عصام الياسري
مع استمرار الوضع السياسي المتهرئ في البلاد على حاله، والصراع وجها لوجه بين الخصوم، شيعي سني، مقابل الكرد، البارتي والوطني، لا زال شديدا، على الرغم من مرور ثلاثة أسابيع على انتخابات المجالس المحلية للمحافظات. لا زالت “عساكر الانقسام” السياسي الطائفي، في ظرف خطير للغاية، لم تفكر، ليس من باب المصلحة الوطنية العامة، إنما مصلحتها الخاصة على أقل تقدير، عدم ملء الخنادق أكثر من ذلك. والواضح أنها لم تدرك للحظة خطورة تجديف نتائج الانتخابات لنفسها فيما يتعلق بانتخاب رئاسة المجلس التشريعي بطريقة تتنافى مع الدستور والقانون. ولم تستوعب أن حقيقة النتائج تلك، ليست سوى أغلبية ضئيلة ولا شيء أكثر من ذلك. إذ إن حجم أصوات الناخبين التي حصل عليها أي حزب من الأحزاب المشاركة في الانتخابات، بمفرده، لن يتخطى عقبة 0:01 %. النتيجة، هل هذه نهاية الصراع على السلطة؟ بالتأكيد لا. إذ إنهم سيحاولون إبقاء النزاعات منبطحة تحت الغطاء حتى انتخابات 2025 الاتحادية، يسوقون نتائج المحلية على أنها عاصفة رعدية للتطهير السياسي وتأكيد الحضور.
وعلى الرغم من مرور عقدين على تغيير النظام، فالعراق لا زال يعاني العديد من المشاكل المذهبية والعقائدية والقانونية، التي تهدد طبيعة تنوع المجتمع العراقي والحريات العامة. أيضا من سوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية وانتهاك القيم الإنسانية وحرمة القانون وحرية الرأي والتعبير. وفي الآونة الأخيرة ازدادت وتيرة ملاحقة الفائزين بالانتخابات وتهديدهم بالوعيد وسياسة الترغيب وغسل الأدمغة، لوأد طموح الناخبين في أكثر من ثماني محافظات في وسط وجنوب العراق، ثم امتدت رقعتها لتشمل المحافظات الغربية.
ولا زالت أحزاب السلطة الطائفية والاثنية “الشيعية والسنية والكردية”، التي وصلت إلى دفة الحكم في غفلة سياسية واجتماعية وفكرية، وبدعم من المحتل الأمريكي، تستنزف موارد العراق وتلعب بمقدراته دون رقيب أو حسيب، مما أدى إلى إنتاج طبقة سياسية فاشلة، تستأثر بالامتيازات السلطوية وحماية الفاسدين. وعانت الطبقة الوسطى المهمة في بناء الدولة العراقية منذ نشوئها من التآكل بشكل مقلق، فبعد أن كانت لحد عام 2007، تمثل 61 في المائة، انخفضت باستمرار إلى 30 في المائة من السكان. في الوقت نفسه، تضاعفت نسبة الطبقة السفلى “الفقراء” ثلاث مرات تقريبا من 23 بالمائة إلى 60 بالمائة. كما حلت بين عامي 2007 و 2020 طبقة جديدة من “الأثرياء الفاسدين” محل الطبقة العليا القديمة “الأغنياء” المشهود لها بالوطنية وإعمار العراق، وتقلصت من 16 في المائة من السكان إلى 10 في المائة. وتحت ذريعة الديمقراطية، تماهت الأحزاب التقليدية الليبرالية واليسارية في مغازلة أحزاب الإسلام السياسي والتيارات القومية الشوفينية داخل ما يسمى بالعملية السياسية، مما أحدث بشكل خطير للغاية خللا في موازين القوى.
ومنذ تشكيل “مجلس الحكم” سيء الصيت ولغاية اليوم، لم يتغير النسق الإجمالي في سلوكيات الطبقة السياسية. فالوزارات المتعاقبة تشكلها أحزاب وتكتلات عرقية وطائفية، تتناوب بالتوافق على إدارة شؤون العراق. يرافق ذلك خرابا ونهبا وتسويفا وكذب، وتحويل الوعي الاجتماعي إلى “عقيدة القوة” لبناء “الدولة العميقة” داخل الدولة ومؤسساتها بدل سلطة العدل والقانون وإسناد المهام لإدارة المحاكم أو القضاء. وفيما يؤكد الدستور على المبادئ الصارمة للسلطة القضائية والمحاكم لمتابعة الإجراءات القانونية، ومنها فرض العقوبات وملاحقة الفاسدين، مثلا، فإن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي أتى من رحم الأحزاب الطائفية، على أنقاض وزارة مصطفى الكاظمي، بدل أن يفي بوعوده الرنانة للإصلاح وملاحقة الفاسدين والقتلة وحصر السلاح بيد الدولة، يذهب بعيدا لمجاملة أحزاب السلطة وقياداتها المتنفذة وكف اللسان عن فضح تجاوزاتها على الدولة ومؤسساتها، لتأمين كرسيه الذي بات غير آمن بأي حال من الأحوال.
وفي نهاية عام 2022، فاجأ مجلس النواب المجتمع العراقي بـ “قانون جرائم المعلوماتية”. الذي ينص على عقوبات رادعة تصل إلى السجن مدى الحياة وغرامات تتراوح ما بين 16 ألفا إلى 32 ألف دولار، دون الإشارة للجرائم الأخلاقية وأساليب الاحتيال التي يتعرض لها أبناء المجتمع بشكل سافر. فضلا عن كونه قانونا غير متوازن يؤدي إلى تكميم الأفواه والحد من حرية التعبير والرأي والتضييق على حرية الصحافة كما يعرض الصحفيون للدخول في إشكالات قانونية. ومما يزيد الطين بلة أن التعريفات جاءت فضفاضة، لا تراعي تنوع المجتمع العراقي، فالقانون بشكله الحالي يضع مسمارا في نعش الصحافة وحرية إيصال المعلومة التي كفلها الدستور للرأي العام.
إن الأحداث الأخيرة، منذ اندلاع الحرب الهمجية في غزة، مرورا بالانتخابات المحلية ونتائجها التي أفرزت العديد من التناقضات السياسية واتساع الصراعات الخارجية لتصفية الحسابات على الساحة العراقية إلى جانب المناكفات الطائفية الداخلية، قوضت بالدرجة الأولى مصالح المجتمع العراقي وسيطرة الأحزاب الطائفية الماسكة بالسلطة أكثر. كما أدت مع الظواهر الملازمة للعمل السياسي للأحزاب: تغليب الاستحواذ على الغنائم على مصالح المجتمع والدولة معا. ذلك ما كان يتحقق ما لم تتمكن طبقة النخبة من السياسيين العراقيين في الأحزاب الشعبوية العقائدية من تسويق فكرة، شعور بالضعف والمظلومية، اللذان يخلقان ياسا وإحباطا دائمين بين الخصوم. والشعور بالضعف، يعطي الخصم الطائفي أو القومي صفات غير محدودة، تجعل ضحاياه قطع شطرنج، يحركها، دون أن يكون لديها قوة ولا تأثير على ما يجري حولها. ولا يمكن فهم هذه الأسباب، فهي غير منطقية، ولكنها، تبدو كأنها نتائج من روح الإيمان والعقيدة. مما يجعل القوى المتحكم فيها داخل المحيط المجتمعي، عادة خاسرة في هذه المعادلة، وجماعات الفكر الغيبي تنتصر دائما. فيصبح تبرير الشعور بالمظلومية المرتبط بنظرية الضعف، أمرا لا فائدة من مقاومته، والحديث عن الحدث “التغيير” السياسي، كأنه جزء من أسطورة.