القانون الدولي والنزاع في غزة

أسامة خليفة
باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»

تستمر سلطات الاحتلال الاسرائيلية في تغيير الحقائق على الأرض الفلسطينية، وتمارس نظام فصل عنصري ضد الفلسطينيين، وتفرض عقاباً جماعياً وحصاراً غير قانوني على قطاع غزة، حوّله إلى أكبر سجن مفتوح في العالم. وقامت وتقوم اسرائيل بانتهاكات في مجال جرائم الحرب والعدوان والاحتلال، وانتهاكات تتعلق بتهجير الفلسطينيين ومنعهم من حق العودة، والحصار، وهدم المنازل، ومصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، وإقامة جدار الفصل العنصري، وضمّ القدس وتهويدها، والجرائم المرتكبة بحق الأطفال والنساء، وبحق الأسرى، وتلك المرتكبة نتيجة عمليات الاغتيال الميداني… بالمقابل كفل القانون الدولي حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، فالاحتلال السبب الأول والأساسي لكل قضايا الصراع والكوارث الإنسانية، والغرب والولايات المتحدة تتحمل ما يجري من صراع في المنطقة وإمكانية تدحرجه إلى حرب إقليمية، لأنهم أهملوا وتجاهلوا القضية الفلسطينية وحلّها حلّاً عادلاً، وسمحوا لإسرائيل بالعربدة واضطهاد الشعب الفلسطيني.

اسرائيل هي قوة الاحتلال في قطاع غزة، وخطة فك الاشتباك عام 2005 لم تغير هذا الواقع، فالجيش الاسرائيلي أعاد نشر قواته واحتفظ بسيطرة فعالة على قطاع غزة وعلى مجاله الجوي والبري والبحري، حتى حدود قطاع غزة مع مصر تمارس اسرائيل درجة من السيطرة عليها، وآخرها كان قصف معبر رفح في الجانب الفلسطيني منه قصفاً مدمراً لمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى سكان قطاع غزة، وإسرائيل لا تسمح بحركة الأشخاص ولا لحركة البضائع بالدخول إلى غزة والخروج منها عبر الجو أو البحر، وتواصل اسرائيل السيطرة على تزويد غزة بالكهرباء والماء والوقود والاتصالات، وفي كل اعتداء على القطاع كانت تقوم بقطع الكهرباء والماء والغذاء والوقود، إن على اسرائيل بصفتها سلطة احتلال في غزة واجبات محددة بمقتضى القانون الدولي الإنساني، وفي مقدمتها توفير الضروريات الأساسية لمن هم تحت سيطرتها وتحكمها بمصيرهم حيث لا يمتلك سكان غزة الحرية وتقرير المصير وإدارة شؤونهم بأنفسهم في ظل هذا الحصار الإسرائيلي، وبصفة اسرائيل سلطة احتلال يحظر عليها تدمير ممتلكات الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد تسبب القصف الجوي والمدفعي الذي تقوم به اسرائيل إلى دمار واسع النطاق للممتلكات المدنية في كل أرجاء قطاع غزة، ولا سيما في مناطق شمال وشمال شرق قطاع غزة، تلك المنطقة عانت فيما سبق من التدمير الممنهج وغير القانوني لبيوت الفلسطينيين على نطاق هائل في حروب سابقة، كحرب غزة العام 2014، وطبقاً للمادة 147 فإن تدمير واغتصاب الممتلكات على نحو لا تبرره ضرورات حربية وعلى نطاق كبير بطريقة غير مشروعة وتعسفية يشكلان خرقاً فاضحاً لاتفاقية جنيف وهذا من جرائم الحرب.

يشكل مصطلح «ضرورة عسكرية» ثغرة في القانون الدولي الإنساني، تستغلها إسرائيل في انتهاكاتها لحقوق اللإنسان، استهدفت إسرائيل بشكل متعمد قتل المدنيين في غزة، ولم تميّز بين الأهداف العسكرية والمدنيّة، مما أدى إلى خسائر كبيرة بين المدنيين ومقتل عائلات بأكملها ومسحها من السجل المدني، نتيجة الهجمات التي نفذتها ضد أهداف مدنية، من منازل وأبراج سكنية وأفران ومستودعات الأونروا….. قتل المدنيين هذا محظور فمن السهل إثبات أنه تم عن عمد وباستخدام القنابل الذكية، وبررت اسرائيل بادعائها أن وجود حماس وقيادتها في المدارس والمساجد والمستشفيات يجعل من تلك المنشآت أهدافاً عسكرية مشروعة، وقد سبق لتقرير « ريتشارد غولدستون» أن أدان استهداف قائد في حماس (صلاح شحادة) في حي سكني مزدحم، تسبب في استشهاد عدد كبير من جيرانه المدنيين، واعتبرها التقرير جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي.

تعتبر إسرائيل إقامة حماس أنفاقاً عسكرية في مناطق مدنية جريمة حرب، وبنظرها هذا يشرع لها ذلك قصف المنشآت التي تقوم فوقها أو حولها، ففي فترة عملية الرصاص المسكوب استخدمت منظمة العفو الدولية عبارة المدنيين لوصف الأشخاص الذين لم يشاركوا بصورة مباشرة في الأعمال العدائية، حتى لو كانوا أعضاء أو أنصار لمجموعات سياسية لها أجنحتها العسكرية المشاركة في القتال، هم من المدنيين الذين ينبغي عدم استهدافهم بالهجمات، وطبقاً للبروتوكول الإضافي الأول: إذا ثار الشك حول ما إذا كان شخص ما مدنياً أم غير مدني فإن ذلك الشخص يعتبر مدنياً، وطبقاً لقانون روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية فإن توجيه الهجمات قصداً ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه، هو جريمة حرب.

وطبقاً للبروتوكول الإضافي تحدد المادة 48 مبدأ التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ومن ثم توجه عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها.

وتستخدم اسرائيل مفهوم ميزة عسكرية من المادة 51 من البروتوكول الإضافي على نحو فضفاض للتذرع بها لتبرير هجماتها الرامية لإلحاق الضرر بالحالة الاجتماعية السكنية والاقتصادية لقطاع غزة، وضرب الروح المعنوية للسكان المدنيين بغرض إضعاف القدرة على القتال بضرب الجبهة الداخلية مما يشكل تهديداً جسيماً للمدنيين.

وبعد القصف، لم يثبت صحة القول بوجود أنفاق وأهداف عسكرية تحت المشافي والمنازل والأبراج والكنائس والمساجد والأفران والمدارس ومستودعات الأونروا، وحسب القانون الدولي الإنساني يجعل الشك منها أهدافاً مدنية يُمنع قصفها.

وإن تبرير الاعتداء على المدنيين من قبل مسؤولي دول الغرب والولايات المتحدة، والتصريح بحق إسرائيل بالدفاع عن النفس بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب الهمجي، هو تشجيع لإسرائيل على استمرار استهداف المدنيين، ويجعلهم ضالعين ومسؤولين عن إراقة الدم الفلسطيني، وحياة الآمنين، ولاسيما من الأطفال الذين بلغت نسبتهم 66% من شهداء غزة، وكانت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال فرع فلسطين، قد أكدت أن 120 طفلاً فلسطينياً يقتلون كل يوم جراء قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي المتواصل على المنازل في فطاع غزة.

إن للحرب قواعد يجب التمسك بها في جميع الأوقات، ارتكبت تل أبيب بحق سكان قطاع غزة عقب عملية «طوفان الأقصى» جرائم حرب، على أن الهجوم الذي نفذته حماس لا يبرر تلك الانتهاكات، فتجويع السكان ومحاولة إزالتهم من الوجود والقيام بهجمات عشوائية ضد المدنيين وممتلكاتهم انتهاك واضح للقانون الإنساني الدولي ويرقى لمستوى جرائم الحرب، وصفت الممارسات الإسرائيلية في غزة بأنها «تتجاوز حدود الدفاع عن النفس». وكذلك تنتهك إسرائيل في حربها على غزة عدداً من قواعد القانون الدولي، مثل عدم الالتزام بالتمييز بين المدنيين والمقاتلين وتعمد الإضرار بالمدنيين وممتلكاتهم.

يحمّل القانون الدولي الإنساني اسرائيل بصفتها سلطة احتلال واجب ضمان حصول سكان غزة على المؤن الغذائية والأساسية، وعلى العقاقير والرعاية الطبية على نحو كافٍ، فطبقاً للمادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة من واجب دولة الاحتلال أن تعمل بأقصى ما تسمح به وسائلها على تزويد السكان بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية، ومن واجبها على الأخص أن تستورد ما يلزم من الأغذية والمهمات الطبية وغيرها إذا كانت موارد الأراضي المحتلة غير كافية.

وتنص المادة 56 على انه من واجب دولة الاحتلال أن تعمل بأقصى ما تسمح به وسائلها وبمعونة السلطات الوطنية والمحلية على صيانة المنشآت والخدمات الطبية والمستشفيات وكذلك الصحة العامة والشروط الصحية في الأراضي المحتلة، وتسمح لجميع أفراد الخدمات الطبية بكل فئاتها بأداء مهامهم.

وفيما يخص الحالة أثناء القتال، إذا كان كل سكان الأراضي المحتلة أو قسم منهم تنقصهم المؤن الكافية، وجب على دولة الاحتلال أن تسمح بعمليات الإغاثة، لمصلحة هؤلاء السكان وتوفر لهم التسهيلات بقدر ما تسمح لها وسائلها.

حتى لو افترضنا جدلاً أن حماس متهمة –بالمفهوم الغربي والأمريكي- بالقيام بعمل «إرهابي»، لا يجوز معاقبة أي شخص محمي عن مخالفة لم يقترفها هو شخصياً، تنص المادة 33 من البروتوكول الإضافي: على أنه تحظر العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الإرهاب، ووضحت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن هذا يحظر العقوبات الجماعية التي تُفرض على مجموعة كاملة من الأشخاص، على أفعال لم يرتكبها هؤلاء الأشخاص.

وجدت منظمة العفو الدولية أدلة دامغة على أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب وانتهكت القانون الدولي الإنساني في حروبها على قطاع غزة، وذلك في تقرير نشرته المنظمة وثّق هجمات إسرائيلية عشوائية غير قانونية على القطاع، وأضافت المنظمة أن إسرائيل استهترت بشكل صادم بأرواح المدنيين، ودمرت البنية التحتية في القطاع، مؤكدة أنها لم تجد أدلة على ادعاء الجيش الإسرائيلي أنه يهاجم أهدافاً عسكرية فحسب.

تفتعل اسرائيل أزمة نزوح إسرائيلية للتغطية على جرائمها وانتهاكها القانون الدولي، وتبرير تهجير كل سكان غزة، حيث أعلنت عن نزوح أكثر من 120 ألف إسرائيلي من مناطق على حدود لبنان وغلاف غزة، وأقامت لهم مخيماً في جنوب فلسطين المحتلة عام 1948، وهنا يفرق القانون الدولي بين الإخلاء والتهجير، فالأول قانوني بموجب القانون الدولي مثل إجلاء سكان غلاف غزة وجوار الحدود اللبنانية، لضمان حماية وأمن السكان ولإعطاء الفرصة والحيز للعمليات العسكرية، والثاني غير قانوني، وهو تهجير السكان، حيث أمر الجيش الإسرائيلي أكثر من مليون مدني في الجزء الشمالي من قطاع غزة، أي ما يقرب من نصف إجمالي سكان القطاع، بالانتقال إلى جنوب القطاع، ونظراً لأن البنية التحتية في قطاع غزة مدمرة، وعدم وجود أمكنة آمنة يمكن أن يذهب إليها هذا العدد الكبير من الناس، وتنفيذ الأمر الإسرائيلي لا يضمن السلامة، ووقوع شهداء في هجوم إسرائيلي أثناء فرارهم جنوباً يوم الجمعة (13 تشرين الأول/أكتوبر). فإن الأمم المتحدة تعتبر عملية الإخلاء مستحيلة، وبالتالي أمر الإخلاء هو تهجير وانتهاك للقانون الدولي، ويحظر القانون الدولي أي محاولة لإسرائيل تهجير السكان من قطاع غزة بأكمله، ويحظر “البروتوكول الإضافي الثاني” إصدار أوامر بالنزوح القسري للسكان المدنيين لأسباب تتعلق بالنزاع.

يرقى الحصار المفروض على قطاع غزة إلى مرتبة العقوبات الجماعية لجميع سكانه، وتحظره اتفاقية جنيف الرابعة، إذ يشكل حرمان السكان في أراض محتلة من الغذاء والماء والكهرباء، واستخدام التجويع سلاحاً، عقاباً جماعياً، وجريمة حرب، وتفرض إسرائيل حصاراً شاملاً على قطاع غزة، بأوامر صريحة من وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، حين تحدث أنه أمر بفرض حصار كامل على قطاع غزة، سيتم من خلاله قطع إمدادات الكهرباء والمياه والغذاء والوقود عن غزة، وأن ذلك سيطال كل سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة بـلا كهرباء ولا طعام ولا مياه ولا غاز، وأنه سيعلق كل شيء، ثم أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية أنها أمرت بقطع فوري لإمدادات المياه إلى غزة.

طالبت منظمة «أطباء بلا حدود» المحكمة الجنائية الدولية أخذ العلم بهذه الدعوة إلى ارتكاب جريمة حرب، وتعرض غزة لعقاب جماعي، ما يشكل انتهاكاً للقانون الدولي، وطالبت المنظمة إسرائيل بالوقف الفوري لهجماتها غير القانونية والالتزام بالقانون الدولي، والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى القطاع الذي يعاني من انهيار القطاع الصحي وانقطاع الكهرباء ونفاذ الأغذية.

وطالبت منظمات تهتم بحقوق الإنسان، حلفاء إسرائيل، الضغط على إسرائيل لرفع حصارها غير القانوني المفروض منذ 16 عاماً على القطاع، والامتناع عن الإدلاء بتصريحات من شأنها إضفاء الشرعية على الانتهاكات الإسرائيلية، وكشعب فلسطيني أصبحنا نعتبر هؤلاء شركاء في انتهاكات حقوق الإنسان في غزة، وفي عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة، ونحملهم المسؤولية القانونية.

يحظر القانون الدولي ما يسمى بالعقاب الجماعي، وفي هذه الحالة العقاب الجماعي لجميع السكان الفلسطينيين في قطاع غزة، ليس جميعهم أعضاء في حركة حماس وليسوا جميعاً مسؤولين عن هجوم 7 تشرين أول / أكتوبر لكنهم يتأثرون برد فعل إسرائيل العشوائي، وهم من يدفع الثمن للعنجهية الإسرائيلية وعدم مبالاتها بالقوانين الدولية.

في هذا السياق، يحظر القانون الدولي صراحةً تجويع السكان المدنيين، وفرض حصار كامل، بحيث ينفد الطعام ومياه الشرب، وتؤدي إلى حالة مجاعة للسكان المدنيين.

وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أعرب عن قلقه الشديد بعد إعلان إسرائيل فرض حصار مطبق على قطاع غزة وقطعها الماء والكهرباء ومنعها دخول الطعام إليه، وصرح غوتيريش بأن الوضع الإنساني في غزة سيتدهور بشدة، مؤكداً أن التصعيد العسكري الأخير نشأ من صراع طويل الأمد مع احتلال دام 56 عاماً، ولا حل سياسي في الأفق، وذكّر غوتيريش إسرائيل بأن عملياتها العسكرية يجب أن تنفذ باحترام تام للقانون الدولي الإنساني، وطالب الأطراف المعنية بالسماح للأمم المتحدة بمواصلة جهودها لتأمين المساعدات للاستجابة لحاجات القطاع.

وأوضحت منظمة العفو الدولية أنها لا تزال تحقق في عشرات الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة. وتتهم منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية، “بتسيلم”، إسرائيل بارتكاب جرائم حرب نظراً لحجم الضربات الجوية والحصار. وقال الدكتور تريستينو مارينييلو، أستاذ القانون الدولي في جامعة ليفربول وعضو الفريق القانوني لضحايا حرب غزة أمام المحكمة الجنائية الدولية، إن ما تقوم به إسرائيل في غزة جرائم حرب ترقى إلى الإبادة، ويمكن أن يشكل ملفاً متماسكاً يتيح رفع دعوى ضد الاحتلال الإسرائيلي أمام المحكمة.

وهذا يقتضي ضرورة البدء في جمع المعلومات والأدلة من قبل هيئة التحقيق الدولية، وكذلك المنظمات الدولية الأخرى، لتقديمها إلى المدعي العام وإقناعه بوجود ما يكفي من الأدلة للبدء في التحقيق.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here