الفارق بيني وبين كولومبس في عبورنا للأطلسي !

* بقلم د. رضا العطار

ان الرؤية الحضارية التي استحدثت في الغرب ابان القرنين الأخيرين، جعلت لعصرنا هذا ملامحه الخاصة التي تميز بها دون سائر ما سبقه من عصور. ولم تكن هذه الرغبة مستنكرة من احد على المستوى العملي في حياة الناس الجارية. بمعنى ان الثمرات التي انتجتها حضارة العلم الجديد لم يكن بين عامة الناس من يستنكرها، وإلاّ فأين هو ذلك الفرد الذي يرفض ان يطبب بأجهزة الطب الحديث اذا مرض ؟ او الفرد الذي يستنكر ان تقام على ارضنا صناعة من الطراز الحديث ؟

وحتى اذا نحن جاوزنا ميدان التقنية بصوره المتعددة والقينا نظرة على النظم الاجتماعية في كثير من اوضاعها، وجدنا للفكر الجديد موقعا منها لا يوجد بين الناس من يستنكره. فمن ذا يستنكر قيام صحافة على النحو الذي نألفه ؟ واذاعة مرئية ومسموعة على الوجه الذي نمارسه ؟ واذا كان ذلك كله مرغوبا فيه، فكيف يقام بغير العلم والفكر الجديد ؟

لم يكن عيبا فينا ان اخترنا عن الامم الرائدة في عصرنا ما يعيننا على رسم الصورة التي تلائمنا. واترك للقارئ ان يدير النظر في جوانب حياتنا الاجتماعية كنظام التعليم ونظام ري الارض وطرق التمتع المفيد في اوقات الفراغ وغير ذلك مما قد يقع تحت حصر يحدده، كما يدير النظر بما نقلناه عن رواد الحضارة الجديدة في عصرنا دون ان يرتفع صوت واحد ليستنكره. وهذا يعني ان جمهورنا قد قبل العصر عن رضا وطواعية، لكن اذا دعونا هذا الجمهور ان يشارك في زرع الشجرة كي يستفيد من ثمارها، رايناه يتململ في ضيق وكراهية، وفي هذا الرفض تكمن مشكلة الفكر المحيرة.

كان ينبغي للحركة الثقافية في بلادنا ان تجعل سؤالها الاول هو: كيف ننقل موقفنا من حضارة عصرنا وهي من صنع الغرب من الاكتفاء بقطف ثمارها، وهي ثمار اخرجتها اشجار لم نكن نحن زارعيها. الى موقف المشاركة في زرع الاشجار منذ مرحلة البذر وحتى مرحلة الأزدهار ونضج الثمار ؟ اننا نخدع انفسنا بأيهامنا بانها قد اضطلعت بقسطها العادل في اقامة البناء الحضاري في عصرنا الحاضر، ما دمنا نعلم ابنائنا وبناتنا كل العلوم في احدث صورها متجاهلين ان تلك العلوم في صورتها هذه لم تكن الا من قرائح علماء العالم المتقدم، اننا اشتريناها كما نشتري سائر السلع من اسواق الغرب.

اذ اشترينا مؤلفاتها واجهزتها وطرائق استخدامها ثم خدعنا انفسنا حين شاهدنا المصانع وقد اقيمت على ارضنا وقام على ادارتها مواطنونا متناسين ان كل ما قد عملناه من آلات انما كان بدوره سلعة اخرى، وان ما تعلمه طلابنا وخبرائنا علما وخبرة انما كان من انتاج الغرب كذلك.

يستذكر كاتب السطور عام 1983 حينما كان يعبر المحيط الأطلسي الى الولايات المتحدة، ويذكر تلك الليلة وهو في الطائرة فيقول :

كنت انظر من خلال زجاج النافذة بجواري، وارى ذلك المنظر الآخاذ بمجاميع القلوب، فتنة وروعة. وقد تفتحت امامي آفاقا ممتدة الى غير نهاية، ارسل البصر الى السماء وقمرها الساطع يضيئ بساط السحب المتناثرة، وانا مستريح فوق الوسائد والحشايا . . لقد غادر بي الطائرة مطار بغداد في موعد محدد وسوف اصل في موعد معلوم. يدار علي الطعام الشهي في اوقاته، من مضيفة حسناء رقيقة، مهذبة الكلام، عذبة الابتسام، والطائرة تضبط لي درجة الدفء حتى لا ينال مني حر او برد، وانام ملء اجفاني اذا احسست رغبة في النوم، لكن عندما اسندت راسي الى وسادة مقعدي الوثير، انساب في راسي الخواطر، بادئة بهمسة تقول: هنا يوجد الفرق بينك وبين الملاح الجريء كولمبس واصحابه، الذين عبروا هذا المحيط قبل خمسمائة عام في سفن شراعية، كانت الامواج العاتية تصادفهم، فتضرب جوانبها بعنف شديد، ويوسوس الشيطان مما عساهم يلاقونه من امواج اشد افتراسا، وماذا هم صانعون، لو طال بهم الطريق المجهول في بحر الظلمات، اذا ما فرغ الزاد من طعام وماء عذب ؟ هكذا مرت الايام عسيرة وهم مأخوذون بحالة الترقب والقلق والتوتر الدائم. فاذا ما نال المرض من بحارته، فمن تأخذ المنايا من تختاره منهم، يلقون بجثته في البحر بعد ان يجتمع له الرفاق الاحياء للصلاة عليه.

ارجع واقارن بين رحلتي الرحبة الرضية المستريحة هذه برحلة كولومبس الشاقة و المصحوبة بالمخاطر والاهوال، لنعلم كم يكون البون شاسعا بين من ابدع، وبين من جاء بعده لينعم بما قد ابدعه سواه.

وانا اليوم اعبر المحيط الاطلسي في ساعات معدودة، يحف النعيم من حولي وانا اعوم في اعالي الفضاء، طافح بالحيرة والحبور، متسائلا : اين نحن من هذا العالم الحديث وعلمه الوفير ؟ – – ألا يكون الاجدر بنا ان نكف عن التباهي بعصر حضارتنا الغابرة ؟

اننا نخدع انفسنا بأيهامها باننا ما دامت تملك المصابيح الكهربائية لتضيء لها فتزيح عنها سواد الليل، قد اصبحنا على درجة سواء مع من ابتكر تلك المصابيح، وما دامنا نعرف كيف نزيل الصداع بقرص الاسبرين، فقد تساوينا مع من ابتكر الاسبرين وما دامت شفاه الناطقين بالحرية ، واقلام الكاتبين تدونها، فقد باتت حرة كالذين كشفوا بالعلم بعض السر من ظواهر الكون، فسخروا تلك الظواهر بمقدار ما كشفوا عن سرها، انها حرية اللذين يعلمون، يقهرون بها ما كانت تفرضه عليهم سطوة الطبيعة من عقبات.

هكذا كنت اؤمن اشد الايمان بان قلوبنا التي ومضت بالامس بنبضات الحياة وعقولنا نطقت على امتداد تاريخها بكلمات الحق لتسمع عنهم ارجاء المعمورة، قد ران عليها صدأ الوخم والخمول. فلا القلوب تنبض بالحياة كما كانت تنبض ولا العقول تنطق بالحق كما نطقت، واصبح سؤالنا الاهم هو: كيف السبيل لنصبح كما امسينا ؟

كيف يتبدل الوهم يقظة والخمول حركة والكسل نشاطا والغباء وعيا يبدع ويبتكر ؟

الجواب هو انه لا بد لنا من عزمة الارادة، فبالأرادة نغير ما ران على قلوبنا وعلى عقولنا، وبفضل الهمة يتغير لنا وجه الحياة، ليبتسم بعد عبوس طال اجله. ومفتاح ذلك كله هو ان نستبدل فكرا بفكر وان نغرس في ثقافتنا بذورا لتنمو وتروق، فنتحول من ثقافة قعود وسكون الى ثقافة الانتفاضة والحركة.

ليست ثقافة الفرد او الشعب ضربا من ضروب الترف، اما ان تبقى، فتبقى صورة الحياة معها براقة بوميضها، مزدانة بحليها، واما ان تزول فيزول عن الحياة بريقها وزينتها، لكنها مع ذلك تبقى حياة. كلا، بل الثقافة هي نفسها محركات وموجهات للسلوك، فينشأ المواطن مزودا بما يجوز له ان يفعله وما لا يجوز، بما يراه جميلا وما يراه قبيحا، ينشأ مزودا بخطة عمل بنيت كلها على اساس مجموعة من القيم والمبادئ لا يطمئن الفرد ولا الرأي العام الا اذا جاءت الافعال محققة لتلك المبادئ والقيم. فالأمر في ذلك هو كما وصفه ابو العلاء المعري حين قال:

وينشأ ناشيء الفتيان منا * * * على ما كان عوّده ابوه

واذا كانت علة العلل كامنة في مثل هذا الغموض الفكري، فلماذا لا نعالج تلك العلة عند المنبع – كما يقولون – ليستقيم الفكر ويدعم السبيل لأرادة التغيير

( مقتبس من كتاب حصاد السنين لمؤلفه زكي نجيب محمود مع التصرف )

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here