علي حسين
غادرنا الجيزة تلك المدينة الفقيرة الكئيبة وانحرفت بنا السيارة فى طريق طويل على جانبيه الشجر وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب وبدت المزارع والجداول ومن ورائها الأهرامات .. أشد شىء أخذا فى تلك الساعة من النهار .
وكانت السيارة من سيارات نقل المۏتى .. كانت طويلة وأنيقة ومن أحسن طراز .. وكانت مقسمة إلى ثلاثة أقسام .. القسم الأمامى منها للسائق والخلفى للمېت والوسط لأهل المېت وفى هذا المكان جلست وحيدا مكروبا وعيناى سابحة فى الأفق . وكانت الجلسة فى السيارة مريحة ولكن أعصابى كانت متوترة وكنت أشعر بضعف جسمانى شديد فلقد مرت على أيام ثلاثة لم أذق فيها النوم إلا قليلا . كنت أحمل العبء وحدى . ولقد بذلت كل ما فى وسعى وبذل معى الأطباء لننقذ أحمد ولكن نفذ القضاء وذهبت جهودنا كلها هباء .
انتهى فى الساعة الرابعة من الصباح ولم ينبس بكلمة وكنت بعيدا عنه. وجئت لزيارته فى الصباح ومعى باقة من الورد وزجاجة من العطر وكان يحب الورود والرياحين .. ودخلت غرفته على أطراف أصابعى كعادتى. ولكننى وجدت سريره خاليا . فأدركت أن كل شىء قد انتهى ..
وسمعت من يقول
حدث له ڼزيف داخلى ..
وهكذا انتهى وهو أشد ما يكون شبابا وفتوة انتهى فى الساعة التى بدأت فيها الحياة تبسم له بعد طول عبوس وتتطلع عيناه إلى الحياة السعيدة بعد طول جهاد وعناء وكد .
ولقد أخذ فى أيامه الأخيرة يكثر من الكلام على الرغم من طبيعة الصمت التى لازمته وكان يقول لى إن المرء لا يعرف قيمة الحياة إلا إذا رقد على هذا السرير .. إن هذه الرقدة تكرهك على التفكير .. والتفكير فى الأشياء التى لم تكن تخطر لك على بال . والمرء بعد المړض يزداد صلابة وقوة وعزما وتعمق نظرته للحياة ويصل به التأمل إلى أعمق أعماقها لقد كنت أفزع من وخزة دبوس .. وأنتفض فرقا من لا شىء .. فلما رأيت هؤلاء المرضى الأبطال الذين يتعذبون فى صبر وصمت أدركت نعمة الصبر التى تنزل على الإنسان فى محنته .. وأخذت أخجل من نفسى عندما كنت أتألم من لا شىء كطفل صغير .. والألم يصهر النفس ويخلصها من الأدران وأنت لا تعرف نعمة النفس المطمئنة إلا إذا رقدت هذه الرقدة . هنا تصفو نفسك من الشهوات وتدرك أن كل شىء باطل .. كل شىء زائل .. نفس يخرج ولا يرتد ثم ينتهى كل شىء .. إنه حقا شىء مروع ولكن لا بد أن ينتهى بنا المصير إلى هذا …… .
وتحولت بعد هذه الخواطر إلى المروج المحيطة بنا وكانت السيارة ټخطف خطڤا .. والغسق يزحف والنهار يولى ..
ما أعجب الحياة .. وما أعجب المۏت .. نفس واحد يخرج ولا يرتد ثم ينتهى كل شىء … هكذا … أخذت أدير كلام صاحبى فى رأسى وأذكر الصور التى مرت على فى المستشفى .. كان هناك رجل فى الغرفة المجاورة لغرفته .. وكنت أرى هذا الرجل كلما ذهبت لزيارة أحمد وفى أصيل يوم كان باب غرفته مفتوحا وكان الرجل راقدا فى سريره وعلى رأسه ابنته . وكان يتحدث إليها بصوت عال وهو مفتر الثغر طروب . وبعد دقائق قليلة سمعت حركة فى غرفته ودخل الطبيب وبعده الممرضة وخرجت الممرضة وفى يدها حقنة فارغة ! وبعد لحظات عاد السكون إلى الغرفة . وانتهى ميعاد الزيارة .. وفى طريقى إلى الخارج سمعت الفتاة تبكى . وتلفت .. وتقدمت نحو غرفة الرجل . فوجدته على حاله كما رأيته من قبل ولكنه لم يكن يتنفس.