عندما البحر اتكئ على ذراعي بدموع فرح ساخنة
بقلم مهدي قاسم
فجأة برقت بين تضاريس ذاكرتي الزاخرة بصداقات حميمة فكرة ملحة ولطيفة ، و راقت لي حقا ، مفادها أن صديقي القديم والعريق البحر قد بلغ من العمر مرحلة متقدمة ، فربما لم يعد بقادر على الاعتناء بنفسه رعاية و اغتسالا بمياه نقية وعذبة ، وخاصة ، بسبب كثرة و تزايد ” نفايات بشرية ” ترمى عشوائيا في جوفه على مدار السنة ، واحتمال اهتراء ورثاثة ملابسه ، ثم ضرورة تغيير قميصه الأزرق الطويل حتى نهاية الأفق ، الذي حتما أضحى باهتا وتبديله بقميص جديد شديد الزرقة وأكثر أناقة : قميص من حرير مزركش منسوج من لون سماوي هادئ وبريق مجوهرات نجوم متلألئة ، مع قبعة برتقالية مشعة بخيوط شمس الصباح أو الغروب ..
فقررت زيارته بصحبة صديقي الجديد الينبوع الجبلي الفتي المزنر بشلاله الفضي الهاطل على مدار اليوم بكامله يُبهر العين ويُبهج القلب ، ليغتسل صديقي البحر بتدفقات هذا الشلال العذب والمريح المنعش ..
وفي طريقنا إلى هناك ، سألتني صديقتي الغابة الشابة التي تعرفت عليها مؤخرا :
إلى أين ذاهبون أنتم أيتها الصحبة الطيبة اللطيفة الأليفة ؟..
فقلنا لها ، نحن نقوم الآن بزيارة صديقنا البحر للاطلاع ‘على أحواله ، و الاعتناء بها عند الضرورة ثم الترويح و حتى الترفيه عنه لبعض الوقت ، ربما يكون مستوحدا ، ضجرا ، أو حزينا ..
حينها تحمست الغابة الشابة وهتفت بصوت عاطفي رقيق :
ـــ يا لها من فكرة لطيفة حقا، فهل يمكنني الانضمام إليكم ؟..
بالطبع !.. ولم لا ؟ . فكلما كثرت صحبتنا الجميلة الهادئة هذه فكان ذلك مبعث فرح وسرور أكثر لصديقنا البحر الحزين حتما أنه سيغتبط لجوقتنا المرحة هذه ..
هكذا انضمت إلينا في مسيرتنا نحو البحر صديقات جديدات مثل الغابة الفتية ، والجزيرة النابعة حديثا من بين النهرين ، ثم وعول البراري ، و نوارس الجزيرة ، ورياح البوادي ، برفقة حقل طويل من عباد شمس الحقول والقمر الوليد حديثا ، و متحف السفن القديمة ، و فباطنة عاطلون ، يعذبهم الحنين لرؤية البحر مجددا ، أي بحر كان ، حتى لو كان كهلا ..
ما أن رآني البحر عن بعد وعرفني بشخصي صديقا قديما حتى حياني احتفاليا بمد مواكب أمواجه العالية المندفعة بمسرة جذلة حتى مقدمة خطوي ترحيبا ، ثم احتضنني معانقا دامع العينين فرحا وحبورا ، فقدمت له ذراعي ليستند عليه متكئا ثم خرجنا على مهل، هوينا ، لنقوم بنزهة حول المدينة وربما في شوارعها أيضا .
أثناء النزهة سألني البحر:
ــ هل لا زلتُ أنا مفيدا للناس والحيوانات والنباتات والأشجار حيث أبخرتي تتحول إلى غيوم ، و الغيوم إلى أمطار ؟ .
أجبته بجدية كاملة وبدون أية مجاملة
ــ بالتأكيد .. فأنت لست مفيدا فقط أنما جميلا أيضا حيث آلاف من الناس يسعون إليك ليتمددوا على طول وعرض سواحلك حتى يقضوا أوقاتا ممتعة وسعيدة تحت حمامات الشمس الدافئة والنسمة المنعشة ..
ــ وماذا لو كنتُ جميلا فقط و غير مفيد ـ وما الفارق بين الاثنين ؟
ــ ليس بالضرورة أن يكون الجميل مفيدا . و أن كان الجميل هو جميل لبعض الأذواق !..
آنذاك احتضنني البحر برقة وحميمية وقال من خلال دموع تأثر وحرارة عاطفة جياشة :
ــ شكرا لك صديقي الوفي ..بالاحرى لكم جميعا !..لأنكم خلقتم لي لكل هذه الأجواء المرحة من البهجة و السرور .. و جعلتم يومي هذا ، يوما كرنفاليا حافلا ، لا يُنسى لزمن طويل ..