فرات المحسن
حسب مؤشر الديمقراطية لعام 2023 الصادر عن مرصد Economist Intellingence . يبدو ان العام الماضي كان عاما يؤشر لتدني مستوى الديمقراطية في العديد من دول العالم. وفي ذات المؤشر حل العراق بالمرتبة 128 عالميا من أصل 165 دولة ،حيث يظهر هذا الرقم عن تراجع كبير في مؤشر الديمقراطية في مؤسسات السلطة. مما يجعل العراق في التوصيف العام في المنطقة الحمراء، أي في مصاف الدول التي تحكم من قبل نظام استبدادي قمعي.
يتطرق أستاذ علم الاجتماع المرحوم الدكتور علي الوردي في إحدى لمحاته عن المجتمع العراقي، للعديد من العلل التي تميز المجتمع، حيث يقول في إحدى الفقرات ( إن المجتمع العراقي حائر ) ثم في فقرة أخرى يقول، إن الدولة أساس مهم من أسس حضارة الشعوب. الهدف الأعم لدراسة الدكتور الوردي كان محاولة تشخيص علل وظواهر سائدة في المجتمع العراقي ساسيولوجيا وكشف أسباب حيرة المجتمع العراقي، وعلاقة هذا بطبيعة التنازع الحضاري بين البداوة والمدنية في بناء الدولة وتشكيلاتها الاجتماعية السياسية.وهذه بحد ذاتها واحدة من أشد الإشكالات تعقيدا ووقعا على حراك المجتمع لحد الآن. ورغم أن العلامة الوردي أتكأ فقط على علم الاجتماع في دراسته وبحثه عن العقد والعلل والأزمات في المجتمع، فهو لم يجافي محاولة سبر غور الأسباب الأخرى وقراءة المعنى الشامل لجوهر السلطة في العراق منذ تأسيسها،وبحث في مناهجها وطرق سلوكها وتأثيرها الحاسم والكبير في بناء القيم الاجتماعية والسياسية لعموم الشعب العراقي.
وهناك أيضا الكثير من الدراسات المنهجية والبحوث التي ذهبت لقراءة الوضع العراقي وفق رؤى ومشارب عديدة، حاولت من خلالها تلمس وتقليب الأزمات المجتمعية وتشخيصها ومن ثم إيجاد الحلول لها، ومن ثم الخروج بنتائج تهدف لوضع أسس وقواعد يمكن من خلالها تجاوز تلك الأزمات وإخراج العراق من حال الإرباك والتخبط السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي وصل إليه.
مجمل تلك الدراسات والنقاشات خرجت بنتائج متقاربة خلصت دون لبس إلى أن جوهر الإشكال يكمن في موضوعة علاقة السلطة بالديمقراطية، وهي علاقة شائكة في مسيرها الطويل منذ تأسيس السلطة الوطنية عام 1921. ولا يمكن في أية حال من الأحوال فصلهما عن بعض، كونهما جزءاً جوهرياً لموضوعة واحدة .وتلازمهما مع بعض يعطي نموذجا متكافئا لمجتمع حيوي يمتلك الوعي بقدراته وخبراته ومصائره .وإن فصلهما وتسويفهما بهرطقات أيدلوجية أو التقليل من أهمية ربطهما ،يعيد أبدا بلورة وتغذية بؤر الأزمات ويجعل السلطة تراوح دائما في ذات المواقع العقيمة التي اختارتها كطريق ورؤى لإدارة الدولة.
في ظاهرتي الديمقراطية والحريات وفي القطبين المهمين منهما السياسي والاجتماعي، فالهدف الأعم من علاقتهما بالبعض، والذي يحتل أهمية فائقة، هو إعادة صياغة منظومة الأفكار التي تنظم سير العلاقات غير السوية التي وسمت المجتمع بطابعها، والتي افتعلتها أو صنعتها وغذتها الأعراف والتقاليد المجتمعية ومعها السلطة السياسية والعسكر منذ بداية تشكيل الدولة العراقية. وكان طابعها وأداؤها دائما ما يظهر على شكل محاولات قسرية صريحة وضمنية لتحجيم وإبعاد مؤسسات المجتمع المدني عن ممارسة دورها. وتغذية ليس فقط الخصومات والفرقة السياسية، وإنما الحث الدائم على تصعيد الخلافات الأثنية والطائفية، وزرع الخصومة والاختلاف بين الفرد والسلطة، ومن ثم بين التجمعات السكانية.ويحدث هذا من خلال الإرهاب اليومي المنظم، كوسيلة لسلب الحقوق المدنية وممارسة التعديات الفجة على حقوق الإنسان والحريات العامة.
لاشك أن الديمقراطية الحقيقية تحمل من السمات ما يمكن خلالها تطمين الكثير من حاجات الشعب الذي بات يشعر وبمختلف شرائحه وطوائفه بحجم الكارثة والخيبات التي فرضت عليه قسرا عبر عقود كثيرة ومن خلال تداول السلطة بالقوة المفرطة، بنماذج هجينة ومختلفة لحكومات متعددة المناهج والرؤى، لتضعه في العديد من الأوقات في متاهات لا طاقة لبني البشر عليها، بالرغم من كونه من أكثر شعوب العالم تطلعا نحو الديمقراطية والحريات المدنية فهو مجتمع مديني بالفطرة.
أس الديمقراطية يعني وفي المقدمة النزوع لبناء دولة القانون التي تفضي لشعور المواطنين بتكافؤ الفرص وحسب الاستحقاق، وتدفع عنهم الخوف والريبة، وتنمي لديهم ملكات الإبداع والإخلاص للمجتمع والوطن. ودولة القانون تعني بالضرورة هزيمة ماحقة لكل التشكيلات والأفكار التي تتبنى القيم العشائرية والطائفية والمناطقية والوجاهة. فالديمقراطية ليست ذات طابع سياسي فحسب وإنما هي معطى اجتماعي ثقافي أولا.
من الواضح للعيان فأن دولة القانون الديمقراطية ترسخ وتعيد تنظيم ليس فقط عناصر التكافؤ الاجتماعي وحرية الاختيار والتطور العلمي والثقافي والاقتصادي، وإنما تعيد أيضا ترتيب الحسابات السياسية في علاقة السلطة بالشعب، ومثلها علاقات القوى والفعاليات السياسية مع بعضها . والأهم من كل هذا، تؤكد بفاعلية وقبل أي شيء آخر الهوية الوطنية.
في جانب حساس من الموضوعة فأن ضمان سيادة القانون وخيار الديمقراطية يمكن أن تكون الدعوة إليها مضللة ووسيلة لأهداف منتقاة بشكل تحريفي ومزيف. ويأتي ذلك من خلال فرض علاقات وتعميم صيغ ترسخ مصالح فعاليات وقوى سياسية محددة، وبمسميات مختلقة تنشأ عنها روابط تتحكم في مفاصل الحياة العامة من خلال وضع القوانين وتجييرها لصالح شريحة أو قوى أو فئة بعينها ، وعندها يوضع مفهوم سلطة القانون حصرا تحت معطف أيدلوجي أو مذهبي يفضي في النهاية إلى مفاقمة الاختلال والأزمات.
ان السعي لتحقيق التكافؤ بين أبناء الشعب وبينهم والسلطة، من خلال تعميم لغة وقواعد القانون وضمانة الحقوق الإنسانية، كان ولازال الجوهر والمغزى العام لنضال الشعب العراقي في جميع المراحل التاريخية التي مرت عليه. وكان دائما يتطلع لأن يصبح للسلطة دورا جديدا تغدو معه أداة لتطوير وتحديث بنية المجتمع، وتأمين السلام والوئام الاجتماعي، وان تشعره بأهمية مشاركته وفاعليتها في تقرير مصائره قبل أي شيء آخر. لتغدو وبشكل حقيقي الممثل الكفء لجميع شرائحه وفئاته.
إجمال ذلك يقتضي وجود سلطة ذات مواصفات بينة، تكون في حقيقة الأمر المرجعية التي تطمئن الناس على حقوقهم، في نفس الوقت الذي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك إنها قادرة على تهيئة الظروف لبناء حياة إنسانية أكثر رقيا وتسامحا وعدالة ومساواة، في إطار حضاري يبعد كل تلك الخيبات والألام التي غلفت حياة العراقيين عبر عهود طويلة من القهر والاستعباد .وان لا تكون تلك السلطة سلطة أبوية كهنوتية تزعم وتبرر لنفسها تمثيل الأمة العراقية وتكون موضوعتها الحق في التفكير واتخاذ القرار ضمن كواليسها المغلقة نيابة عن شعب مغيب، وبعد ان يتلبسها هوس الحكم، لتشعر بكونها دون سواها الطريق للنجاحات والبناء والخير والمستقبل الأفضل.
إن فلسفة القيادة والإدارة واختصارها وحصرها بيد مجموعة بعينها تدعي سمو منهجها في إدارة السلطة وامتلاكها للحقيقة دون الآخرين،فهذا لوحده يكفي ليكون دافعا حيويا لإثارة جميع مكامن الحقد والعداوة والفتن والاستعداد للفوضى والتخريب والتبرع بالإيذاء دون مبررات أخلاقية أو واعز من ضمير .وكذلك لإباحة سرقة المال العام وتدمير الحياة المدنية وإثارة النزاعات ، وخلق بؤر ومنظومات وقوى تكون لها اليد الطولى في تسيير حياة الناس وتشكيل علاقاتهم .وتعميم صيغ مشوهة ومؤذية عن المغزى الخاص الذي يربط المواطن بوطنه وبمؤسسات الدولة والمجتمع.وفي مقدمة ذلك زرع الفصام والخصام المستديم في النفوس اتجاه السلطة التي باتت ملكية خاصة و قدس الأقداس ،لا يمكن لبشر الحديث حولها أو مناقشتها دون موافقة سدنتها.
تلك الإشكاليات بسعتها وضخامتها تتطلب المعاينة والتدقيق الحقيقيين من قبل أبناء شعبنا وفعالياته الوطنية ومثلهم السلطة . وتتطلب ثقافة حقيقية تنسجم وروح العصر. و أن لا تغيب عنا ضرورة وأهمية الديمقراطية والتعددية كوصفة ناجعة وأكيدة تطمئن الناس وتعيد لهم ثقتهم بقدراتهم وبنبالة وسمو ورفعة الانتماء للوطن . وتؤسس لمرحلة تؤكد على غنى وأهمية فسيفساء المجتمع العراقي ووحدته الوطنية.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط