، والعبد هو الامير الذي كان حرا. فماذا احدث هذا التغيير في الموقف ؟ انه ( العلم ) بالمجال الذي بين ايدينا وهو مجال رياضة الخيل وركوبها. فمن عرف العلم كانت له السيادة، وعلى من جهل، ان يتبع صاحب المعرفة.
وفي هذا السياق اود ان اقول ان الشعوب التي جاهدت للحصول على حريتها من قبضة المستعمريين، ثم ظفرت بحقها اخر الامر بعد ان اخلى الغاصبون سبيل من كانوا في قبضتهم قد وقعوا في الفخ ولم تكن قد حسبت له حسابه اذ وجدت نفسها ابعد ما تكون قدرة على تزويد اوطانها بما هي في حاجة اليه اذا ارادت تحضرا وتقدما. ومن اين لها القدرة على علم تبتكره لتقيم عليه عملية التصنيع الذي لا غناء لها عنه في سلم او في حرب. ليس امامها الا ان تستعير ممن كان بالامس سيدا يتحكم في ارضها، علومه وصناعاته، فاذا شاء استجاب لها واذا شاء امتنع. فماذا يعني ذلك الا ان سيد الامس هو نفسه سيد اليوم، وكل الفرق بين الحالتين ان سيادة الامس كانت سلطانا ظاهرا وسيادة اليوم هي التي كُتب بها ان تكون للذين يعلمون على الذين لا يعلمون.
اذن كيف نصل الى الحرية الصحيحة ؟ السر يكمن في الطبيعة البشرية ( في الذرة ! ) الانسان بحكم فطرته، مجبول على حب الحرية، ليتاح له الاختيار الحر بين البدائل الممكنة في الموقف المعين لكي يكون ذا مسؤلية خلقية امام ضميره وامام مجتمعه، ان ينتخب الشعب بطريقة ديمقراطية عددا محدودا ينوبون عنه في الاختيار في وضع القرار و لكن الامر كثيرا ما يجاوز الحدود المشروعة ويصل الجشع لدى المنتخب الى ان يبتلع في جوفه ارادة المواطنين جميعهم لتبقى ارادة واحدة هي ارادته.
فإين المفر ؟ الجواب يكمن في التربية، والتربية وحدها هي السبيل. فعلى الشعب ان يفتح امام الجيل الناشئ طريق الحياة، بعد ان يغرس فيه روح التقديس للحرية وفضائل الاخلاق مؤكدا على حب الوطن والذود عنه.
* مقتبس من كتاب حصاد السنين لمؤلفه د. زكي نجيب محمود.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط