بمناسبة اليوم الدولي لمكافحة الفساد قراءة في أثر الصراعات في نشر الفساد في الشرق الأوسط

كريستين حنا نصر
يحتفل العالم في التاسع من شهر كانون الاول/ديسمبر من كل عام باليوم الدولي لمكافحة الفساد، الذي تقرر الاحتفال به بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2003م استناداً لاعلان الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، وقد خصصت احتفالية هذا العام 2023م لتوضيح الصلة الوثيقة بين مكافحة الفساد والسلام والأمن والتنمية.
وبالنظر إلى هذه المفردات الاربعة السابقة، نستشعر التداخل والتشابك الواضح بينها في منطقتنا، التي ما تزال تعاني من ارتفاع حدة الصراعات وتراجع مؤشرات التنمية وفرص وجود السلام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، حيث شهدت المنطقة ( الشرق الاوسط) عوامل عديدة سببت استفحال الفساد، أبرزها وجود الصراعات خاصة الطائفية والعرقية، والتي نتج عنها بروز ملامح ضعف البلدان، وتزايد حجم التدخلات الخارجية في ادارة هذه الصراعات وانتهاكها لسيادة الدول الدائرة فيها، كذلك يعتبر عدم النضوج الفكري السياسي في بعض بلدان المنطقة عاملا اخر من عوامل ارتفاع مؤشرات الفساد، والذي تولد عنه تدني الثقافة السياسية والاجتماعية ، التي من سماتها فقدان لغة واسلوب الحوار الداخلي بين مختلف المكونات الاجتماعية داخل الدولة، الامر الذي أدى الى استغلال الواقع من قبل بعض الاحزاب الطائفية في منطقتنا الساعية لتنمية وتغذية مصالحها الخاصة بمعزل عن المصلحة الوطنية العليا، وبالنتيجة ازدادت هيمنة منظومة الفساد، وبالتالي للاسف المستفيد هو ليس المواطن العادي في الدولة بل المستفيد المواطن الموالي للاحزاب الطائفية التي تتفرد بالمكاسب على حساب الاخرين، كذلك برزت بسبب منظومة الفساد على مستوى المنطقة من الناحية الواقعية نظم سياسية فشلت في الادارة وانعدمت معها قيم الديمقراطية والتعايش والتنمية والتطور، بل وتزايدت عملياً انتهاكات حقوق الانسان واحتكرت السلطة وظهرت انقسامات حزبية وطائفية ساهمت في عسكرة داخلية تتعارض مع الجيوش الوطنية، كما هو الحال على سبيل المثال في العراق والسودان واليمن وسوريا، مما حول الواقع الوطني فيها الى كارثة حقيقية، كما هو في دول ذات تاريخ عريق مثل العراق بلاد حضارة ما بين النهرين التي تعود جذورها الى ثلاثة الاف عام قبل الميلاد التي تميزت آنذاك بنظام حكم سياسي وعسكري نموذجي في حينه، والذي يعيش للاسف اليوم انقسامات غاب معها احترام الدستور والقانون مما عزز ظاهرة الفساد الذي هدرت معه ملايين الدولارات، علما بانه بلد ذو مدخولات سنوية نفطية كبيرة متأتية، ولكن على اثر الفساد أصبح شعبه فقيراً، كذلك الحال في لبنان بلد الصحافة والطباعة والديمقراطية الذي تحول بكل اسف الى بلد ملوك الطوائف المعاصر الذي تجتاحه المشاكل والمعاناة الاقتصادية، حيث تعيث فيه المليشيات والكتائب المسلحة، ولم تستطع احزابه الطائفية المتصارعة انتخاب رئيس يحكمه ويدير شؤونه حتى الان، مع الاخذ بعين الاعتبار التدخل الايراني من خلال اذرعها التي اضعفت سيادة لبنان وشكلت وكلاء لها في اليمن وسوريا والعراق مرتبطين بفتاوى مرجعيتها الدينية ، وينفذون اجندتها ومصالحها دون اعتبار للمصالح الوطنية، وبنفس السياق نلمح المطامع والمصالح التركية ودعمها لأحزاب سياسية دينية في بعض البلدان العربية مثل سوريا التي تسعى الى اعادة رسم خريطتها من خلال دعم الجيش الوطني المتواجد في الشمال الغربي السوري، اضافة الى تدخلها في سيادة وأمن العراق، وقطع المياه عنه مما ادى الى جفاف نهري دجلة والفرات مما الحق الضرر بزراعته واقتصاده، وبالتالي فان هذه التدخلات عززت من غرق بلدان منطقتنا بالفساد بكافة اشكاله بالاخص هدر المال العام الذي يعتبر اخطرها لانه ينهش في جسم الدولة وميزانيتها.
اليوم هناك حاجة حقيقية اذا اردنا مكافحة الفساد والقضاء عليه، تتمثل في تجذير ثقافة وطنية شاملة تترسخ معها معايير الولاء والانتماء واعتماد الحوار الوطني الديمقراطي، سعياَ نحو ايجاد حكومة دستورية مدنية تتجاوز فكرة الاستبداد وتتحاشى مظاهر السلطة المطلقة، مهمتها الرئيسية وطنية تتمحور في حل جميع المشكلات الداخلية، علماً بأن من بين تحديات الحكومات المدنية التي يجب عليها مواجهتها هي ما يمكن تسميتها بالاحزاب الدينية السياسية على اختلاف أشكالها والتي نشط بعضها في منطقتنا فيما سُمي بالربيع العربي، فالدولة المدنية المنشودة بطبيعتها ومضامينها قوة مهمة في مواجهة الفساد، إذ تتمسك الدولة المدنية بالدستور القائم على المساواة، كذلك تتقيد في معاملاتها على لوائح حقوق الانسان والديموقراطية والعدالة والكرامة الانسانية، وتتميز بانفتاحها الاقتصادي نحو السوق المفتوح وتوفير المناخ الملائم والآمن للاستثمارات، ومما لاشك فيه أن الدولة الاردنية وبالنظر الى دستورها وتشريعاتها الناظمة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فانها تعد نموذجا ناجحاً على الدولة العصرية المدنية التي تحافظ على جهود مكافحة الفساد والحفاظ على السلام والأمن والمضي قدماً نحو التنمية المستدامة والاصلاح، خاصة مع استحداث مؤسسات معنية بمكافحة الفساد تتوفر لها الاستقلالية والارادة الفاعلة، ليسجل الاردن رقما دوليا متقدما في مكافحة الفساد.
إن ما نشهده في ديمقراطيات بلدان العالم من مظاهر الديمقراطية السياسية البعيدة عن التصارع والصدام، بما في ذلك الانتخابات النزيهة ( الرجل المناسب في المكان المناسب) والتمثيل الشعبي الحقيقي البعيد عن المحسوبية في التعيينات على اساس جهوي أو عائلي أو طائفي دون معايير متوافق عليها، يعزز الشعور لدينا باهمية العمل بشكل اكثر جدية في مجتمعات منطقتنا للوصول الى العدالة والكفاءات الوظيفية في كل مجالات الحياة، وبالمحصلة نصل الى مجتمعات شرق أوسط خالية من الفساد بكافة انواعه إذا تم تطبيق هذه المعايير المدنية بولاء وطني مطلق .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here