حسب التقويم الشرقي الذي يتبعه المسيحيون الأرثوذكس لعيد القيامة، انتهى الأربعاء 28 شباط 2024م، صوم نينوى المشهور لدى مسيحي الشرق، وكان المسيحيون الذين يتبعون التقويم الغربي كالكاثوليك قد سبقوا وصاموه منذ أكثر من شهر.
وسبب كتابتنا هذا المقال هو أن بعض السريان الشرقيين (الكلدان والآشوريين الحاليين)، خاصةً الذين سرق لهم الإنكليز سنة 1876م اسم الآشوريين القديم وسَمَّوهم به لأغراض سياسية عبرية، يحاولون دائماً استغلال هذه المناسبة بكتابات مقالات تربط صوم نينوى المسيحي زوراً بسفر النبي يونان (يونس) في العهد القديم، ولتربطهم بالآشوريين القدماء، مثل اسمهم الآشوري المسروق والمزوَّر.
لا يوجد أي ذكر في تواريخ اليهود ولا في المسيحية الأولى لصوم نينوى القديم المذكور في سفر يونان في العهد القديم، ولم يُذكر أن المسيحيين قد صاموه منذ البداية، وصوم نينوى الحالي هو ثلاثة أيام، واسمه بالسريانية (الباعوثة) أي الطلبة والتضرع، ويبدأ يوم الاثنين من الأسبوع الثالث السابق للصوم الكبير الأربعيني، ولا علاقة له مطلقاً بصوم نينوى المذكور في سفر يونان، ويختلف اسم الصوم عند كنائس المسيحيين الشرقيين، ولا يوجد أي ذكر لصوم اسمه نينوى في التاريخ المسيحي قبل نهاية القرن السادس الميلادي، ففي سنة 576م انتشر مرض الطاعون المُسَمَّى بالسريانية (شرعوط)، في المنطقة الشمالية العراقية، مثلث كركوك، الموصل وتكريت، وكان ذلك في عهد الجاثليق (البطريرك) السرياني الشرقي النسطوري، حزقيال (570-581م)، ويقول النساطرة، إنه بسبب ارتفاع الموت والمصيبة اقترح مطران كركوك سبريشوع على الجاثليق حزقيال الصوم ثلاثة أيام، فاستحسنه الجاثليق وأمر بصومه (الأب ألبير أبونا، تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، ج1 ص118. والمجدل ترجمة الجاثليق يوسف +570م، وخلفه حزقيال)، مع ملاحظة أن الآشوريين والكلدان الحالين كان لقب رئيسهم الديني هو جاثليق وليس بطريرك، والجاثليق معناها مطران أو أسقف عام، وهي رتبة أقل من بطريرك وأعلى من مطران، وكان جاثليقهم يخضع لبطريرك أنطاكية السرياني إلى سنة 497م عندما اعتنقوا النسطرة وانفصلوا عن أنطاكية، ثم اختلسوا اسم بطريرك بدل جاثليق أيضاً واستبدوا به، كما يقول حرفياً القس بطرس نصري الكلداني +1917م (ذخيرة الأذهان في تواريخ المشارقة والمغاربة السريان ج1 ص40).
وقد عَدَّ مطران كركوك للسريان المشارقة سبريشوع هذا الصوم على غرار صوم داود النبي (2 صموئيل، إصحاح 12)، وليس على غرار صوم نينوى، الوارد في سفر يونان، وطبعاً وجود داود هو قبل يونان (التاريخ السعردي، خبر سبريشوع، مطران باجرمي “كركوك”، ج2 ص313).
ثم قام السريان الشرقيون (الكلدان والآشوريون الحاليون) بحذف اسم المطران سبريشوع من كتبهم، كما في طبعة بيدجان للصلوات الطقسية،ج1 ص161 (الأب جان موريس فييه الدومنيكي، آشور المسيحية، ج2 ص526)،
ويبدو أنها محاولة لغرض ربط صومهم قدر الإمكان بنينوى القديمة، مع ملاحظة أنه قبل هذا التاريخ كان هناك صوم مشابه لصوم نينوى، ثلاثة أيام أيضاً ويبدأ من اثنين الميلاد، اسمه باعوثة (زينا) مخصص لمنطقة العمادية وقربها (قرية كوماني) لكنه أُبطل استعماله، علماً أن الأب جان موريس فييه الدومنيكي يبدو أنه قد أخطأ في الاسم واعتقد أن زينا هو (يزدينيا) مطران نينوى، والصحيح أنه (زيعا) الوارد ذكره في كتاب شهداء المشرق، ج2 ص129-131، لأدي شير، وربما أخطأ أيضاً في اعتقاده أن الصوم أُبطل، والصحيح أنه لم يكن أصلاً صوماً شاملاً للجميع، وقسم من نساطرة قبائل جيلو وباز قرب قرية مار زينا لا يزالون يستذكرون ذلك.
أمَّا السريان الغربيين أي الأرثوذكس، فيذكرون أن أشعار مار أفرام السرياني +373م تذكر طلبات وتضرعات وصوم للمؤمنين تُقام ستة أيام في وقت الشدة فقط، ثم خُفف في القرن السادس إلى ثلاثة أيام، وحسب العلامة السرياني الغربي (الأرثوذكسي) ابن الصليبي +1171م، في كتابه أرعوثو (المجادلات)، فإن من وضع صوم نينوى الحالي هو المفريان أو الجاثليق ماروثا التكريتي (628-649م)، بسبب انتشار الطاعون المذكور، ومن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية انتشر إلى بقية الكنائس (عن مخطوط قديم نُسخ بيد القس كبرئيل قيا سنة 1997م، ابن الصليبي، المجادلة ضد الخلقيدونيين، سرياني، 5-6. وانظر البطريرك زكا الأول عيواص، بحوث لاهوتية، ج2 ص370، ومجلة الحكمة المقدسية،1930م، ص62-64).
ولأن الأقباط والسريان والأرمن الأرثوذكس هم تاريخياً كنيسة بإيمان مشترك واحد، ففي التاريخ تبوأ أو تَقلَّدَ بطريركية أنطاكية السريانية، بطريركان قبطيان، وتقلَّد البطريركية الإسكندرية القبطية، خمسة بطاركة سريان، وفي سنة 975م تبوأ كنيسة الإسكندرية القبطية البطريرك أفرام بن أبي زرعة، وهو سرياني أصله عراقي من مدينة بغديدا أي قرقوش أو الحمدانية، وعندما حلَّ صوم نينوى صامه البطريرك كعادته، فتعاطف معه المؤمنين الأقباط واقتدوا به واستمروا من يومها يصوموه، ويُسمَّونه (صوم يونان)، أمَّا الأرمن فالأرجح أنهم أخذوه عن السريان أيضاً، ويُسمَّونه (صوم سركيس) مجلة الحكمة المقدسية،1930م، ص62-64،وأنظر القس منسى يوحنا، تاريخ الكنيسة القبطية، ص377).
وهناك رواية أخرى للسريان الشرقيين بخصوص صوم نينوى الذي يُسمَّونه (صوم العذراى)، جاءت في مصادر كثيرة منها كتاب الحوذرا سنة 1659م، وغيره، هي أن مطران الحيرة يوحنا الأزرق في زمن الجاثليق الشرقي حنانيشوع (685-700م)، رتَّبَ صوم نينوى أو العذراى عندما طلب أحد أمراء الحيرة المسلمين أربعين بنتاً عذراء ليتخذهن زوجاتً له، فاجتمعت الفتيات في الكنيسة وصلين مع المطران ثلاثة أيام، فتوفي الأمير، فأمر الأزرق بإقامته سنوياً في الاثنين الذي يلي الدنح، وقد ذكر المطران السرياني الشرقي العلامة عبديشوع الصوباوي +1318م أن الأمير هو الخليفة عبد الملك بن الوليد (ربما يقصد، أبو الوليد عبد الملك بن مروان +705م)، وأبن العبري نقلاً عن مصادر النساطرة في ترجمته للجاثليق حنانيشوع، ذكر أنه قيل إن هذا الأمير هو عبد الملك بن مروان، وذكر أبو الرحيان البيروني أيضاً ذلك، وقال إن العباديين في الحيرة صاموه بسبب الأمير والبنات العذارى، لكنه نسبه إلى أمير الحيرة قبل الإسلام زمن معركة ذي قار (مخطوط عبديشوع الصوباوي، فهرس مخطوطات دير مار مرقس، مجمع السريان الشرقيين، ص340. وابن العبري، تاريخ المفارنة، ص30، البيروني، الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص279، وطبعاً البيروني يُسَمِّي مواعيد صوم النساطرة وشهورهم وسنيهم، سريانية. .
وشكراً/ موفق نيسكو