سلاما يا مثيلي يا أنا أنت : قصة قصيرة

سلاما يا مثيلي يا أنا أنت : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

رأيته جالسا على مقعد حجري في حديقة شبه مهجورة إلا من بعض عشاق قلائل يبحثون عن خلوة هادئة ، لمواصلة طقوس عشقهم بشغف و أمان ..

كان هو يرمي بين حين وآخر بعضا من فتات خبز وحبوب عباد شمس لسرب من حمائم و عصافير ترعى بالقرب منه دون وجل أو خوف..

استأذنته قائلا :

ـــ هل يمكن الجلوس ؟..

فانزاح جانبا وهو يقول :

ـــ آه بالطبع .. في النهاية لا فرق بيننا ..

جلست جنبه شاكرا ، وأردت أن أكون لطيفا أيضا ، فعلقتُ على كلامه ربما من باب المجاملة :

ــ حقا لا فرق بيننا !.. حتى تكاد أن تشبهني إلى حد كبير ..

فرد بابتسامة متفهمة بالكاد ظهرت على أسارير وجهه :

ــ أنا لا أشبهك فقط ، إنما أنا أنت ، وأنت أنا !..

قلت باستغراب ، عبرت عنها ملامح وجهي بدهشة واضحه لا يمكن إخفائها

ــ كيف يمكنني أن أفهم هذا الأمر ؟.. أعني أنت أنا .. و أنا أنت ؟..

ــ أفهمه كيفما يحلو لك ، دون أن يغير ذلك من حقيقة كوني مثيلك !..

ــ بالتأكيد إننا لسنا توأمين ، لو كنا كذلك لأصبحت على بينة من هذا الأمر منذ أمد بعيد ..

رد بنبرة ثقة قوية ويقين لا يتزعزع ، ناظرا نحو سرب من طيور مهاجرة تختفي متوارية خلف تلال من غيوم زاهية بأشعة شمس الغروب الصفراء الذهبية الممتزجة بالبرتقالية الضاربة على القرمزية :

ــ بل أكثر من ذلك بكثير !.. نحن أصلا تؤام الروح المتحد في جسد واحد ــ بعد تفكير قصير أردف ــ ولكن يحدث أحيانا إن نضيق ذرعا ببعضنا أو بسخافة العالم و ربما بالحضور الباهت و المحبط للآخرين ، ثم يلي ذلك فقدان المشاعر بأخوة البشر الدافئة بسبب القسوة السادرة والهمجية المنفلتة بينهم بضراوة مفرطة ، آنذاك يتعمق شعورنا بالاغتراب من أي شيء ، من كل شيء ، فننشّق عن بعضنا لنصبح اثنين ، طبعا لفترة ما ، ثم نعود لنكون واحدا موحدا ، كما كناــ مكررا المرة الثالثة ــ ، مثلما سنبقى إلى الأبد أنا أنت .. و أنت أنا …

هنا وجدت نفسي أسأله ، و كأنه قد أقنعني بصحة ومصداقية وجهة نظره بأنني مثيله، بالأحرى أناه الثانية :

ـــ والآن ؟ .. كيف حالك ؟ مزاجك ؟.. بالأحرى شعورك العام ؟..

ــ ممتاز .. بل أستطيع القول أنه عال العال بالتمام .. كلما في الأمر إنها حالة طارئة أشبه بزخة مطر عابرة .. أو أشبه بنزهة في حديقة حنين بحثا عن زهرة حب مفقودة أو مواساة مفاجئة .. لكوننا أحيانا نحّن إلى حزن شفاف كزاد إضافي لابد منه ، لتنويع وإغناء زاد الروح بغية تجديد وتنشيط المشاعر لتكون أكثر حيوية .. ولكن و كما تعرفني جيدا ، فأنا أعرف كيف أخلق أفراحي الصغيرة ، و أجعل ايامي أوقاتا قابلة لعيش جميل و مجيد ، دون الاستعانة بأحد ..

خطر ببالي أن أسأله ، كأنما مشهد عاشقين متواريين تحت أغصان شجرة وارفة و كثيفة قد حفزني على ذلك ـ :

ــ و أخبار النساء ؟.. أسألك لكوني أعلم بمدى ولعك و شغفك بالنساء من كل أشكال و أصناف و حجوم .. ههه ؟ ..

ابتسم بخفر و حياء ، في نفس الوقت قام بحركة عفوية كأنما ليحك نقطة وهمية على جبينه :

ــــ آه .. أنها علاقة شائكة و عويصة .. يمكن اختصارها بالمثل القائل :

ـــ ” لا معهّن ولا بدونهّن ” ..

ــ طيب .. ما هي أخبار مجتمعنا العظيم ؟..

ــ يكاد يكون وضعه ميؤوسا منه .. أظنه أضاع نفسه في متاهة الأوهام العقائدية و بشكل يكاد يكون وضعه ميؤوسا منه تماما ، على الأقل في الوقت الراهن ..

ــ حقا لم أر ولا سمعت بفئة كهؤلاء ، التي تُذل وتّهين نفسها بهذه الصورة المرضية السقيمة العجيبة من تهريج وتسخيف وأباطيل ، تُثير استغراب حتى أكثر البشر جنونا وحماقة ..

إلا أنه بدوره سألني سؤالا عجيبا ، بدون أي سياق ذات علاقة بالحوار القائم بيننا ، وبلهجة جدية تحمل قناعة راسخة :

ــ هل تحترم النملة ؟..

تفاجئتُ بالسؤال المباغت فتمتمتُ :

ـــ حقيقة .. يعني .. إن فكرة عجيبة كهذه لم تخطر على بالي ..

ــــ أما أنا فاحترم النملة جدا .. بل احترمها أكثر من بعض البشر الاتكاليين الطفيليين الذين يعتاشون على أتعاب الآخرين ..

قال ذلك مشيرا إلى حركات مُجهدة لنملة كانت تحمل أثقالا تُعادل حجمها بعشرات مرات لتضمن مؤونة الشتاء لنفسها و لأقرانها أيضا تحت الأرض ..

عندما رأني أحرك رأسي متفقا ، فتشجّع ليضيف :

ـــ و أحترم النحلة أيضا !.. فهي الأخرى تكدح طوال النهار متنقلة من زهرة إلى وردة ثم إلى زهرة أخرى لتقتنص قطرة ضئيلة من هنا وقطرة من هناك لتتجمع القطرات إلى أشبه ما يكون بنبع صغير من العسل .. ربما لهذا افكر في ان اكون بستانيا في الحدائق والغابات ..

أيدت فكرته قائلا

ــ

ــ مهنة شاعرية حقا ..بالمناسبة : هل سمعت آخر نكتة مضحكة ؟

ــ لا ..

ــ حسنا !.. ثمة شخص يشتعل جسمه بشدة في وسط شقة في طابق عاشر شبت بها ألسنة نيران كثيفة وعالية .. فيقترب من النافذة ليقفز ..حينذاك يصيح به أحد المتفرجين محذرا :

ــ ” لا تفعل ذلك .. فلا تقفز .. لأنك ستموت !” .

فنظر إليه الرجل المحترق بألسنة نيران عالية ، مستغربا و كأنه يريد أن يسأله :

ـــ وإذا بقيتُ في الغرفة المشتعلة ، فلن أموت من شدة الحريق ؟..

ــ لم اسمع نكتة تُبكي كهذه ..

ــ كنت أتوقع أنها لن تعجبك ، لهذا قلتها تأكيدا على الحماقة البشرية التي تستبد ببعض الناس بشكل لا رجاء في إصلاحهم ..

نهض وهو ينفض عن ملابسه بعض الأوراق العالقة ليقول مودعا

ــ

ــ آسف .. لقد آن أوان الانصراف لأصطياد فرحة هنا و متعة هناك بعدمامرت سحابة حزن عابرة .. إلى لقاء آخر ، ربما في حديقة مهجورة أخرى ، عندما يشتد ويتعمق شعورنا بالغربة الجوانية حتى من أنفسنا ، من حيث تداهمنا فجأة هذه الغربة الجوانية كضربة قاصمة ..

سلاما يا شبيهي .. و يا أنا أنت ….

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here