حول قصيدة النثر

حميد كشكولي

لم يتعرض أي شكل أدبي كتابي لاحترازات واعتراضات شديدة لدرجة المقاطعة والحصار والتكفير مثل قصيدة النثر. ويعزى ذلك إلى كون قصيدة النثر شكلاً أدبيًا جديدًا، يتجاوز المفاهيم الكلاسيكية حول الشعرية والكتابة الفنية، أحدثت ما يشبه الصدام مع بنية الوعي المتراكم تجاه مفهوم الشعر، وذلك لعدة أسباب:
العنوان: يشير عنوان قصيدة النثر إلى مفارقة، حيث تجمع بين شيئين متناقضين، وهما “القصيدة” و”النثر”. فالقصيدة هي شكل شعري تقليدي، يتميز بوزن وقافية، بينما النثر هو شكل أدبي غير شعري، يتميز بحرية الوزن والقافية.
التقنية الأداتية للتعبير: تعتمد قصيدة النثر على تقنية أداتية للتعبير، تسمح للشاعر باستخدام لغة متنوعة، وأشكال تعبيرية مختلفة، بما في ذلك السرد، والوصف، والحوار، والرمزية.
توظيف أنساق جمالية ولغوية: تعتمد قصيدة النثر على توظيف أنساق جمالية ولغوية متنوعة، مثل الصور الشعرية والمحسنات البديعية، بهدف إنتاج الدلالة وفتح أفقها التأويلي.
وأن قصيدة النثر شكل أدبي مبتكر، يعكس وعيًا إبداعيًا مفارقًا ومغايرًا للمألوف. كما أنها شكل أدبي تفاعلي، يؤثر على ذاكرة التلقي وجدلية التفاعل مع الموروث الجمالي المتأصل للوعي الجمعي بمفهوم الشعرية وطبيعتها. وإن قصيدة النثر تغييرًا جذريًا في مفهوم الشعرية والكتابة الفنية.
ولكنني أعتقد أن ردود الفعل السلبية تجاه قصيدة النثر كانت نابعة من سوء فهم لطبيعة هذا الشكل الأدبي الجديد. فكثير من النقاد والقراء اعتادوا على مفهوم الشعرية التقليدي، الذي يعتمد على الوزن والقافية والصور الشعرية المألوفة. ولذلك، فقد وجدوا قصيدة النثر غريبة وغير مفهومة.
ومع مرور الوقت، بدأت الرؤية النقدية لقصيدة النثر تتغير، وأصبح الكثير من النقاد والقراء يقدرون قيمتها الفنية وإبداعها. ولذلك، فقد تراجعت ردود الفعل السلبية تجاه قصيدة النثر، وأصبحت مقبولة أكثر في الساحة الأدبية.
واليوم، أصبحت قصيدة النثر شكلًا أدبيًا مهمًا، يحظى باهتمام كبير من قبل الشعراء والنقاد والقراء، واستطاعت أن تحدث ثورة في بنية الكتابة الشعرية، وأنها أصبحت الشكل الشعري السائد في العالم العربي والعالم بشكل عام.
ويرجع ذلك إلى طبيعة التقنية المستخدمة في قصيدة النثر، والتي تتمثل في:
الحرية: تتمتع قصيدة النثر بالحرية المطلقة في الشكل والمضمون، فهي غير مقيدة بوزن أو قافية أو بنية محددة.
التنوع: تسمح قصيدة النثر للشاعر باستخدام لغة متنوعة، وأشكال تعبيرية مختلفة، بما في ذلك السرد، والوصف، والحوار، والرمزية.
التجريبية: تدعو قصيدة النثر إلى التجريب والتجديد في اللغة والأسلوب، بهدف اكتشاف إمكانيات جديدة للتعبير الشعري.
هذه الخصائص الفنية لقصيدة النثر جعلتها شكلًا أدبيًا مرنًا وقابلًا للتكيف مع مختلف الظروف والموضوعات. كما أنها جعلتها شكلًا أدبيًا جذابًا للقراء، حيث تسمح لهم بالتفاعل مع النص بطريقة أكثر حرية وإبداعًا.
وفيما يلي بعض الأمثلة على كيفية استخدام التقنية في قصيدة النثر لإحداث تأثير جمالي ودلالي:
استخدام الصور الشعرية: يمكن للصور الشعرية أن تخلق تأثيرًا جماليًا قويًا في قصيدة النثر، وذلك من خلال استخدام اللغة بشكل مجازي أو استعاري. على سبيل المثال، يمكن للشاعر أن يستخدم صورة “بحر من الكلمات” للتعبير عن غزارة اللغة أو صعوبتها.
استخدام المحسنات البديعية: يمكن للمحسنات البديعية أن تضيف إلى جمالية قصيدة النثر، وذلك من خلال استخدامها لترتيب الكلمات أو العبارات بطريقة معينة. على سبيل المثال، يمكن للشاعر أن يستخدم الجناس التام للتأكيد على فكرة معينة، أو أن يستخدم السجع لخلق إيقاع جميل في النص.
استخدام البنية التركيبية: يمكن للبنية التركيبية لقصيدة النثر أن تؤثر على دلالتها، وذلك من خلال ترتيب الأفكار أو الصور أو الكلمات بطريقة معينة. على سبيل المثال، يمكن للشاعر أن يستخدم البنية الهرمية للتأكيد على فكرة معينة، أو أن يستخدم البنية المتوازية لخلق تأثير متناغم في النص.
وهكذا، فإن التقنية هي العامل الأساسي الذي يحدد جمالية قصيدة النثر ودلالتها. فهي الوعاء الفني الذي يسمح للشاعر بالتعبير عن إبداعه ورؤيته للعالم.
وإن القراءة مشروع يقتضي استكشاف اللغة في كونها عملًا لغويًا وجماليًا منفتحًا على الأجناس الكتابية والفنية. فالقراءة هي عملية تفاعلية بين المبدع والقارئ، يسعى خلالها القارئ إلى فهم النص وتفسيره واكتشاف جمالياته.
وبما أن قصيدة النثر شكل أدبي جديد، يتميز بالحرية المطلقة في الشكل والمضمون، مما يجعلها أكثر انفتاحًا على الأجناس الكتابية والفنية الأخرى. فيمكن أن تستفيد من جماليات الفنون المجاورة، مثل الفن التشكيلي والموسيقى والسينما، مما يسمح لها بخلق تجربة فنية جديدة للقارئ.
ولذلك، فإن المتلقي لقصيدة النثر يحتاج إلى ذوق نقدي وفني، مع الوعي بالرؤية الفنية المنفتحة للقصيدة. فالقارئ الناقد هو الذي يستطيع أن يتفاعل مع النص ويفهم جمالياته، ويكشف عن الدلالات الخفية التي يحملها.
وكما ذكرت أعلاه، فإن القراءة هي سفر بين المبدع والقارئ، حيث يسعى القارئ إلى التعرف على رؤية المبدع وأفكاره ومشاعره. وإن النص الإبداعي دعوة أو سؤال، وقراءته هي حوار معه. فالقارئ يتفاعل مع النص ويقدم رؤيته الخاصة له، مما يساهم في خلق تجربة فنية جديدة للنص.
ولهذا السبب، فإن قصيدة النثر هي شكل أدبي غني ومتعدد الدلالات، يتطلب من القارئ أن يكون مبدعًا أيضًا، وأن يكون قادرًا على التفاعل مع النص واكتشاف جمالياته.
وفيما يلي بعض النصائح التي يمكن أن تساعد القارئ في فهم قصيدة النثر:
اقرأ القصيدة عدة مرات، حتى تتمكن من فهمها جيدًا.
ابحث عن الكلمات أو العبارات التي لا تفهمها، وابحث عن معناها في المعجم أو في الإنترنت.
فكر في السياق العام للقصيدة، وحاول أن تفهم ما يحاول الشاعر قوله.
استخدم خيالك لإنشاء صور ذهنية للقصيدة.
قارن قصيدة النثر بأشكال شعرية أخرى، مثل الشعر العمودي أو الشعر الحر.
بالممارسة والصبر، ستتمكن من تطوير مهاراتك في قراءة قصيدة النثر، وستتمكن من اكتشاف جمالياتها الحقيقية.
وإن قصيدة النثر هي قصيدة دلالية تراهن على المعنى لا الصوت، وعلى المحتوى لا القالب. وهذا ما يجعلها أكثر انفتاحًا على السرد، حيث يمكن للشاعر أن يستخدم السرد لخلق عوالم خيالية جديدة، والتعبير عن أفكاره ومشاعره بطريقة غير مباشرة.
فالسرد يسمح للشاعر بجوب آفاق التخييل برحابة، مانحا الأحلام مديات تصويرية بعيدة. وذلك لأن السرد لا يخضع لقواعد الوزن والقافية، مما يمنح الشاعر حرية أكبر في استخدام اللغة والتعبير عن نفسه.
كما أن السرد يسمح للشاعر بالتعبير عن أفكاره ومشاعره بطريقة غير مباشرة. وذلك لأن القصيدة النثرية ليست مقيدة بموضوع أو فكرة محددة، مما يسمح للشاعر بالتعبير عن نفسه بطريقة أكثر تنوعًا وإثراء.
وأخيرًا، فإن السرد يجعل الشاعر واعيًا لموقعه، حيث يمكنه أن يشير إلى نفسه بالاسم أو بالصفات. وذلك لأن قصيدة النثر هي شكل أدبي أكثر شخصية من الشعر التقليدي، مما يسمح للشاعر بالتعبير عن نفسه بشكل أكثر وضوحًا.
وفيما يلي بعض الأمثلة على كيفية استخدام السرد في قصيدة النثر:
استخدام السرد لخلق عوالم خيالية جديدة: يمكن للشاعر أن يستخدم السرد لخلق عوالم خيالية جديدة، مثل عوالم الأحلام أو الخيال العلمي أو الأساطير. على سبيل المثال، يمكن للشاعر أن يسرد قصة عن رحلة إلى كوكب آخر، أو عن مغامرات بطل خيالي.
استخدام السرد للتعبير عن أفكار ومشاعر الشاعر: يمكن للشاعر أن يستخدم السرد للتعبير عن أفكاره ومشاعره بطريقة غير مباشرة. على سبيل المثال، يمكن للشاعر أن يسرد قصة عن تجربة شخصية، أو عن مشاعره تجاه موضوع معين.
استخدام السرد لإبراز موقع الشاعر: يمكن للشاعر أن يستخدم السرد لإبراز موقعه، حيث يمكنه أن يشير إلى نفسه بالاسم أو بالصفات. على سبيل المثال، يمكن للشاعر أن يسرد قصة عن حياته الخاصة، أو عن آرائه وأفكاره.

كما أن تغليب اليومي على ما هو مؤسطر وغرائبي هو أحد التوجهات الجديدة في قصيدة النثر الراهنة. ففي السابق، كانت قصيدة النثر تميل إلى التجريد والرمزية، وتتناول موضوعات مثل الحب والموت والوجود. أما في العصر الحديث، فقد أصبحت قصيدة النثر أكثر ارتباطًا بالواقع، وتتناول موضوعات مثل الحياة اليومية والقضايا الاجتماعية والسياسية.
وهذا التوجه الجديد يرجع إلى عدة عوامل، منها:
التغيرات التي حدثت في العالم والمجتمع العربي، حيث أصبحت الحياة اليومية أكثر تعقيدًا وصعوبة.
تأثر الشعراء بحركات فنية وفكرية جديدة، مثل الواقعية والاشتراكية، والحداثة، والسريالية، والتجريبية.
الرغبة في خلق نوع جديد من الشعر، يختلف عن الشعر التقليدي الذي يعتمد على الصوت.
وفيما يلي بعض الأمثلة على كيفية استخدام التوجهات الجديدة هذه في قصيدة النثر:
استخدام اللغة اليومية في وصف الأحداث والتجارب التي مر بها الشاعر.
توظيف الذاكرة لخلق قصائد أكثر صدقًا وتأثيرًا.
استخدام الصمت كفاعل جمالي يخلق تأثيرًا خاصًا في النص.
وعلى الرغم من أن هذه التوجهات الجديدة لا تزال في بداياتها، إلا أنها تشير إلى تطور قصيدة النثر وتكيفها مع التغيرات التي تحدث في المجتمع العربي والعالم.
فقد احتوت قصيدة النثر على الإيقاع الناتج من تفاعل المفردة مع غيرها داخل النص. فالشاعر في قصيدة النثر يعتمد على الوزن الداخلي، وهو الإيقاع الناتج من تكرار الأصوات والمقاطع الصوتية في النص. كما يعتمد على الوزن الخارجي، وهو الإيقاع الناتج من تكرار الوحدات التركيبية في النص، مثل الجمل أو الفقرات. فالشاعر في قصيدة النثر يتجاوز المعنى التقليدي للكلمات، وذلك باستخدامها بطريقة غير مباشرة أو مجازية. كما أنه يستخدم اللغة بطريقة غير مألوفة، وذلك لخلق تأثير خاص في النص. وإن الشاعر في قصيدة النثر لا يعتمد على اللغة بطريقة مباشرة، بل يعتمد على تفاعل اللغة مع غيرها من العناصر في النص، مثل الأفكار والصور والمشاعر. وإنه لا يعتمد على اللغة بطريقة واقعية، بل يعتمد على اللغة بطريقة إبداعية، وذلك لخلق عالم جديد للجمال والفن ويتجاوز اللغة التقليدية لخلق لغة جديدة أكثر تعبيرًا عن الواقع.
والشاعر في قصيدة النثر لا يهتم بنقل المعلومات أو الأفكار بطريقة مباشرة، بل يهتم بخلق تأثير خاص في القارئ. كما أنه يتجاوز الخصائص المعيارية للغة، وذلك لخلق لغة جديدة أكثر تعبيرًا عن أفكاره ومشاعره.
وبذلك، فإن قصيدة النثر هي شكل أدبي جديد، يجمع بين عناصر الشعرية العربية والغربية. وهي شكل أدبي مرن وقابل للتكيف مع مختلف الظروف والموضوعات. كما أنها شكل أدبي جذاب للقراء، حيث تسمح لهم بالتفاعل مع النص بطريقة أكثر حرية وإبداعًا.
مالمو
2024-02-02

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here