عصام الياسري
بدءا، على أصحاب الفكر والإبداع الثقافي أن لا يختزلون تحت أي ذريعة دور اللغة كأداة للتعبير، قول شيء يمس هموم الأمة، وان لا يكتفون فقط، باستعراض اللغة، مجرد وسيلة ملازمة للنصوص الأدبية كالشعر والقصة والرواية، وينسون فعل لغتهم في فضح مظالم ومعاناة شعوبهم، فتصبح اللغة وما تمتلكه في مجالها القيمي من مضامين سيميائية، لا معنى لها ولا تستطيع أن تجسد تلك القيم بشكل دقيق وملموس.. في إطار تعزيز تعدد اللغات والثقافات اعتمدت الأمم المتحدة في ديسمبر 1973 قرارا للاحتفال بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية الست في عمل الأمم المتحدة. لكن هل كان هذا القرار ينذر بانتهاء التمييز بين البشر وانتمائهم الثقافي والحضري، أو الاعتراف بحقوق الشعوب والأمم، وأهمها حق الحياة والاستقرار ومنع الحروب عليها؟.
يقول العراقيون: أنصت إلى لغة والديك تجد ما يقودك إلى الحقيقة.
اللغة، هي ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي فن يعبر عن روح الإنسان وتاريخه، تنقلنا عبر الزمن وتفتح أبواب ثقافتنا بأسلوبها الفريد على مصراعيه. وإذ يقال عن العربية هي لغة الأدباء والشعراء المشعة بجمالياتها وعمقها في سماء الأدب اللامتناهي. فتراثنا الأدبي الحافل بأنسابه اللغوية القيمة والحكمة والجمال والدفء، يعكس أيضا، المشروع التنويري لنصرة الكادحين والطبقات المسحوقة التي نالها الظلم وعانت من الاضطهاد والحروب على مدى عصور. اليوم، حينما يتساقط الدم وتتعاظم عواصف الظلام والإرهاب، تبقى الكلمات وسيلة البقاء على قيد الحياة. وعلى اللغويين أن يتصدوا بأقلامهم الحرفية لمواجهة الذي يهدد معنى الإنسانية. وخطابهم الثقافي أن يتجاوز حدود الجمود، كالسيف يخترق دروب الجهل والتخلف والتستر على الحقيقة.
لا تقتصر اللغة العربية فقط على صورها والكلمات البليغة، بل تتعدى ذلك لتمتد إلى عمق الفهم والتفاعل التعبيري في مجاليه الأدبي والقيمي. تحمل في طياتها الدقة والغزارة، ما يجعلها أداة فعالة لنقل الأفكار والمشاعر بأبهى الأساليب والوضوح. وتتجلى أهمية اللغة العربية في قدرتها على حمل المعاني والتعابير العميقة. كما تمنح الكلمات حقها الكامل وتجسد الأفكار بشكل دقيق وملموس. ومن خلال تراثنا الأدبي الغني، فاللغة العربية تتمتع بأشكال وأساليب فنية وسيميائية مختلفة، أيضا، برؤية نوعية شاملة.
في خضم هذه الصفات البعيدة المدى، فاللغة العربية جسر يربط الماضي بالحاضر، بل، الشرق بالغرب. تلاحمها مع الزمن، يعكس تجدد عظمة تأصيلها ليتلاءم مع تطور العصر وتحدياته. وفي الوقت نفسه، كيف يجد الإنسان في اللغة العربية، ليس فقط وسيلة للتعبير، بل وصفحة مفتوحة على عالم المعتقد والفن والعلم، إنها كنز عديد الأغوار والاستكشافات. وفي جمالية اللغة العربية تكمن أيضا، عبقرية الشاعر الأبدية في كيفية توظيف مفرداتها ليس في الخطاب الأدبي فحسب، إنما الجري باتجاه الحياة السياسية ومعالجة المحيط الاجتماعي وتفكيك واقعه الموضوعي والطبقي.
ثقافات عالمية متنوعة في عصور عدة، نقل كتابها وأدباؤها ومفكروها الكثير عن إعجابهم باللغة العربية وقدرتها التعبيرية في مفاصل الحياة العامة… غوته، كان من أشهر الكتاب والمفكرين الألمان، أبدى إعجابه الكبير باللغة العربية إذ قال: “هناك شيء ملكوت في اللغة العربية، ولها قدرة على التعبير عن أفكار معقدة ببساطة فائقة”… فولتير، الفيلسوف الفرنسي الشهير أعرب عن إعجابه باللغة العربية قائلا: “اللغة العربية هي لغة العلم والفلسفة”… إيمرسون، الفيلسوف والشاعر الأمريكي قال: “اللغة العربية… تختصر المعاني بأقل الكلمات وأعظمها”… لورانس داريل، الروائي البريطاني أعرب عن تقديره للجماليات اللغوية في اللغة العربية، وكتب عنها بإعجاب في روايته “القاهرة الثلاثية”.
أضيف إلى ذلك، أن اللغة العربية التي تعتبر لغة القرآن والشعر والأدب الكلاسيكي، ولها مكانة خاصة في قلوب الأدباء والكتاب العرب، قال فيها الكاتب والفيلسوف اللبناني الشهير: جبران خليل جبران: “العربية لغة جميلة، والكلمات فيها كالألحان”… أحلام مستغانم: الكاتبة الجزائرية الحائزة على جائزة نوبل للأدب قالت: “اللغة العربية هي حقل زهور لا يعد ولا يحصى”.. نجيب محفوظ: الروائي المصري الحائز على جائزة نوبل للأدب، والذي وصف اللغة العربية بأنها “أرق من العاج وأقوى من الصلب”.. أديب الرفاعي: الشاعر السوري الكبير وصف اللغة العربية بأنها “لغة الطير ولحن الأمواج”.. أحمد شوقي: الشاعر المصري وصف اللغة العربية بأنها “لغة الشعر الجميل والأدب العظيم”.. إلا أن عالم الإجتماع العراقي علي الوردي، كان قد وجه عام 1951 نداء وهو بصدد مفهوم “لغة الكتابة ولغة الخطابة” قال فيه: تحدثوا كما تخطبون، واخطبوا كما تتحدثون. ما أعظم هذه الناصية الفلسفية في الحياة المجتمعية لهذا الانسان المفكر، وما أعظمه من خطاب يسابق الزمن ويتصدى للجمود.
لعلنا، ونحن نرتوي من جوانب الإعجاب باللغة العربية، سواء كانت تعبيرا عن روعة الألفاظ أو تقدير للتراث الأدبي الغني الذي قدمته اللغة العربية على مر العصور. وقد رأى الكتاب والأدباء للغة العربية لونا خاصا وصوتا جميلا يعكس تاريخا وحضارة لن تتوقف عند حدود أو أزمنة. نتساءل، ما قيمة لغة الأدب لدى بعض المثقفين المتباهين العرب، إذا لم يحسنو فعلها وفي الضفة الأخرى تقف، كل مآثر اللغة، أية لغة، عاجزة أمام وحشية الحروب وقتل الإنسان بهمجية مفرطة. ولم يبق إلا لغة الصمت، وهو “فعل” أقوى من اللغة ذاتها عندما يصبح النص الأدبي “مأساة” أمام آلة الحرب والقتل الهمجي، حيثما تندثر لغة الكلمات للتعبير عن قيم الحياة والإنسانية في زمن العقبات الظلامية والقتل والدمار.
ولعلي أختم بقول محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الراحل، الذي تنبثق كلماته في عمق لغتنا العربية كالنبع في صحراء العقول المحاصرة بالجفاف، تحمل في طياتها، قيما ووعيا ثقافيا يهزم التشويش ويعيد كالرياح العاتية للذاكرة أصل القضية: “اللغة العربية هي جوهر الهوية، ولون الأحلام، ورنين الحرية”.