فرات المحسن
أشاعت العملية السياسية ، بين أوساط المجتمع، وعلى مدى السنوات العشرين الماضية، الإحساس بضعف التآزر الاجتماعي والخوف والقلق من انعدام الضمان المستقبلي والتعرض المفاجئ للخطر، وانعدام الثقة والشكوك والتطير من إجراءات السلطة وممثليها، وهم ممثلو الأحزاب الحاكمة، مما جعل الكثرة من الشعب العراقي تجد في العزوف عن المشاركة في الانتخابات، واحدة من أوجه رفض العملية السياسية برمتها كآليات وشخوص. ولم تظهر وعلى مدى تلك الأعوام قيم توسطية يمكنها جسر الخلاف أو قمع الشكوك وإبعاد المخاوف وتطمين النفوس، لدى هذه الشرائح الشعبية الواسعة من خلال إشراكها الفعلي بالقرار والمسؤولية وعبر التمثيل الحقيقي والشفاف والتضامن المجتمعي، بل العكس دائما ما كان أداء السلطة وأحزابها يغذي نوازع الفرقة ويكون مجافيا وبعيدا عن طموح الجماهير ومحبطا لمشروعية آمالها بالحرية والتقدم والديمقراطية.
ونتيجة لهذا الشرخ الفاضح والمؤذي. فنحن بحاجة ماسة لمعرفة وتدقيق مجموعة القيم التي من خلالها نحكم بشرعية مؤسسات السلطة ومدى تمثيلها لطموح الناس وتطلعاتهم، وقبلها معرفة مدى المشاركة الجماهيرية التي تدعمها الوقائع، وعلى وفقها تم تفويض تلك المؤسسات لتمثيل الجماهير التي انتخبتها. وتتمثل تلك القيم منذ البداية بحقيقة التفويض وشخوصه وغاياته وشفافية البرامج ومسؤوليتها في الشراكة البعيدة المدى القانونية والسياسية،وتوفر نظام اقتراعي منصف وتبني أساليب مكشوفة توفر إجراءات تسجيل وتصويت للجميع، مع قانون ونظام عمل حزبي منضبط يقر بالتعددية السياسية ويقصي بعيدا لغة السلاح، مع تمتع جهة الإشراف باستقلال كامل عن سيطرة الحكومة والأحزاب، وقبل كل هذا، البحث في مدى عدالة وفعالية القوانين التي تحكم التنظيم الحزبي الداخلي وطبيعة الحرية السياسية التي يتمتع بها أفراد التنظيم ووسائل تمويله المالي . وهذه القيم بالذات تستخدم كمقدمة لفهم مجريات العملية الانتخابية الديمقراطية.
ولكننا دائما ما نجد تلك القيم تختفي ويستغنى عنها لصالح مصالح حزبية وفئوية، مما يجعل النوايا تبتعد ببون شاسع عن خيار البحث عن ضمانات لعملية انتخاب شفافة وحقيقية وفاعلة، وعندها ينتج إثرها وبشكل فج مؤسسات لا تملك غير شرعية الأحزاب والقوى التي أدارت العملية الانتخابية وفق خياراتها وأساليبها، بعد أن أقصت بالقوة والعنت جميع تلك القيم. ونتيجة لطول عهد وتكرار تلك الممارسات والتدخل الفج لقوة المال والسلاح، لذا وجدت آليات لدولة عميقة حقيقية تتحكم وتدير دون حياء وخوف وبعيدا عن رغبة الأغلبية، قواعد وطرق العملية الانتخابية.
فمجموعة القيادات والشخصيات السياسية التي شاركت المحتل الأمريكي وعملت تحت شروطه ووصايته، شرعت بوضع آلية اختزال الحراك المجتمعي وتقنينه عبر تصعيد الانفعالات ونوازع الشد والنفرة والتطير الطائفي والقومي ، ونجحت محاولاتها تلك في شطر لحمة المجتمع العراقي على هشاشتها إلى أنداد وخصوم ، لتطفو على السطح بشكل فج وقبيح تلك التشوهات وتصبح قواعد ومعايير في احتساب الولاء للجماعة، أو ما روج له وأطلق عليه التخندق أو التآزر المجتمعي القومي والطائفي ومثله المناطقي .
ومع ضعف السلطة صعدت القبائل من سطوتها ومكانتها كمنظومة اجتماعية سياسية لها دور فاعل في تقرير مصائر الأفراد والجماعات والتأثير في أعمال مؤسسات الدولة، وقبلها في سير العملية الانتخابية. ومثلها فعلت المؤسسة الدينية لتحل رؤيتها وفتاويها في الكثير من الأوقات بديلا عن القوانين الوضعية والدستور، وساعد هذا التصعيد ، على استشراء ظواهر هجينة وغريبة في المجتمع، ولعبت البطالة والجهل المجتمعي الفعل المؤثر في تفجير الخصومات وشق الصفوف وبناء استحكامات خاصة لخلق التضادات.
شكل ظهور الفصائل المسلحة وبالذات التابعة للتنظيمات الحزبية والدينية، الملمح الأكثر سطوة ونفاذا في تفجير الخطر الداخلي ورفع مستوى العدوانية في العلاقة بين التشكيلات المجتمعية، ليسفر عن عداوات وتشنجات تتبنى منهج محاربة وقمع ما سمي بالمخالف فكريا وعقائديا. وخلق مواجهات مفتعلة بادعاء الخوف من الأخطار المحدقة جراء محاولات انتقام يمكن أن يقدم عليها الخصوم.
وترسيخا لتلك الهواجس وتعميما للغة الخصومة والترقب والخوف، فرض على الكثيرين تسليم زمام قيادتهم واجبروا على الخضوع لقانون الولاء الأعمى للجماعة أوالطائفة والعرق أو العشيرة أو المنطقة ، وقبول ما يملى عليهم، ليتحول الفرد إلى رقم في مجموعة الصنف المدجن ، ليصل في البعض من الحالات إلى ما يشبه الغيبوبة وفقدان الوعي، حيث يسلم الفرد مصيره لما فوق، دون إثارة التساؤلات ، وعندها لا يجد الفرد ضيرا في مواقف التبخيس التي يتعرض لها، ولا حتى في حالة فقدان قيمته الإنسانية.
ففي مثل هذا الولاء الأعمى يكون التنظيم القوي المدجج بسلطة المال والقوة هو الحاضن والرفقة التي تضمن للفرد الحماية قبل أية مؤسسة أخرى. وعندها يصبح ولاء الفرد ناجزا وغير خاضع للريبة والقلق. فالتنظيم هذا يكون مصدرا للاحتماء من الخصوم، وفي ذات الوقت مصدرا للرزق، ويجد الفرد في ذلك الحيز ما يضفي عليه نوعا من التوازن النفسي، ولا حاجة له للتفكير فيما هو صالح أو طالح، فهناك من يفكر بدلا عنه، ولديه القدرة على إبعاد التهديد الذي يراه حسب التفسير العقائدي قادما لا محال من الطرف الأخر
ولا تبتعد العديد من مؤسسات الدولة عن مثل هذه المشاهد المشوهة وتلك الحالات المعقدة. فأوامر وتوجيهات الأحزاب المشاركة بالسلطة تلعب أدوارا حاسمة ومؤثرة في تراتيبية وسلوك تلك المؤسسات، وغالبا ما يكون ولاء مدرائها و الكثير من طاقمها الوظيفي ناجزا ومؤثرا لجهة حزبية بعينها وعلى وفق طرق البناء المحاصصي الذي بنيت عليه مؤسسات الدولة بعد التغيير عام 2003 .
ولذا انعكس تأثير تلك الولاءات في مشاهد ضعف الحراك الجماهيري واقتصاره على مجاميع ليست بالكبيرة نسبة لأعداد المتضررين من سياسات السلطة. ولذا نرى من الخطأ والإجحاف منهجيا دراسة حراك الشارع العراقي وميول أفراده الشخصية وكتله المجتمعية، وتأثير ذلك في النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية المتعددة أو انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، دون البحث في العلاقة الجدلية بين طبيعة تلك الموالاة والإصطفافات الفردية والجماعية، وقوة تأثيرها في مجمل وقائع الحراك الجماهيري أو في نتائج الانتخابات. والتي أصبحت اليوم سمة مميزة لواقع العملية الانتخابية في العراق. فالولاءات الشخصية والدينية والحزبية والعشائرية وحتى المناطقية، وبسبب السياسات التي اتبعتها السلطات الحاكمة على مدى العشرين عاما الماضية، باتت الفضاء الواسع الذي تتمكن من خلاله الأحزاب، فرض سطوتها وخياراتها للسيطرة على نتائج الانتخابات ومن ثم إحكام قبضتها على مفاصل الدولة العراقية ومؤسساتها.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط