علياء الانصاري / العراق
شهدت الفترة الماضية، جدالا وسجالا واسعا وخطيرا حول مقترح تعديل قانون الاحوال الشخصية لعام 59، وأنقسم الناس الى ثلاث أصناف: مؤيد ومعارف ومحايد (سواء كانت الحيادية عن عدم معرفة بالقضية برمتها أو خوفا من الخوض فيها لأسباب عديدة).
هذا المقال، لا يتضمن (مع او ضد)، ولن يناقش القانون النافذ أو مقترح تعديلاته، سأتطرق الى قضية ربما هي أهم وأخطر من قضية الاحوال الشخصية، وهي قضية التعايش والمواطنة والمتمثلة باحترام الآخر ووجهات نظره، والموضوعية في طرح الافكار، واعتماد المناقشات والتشاورات في القضايا الحساسة التي تخدم المجتمع، وضمان حق الجميع في العيش بسلام وأمان وكرامة.
ما حدث خلال الآونة الاخيرة، من الاطراف المتنازعة حول القانون، للأسف مؤشر إجتماعي خطير، كما هو مؤشر مهم لتركيبة الفرد العراقي وطبيعة تعاطيه مع القضايا سواء الصغيرة أو الكبيرة منها.
وأنا أتابع، كلا الطرفين المؤيد والمعارض يعتمد الهجوم على الطرف الآخر لتعريته وتسقيطه والتشهير به ونعته بأوصاف وكلمات غير محترمة، اللقاءات التلفزيونية مليئة بالصراخ وتقاذف العبارات النابية، والاتهامات والتهديدات، صفحات الفيس تضج بالبوستات والمقالات المليئة بالشتائم والاتهامات والقذف العلني ما عدا نزر قليل للبعض ممن يحاول ان يوجد فسحة للعقلانية. لم أجد نقاشا موضوعيا، ولا حوارا يهدف الى فهم وجهات نظر أصحابها بدقة وكما يفهموها هم.
استطاعوا (من خططوا لهذه الأزمة وغذوها بطريقة ذكية)، أن يحولوا القضية الى صراع بين النساء والرجال، ومن ثم تحولت الى صراع بين من يتحدث بأسم الدين وبين من يرفض زج الدين في هكذا قضايا، نشهد الآن حربا بين نساء ورجال، بين رؤى مختلفة للحياة، تبناها اصحابها وهم الآن يقاتلون لأجلها، ولكن للاسف قتالهم سيقضي عليهم هم، وعلى قضيتهم، فيما سيحقق الآخرون أهدافهم التي خططوا لها، وجعلوا دراما الاحوال الشخصية، ضحيتهم، او ضحيتنا جميعا.
الذين قالوا بان التعديل هو مطلب الشريعة الاسلامية (مع ملاحظة الفرق بين الشريعة وبين الفقه)، أقول: الاسلام الحقيقي هو ما جاء به القرآن الكريم، الأخلاق التي يجب ان نتخلق بها في الحياة، هي التي علمنا القرآن عليها، سأتطرق الى توصية قرآنية واحدة لإدارة هكذا أزمات، لو عملنا بها، لتغير المشهد الآن بكامله، هذه التوصية تقول: (وأدعو الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، الحكمة تعني إدارة المواقف بذكاء وفطنة حتى تحقق نتائج حكيمة، والموعظة الحسنة لمن هم معك في نفس الاتجاه، وفي نفس طريقة الحياة ولكنكم تختلفون في بعض التفاصيل، أما الجدال فهو مع الذين في الاتجاه المعاكس، من يختلفون معك في طريقة الحياة، هؤلاء جادلهم، ناقشهم، حاورهم، ولكن بالتي هي أحسن، لنضع خطوط تحت كلمة (أحسن)، أحسن تضم الاحترام والتقدير والكلمة الطيبة والتفهم والتسامح وتبادل المعرفة والآراء بكل اريحية، ليس بالضرورة ان تعتنق ما يقولون أو تتبنى ما يؤمنون به، ولكن حوارك معهم حوار الحسنى.
فإذا نرى هؤلاء، يشتمون، يقذفون النساء المحصنات، يسقطون بنساء بلدهم العراقيات، يهددون، يشيعون الخوف في صفوف الطرف المقابل لهم، كل من يخالفهم بالرأي فهو فاسق وفاسقة وفاجر وفاجرة وخارج عن الدين والمذهب!!
فكيف يتوقع هذا الطرف ان يحترمه الآخرون، أو يستمعون اليه حتى لو كان كلامه من ذهب!!
وفي المقابل، الطرف الآخر الذي يريد بقاء قانون الاحوال الشخصية المدني، يعتمد أساليب التسقيط والتسفيه والاساليب الهجومية والكلمات النابية، ولكنه لا يهدد، لانه لا يملك سلطة!!
نحتاج الى الخروج من التاريخ وأروقته وملفاته، لنعيش الحاضر بكل معطياته وملابساته وتحدياته.
نحتاج الى ان نخرج من الصندوق الزجاجي الذين نحن فيه، ونحلق بعيدا… ننظر الى المشهد الثقافي الحضاري المجتمعي الذي يشهده بلدنا حاليا، لنرى كم هائل من الصراخ والشتائم والتهديدات والعصي والبنادق والمدافع بين نساء ورجال، بين اتجاهات فكرية وعقدية متباينة لا تجيد الحوار ولا تعرف كيف تعيش مع بعضها البعض!!
للأسف، كلا الطرفين سيخسران المعركة، ففي الوقت الذي يتصارعان الآن على (أحوال شخصية)، ممكن ان يجلسا معا بكل هدوء، ويتناقشون ويتحاورون مع بعضهم، يستمع كل واحد للآخر بهدوء، يتعرف على مصالحه ونواياه، يسمع الى مشاكل الامهات ومشاكل الاباء في نفس الوقت، يحلل النتائج والمخرجات، يقوم بدراسة حالات.. وبعد ذلك يفكرون كيف سيضعون حلولا منطقية وواقعية وحقيقية لما تعاني منه الاسرة العراقية، بنسائها ورجالها وأطفالها.
ففي هذا الوقت الذي أنشغل فيه الجميع، الجميع، بمتابعة هذه القضية المصيرية، قام البرلمان العراقي بتشريع قوانين خطيرة، مرّت دون ان يلتفت اليها المجتمع العراقي، ودون ان يكون له وقت حتى ليسمع بها أو يعترض عليها!! وهكذا ينجح دائما السياسيون في تمرير صفقاتهم على حين غفلة من الناس البسطاء وحتى المثقفين والناشطين والمدافعين عن الحقوق.
ما يهمني في هذا الأمر، وأقولها بكل صراحة، ليس ما يحدث للنساء او الرجال، فالمرأة قادرة على التحكم في حياتها بطريقة او بأخرى، والرجل فهو صاحب السلطة المطلقة وبيده كل الامور، ما يهمني هو من لا حول له ولا قوة.. الطفل.
ذلك المخلوق البريء، الذي جاء الى الدنيا مرغما، لم يقرر هو قدومه، الاب والام من قررا جلبه الى هذا العالم، وبعد ذلك يتركانه للعالم ينهش بلحمه الطري.
لا القوانين تنصفه وتحميه (لا يوجد لدينا قانون لحماية الطفل او الاسرة، لماذا لا يستقتل البرلمان ليشرع هكذا قوانين)؟!!
لا المجتمع بمنظومته القيمية والعرفية تحميه (المجتمع ينظر الى الاب او الام او مقدم الرعاية بشكل عام وهو يعنف الطفل او يحرمه حقوقه دون ان يُحرك ساكنا او يعترض او يحمي، بل في بعض الحالات يكون المجتمع مساهما في التعنيف والظلم والاذية، والامثلة كثيرة).
لا أسرته تحميه (قد لا يحظى بأسرة مستقرة آمنة، أو يحظى بوالدين لا يفكران الا بأنفسهم، ويتخذان من الطفل آداة للانتقام من الطرف الآخر).
ستبقى مشاكلنا عالقة، ستبقى الامهات تبكي، وبعض الآباء يبكون، واطفالنا عالقون بمشاكل الكبار التي تتحول بمرور الوقت الى عقد نفسية تحيل حياتهم الى جحيم، او تحيلهم هم الى جحيم متحرك، ما دمنا لا نجيد فن الحياة والعيش المشترك.
برأيي مشكلتنا الآن ليست في قانون الاحوال الشخصية، بل مشكلتنا الحقيقية في أحوالنا الشخصية لا نعرف كيف نديرها، مازالت المعرفة ناقصة او معدمة بوعي ماذا تعني (الاسرة)، كيف نختار شريك الحياة، كيف نؤسس لحياة لا تهدر فيها الحقوق على أساس السلطة ومن يملك القوة.
مصيبتنا، في الاستبداد.. عندما نستبد بآرائنا وأفكارنا ونريد فرضها على الآخرين بالقوة والتهديد، عندما نريد إلغاء الآخر، تضييق فسحة الحياة الى نافذة واحدة لا تراها إلا أعيننا.
لطفا، تحاوروا بهدوء، وتناقشوا في قضاياكم باحترام وموضوعية.. ولتكن مصلحة الطفل هي الأولى والأهم، مصلحته الحقيقية كما هي، طبقا لمعطيات الواقع وظروف الزمان والمكان ومتطلبات الحياة الفعلية، الحياة الفعلية التي يعيشها، لنحمي حقوقه ونضمن له الحياة الكريمة.
لنجعل معيار القضية (حماية حقوق وتأمين حياة كريمة)، للجميع، فأيّ نص قانوني لا يضمن حماية حقوق ولا تكن مخرجاته حياة كريمة، يجب رفضه.