2024-09-10
البصرة –
نغم مكي
يقطع علاء عادل مسافة تبلغ 10 كلم بدراجته النارية ذات الثلاث عجلات “الستوتة” للوصول لنهر الصالحية المتفرع من شط العرب باتجاه شرق مدينة البصرة جنوب العراق. يترجل من دراجته ليجلس على ضفة النهر ويضع عدة الصيد وصندوق معبأ بالثلج لحفظ الأسماك والطُعم الملائم للصيد. يفر العرق من جبينه بسبب الحرارة العالية، إنما يتحمل بصبر وثبات كي يصطاد ما يريد. يرمي بصنارة الصيد بكل هدوء وينتظر ان تجلب له الأسماك، بعد نصف ساعة يشد الصنارة نحوه ليرى سمك البلطي مفقع العين ولونه غير المريح، فيعيد للنهر ما اصطاده بحسرة. انها من تلك الأسماك التي وجدت طريقها الى الشط العرب حديثاً ولا يفضلها الصيادون.
يتحدث الشاب الثلاثيني، عن افتقاد أنواع السمك التي كان يشتهر بها شط العرب، حيث لم يعد يرى الأسماك التي أعتاد صيدها سابقاً، قائلاً، “تعلمت مهنة الصيد منذ الطفولة وكانت مصدر رزقي لمدة 15 سنة. اليوم، لا أستطيع اصطياد الأسماك بنفس الكمية والجودة التي اعتدت عليها في الماضي، وذلك بسبب تلوث النهر والنفايات البلاستيكية والملوحة، لذلك توقفت عن مهنة الصيد من أجل الحصول على الأسماك، بل أمارسها كهواية لا أكثر”.
آخر رحلة صيد قام بها كانت قبل 5 سنوات في منطقة السيلة في ناحية المعامر في الفاو، التي تبعد 100 كم جنوب البصرة. ويتذكر بوجه ضاحك وفرحة كبيرة، كيف اصطاد كمية كبيرة من سمك البياح والربح الذي جناه من بيع ذلك الصيد.
يعود علاء، للواقع الأليم في الوقت الحاضر مشيراً إلى أن أكثر الأسماك التي يحصل عليها الآن هو سمك البلطي، أما الأنواع الأخرى مثل البياح فتراجعت أعدادها بنسبة 10 بالمئة في شط العرب بحسب قوله. ويزيد هذا التراجع كما يروي، بعد ناحية السيبة المحاذية لميناء عبادان الإيراني، وهي من أقدم النواحي في قضاء أبي الخصيب، 65 كلم جنوب مدينة البصرة، وصولاً للبحر.
ويستعين بذاكرته حين كان يقوم بتجهيز عدة الصيد وإعداد الطعم في السنوات الماضية، فنظراً لخبرته الطويلة في الصيد، يختلف الطُعم بحسب نوع السمك والمكان المحدد للصيد. بناءً على خبرته ومعرفته، يشرح كيف إن سمك البياح والصبور لا يصطاد إلا بالشباك، بينما السمك البحري بالصنارة، وبعد الانتهاء من تجهيز العدة كان يخرج علاء فجراً للصيد مع أصدقائه لاختيار المكان والوقت المناسبين للصيد ثم رمي الصنارات.
ويقول: هنالك أيام مقيدة لا تسمح بالصيد مثل أيام المد والجزر والرياح القوية والمد العالي، وخاصة المناطق الساحلية البحرية، فمن غير محبذ فيها الصيد خاصة أيام الرطوبة العالية، وتُعد الفترة الواقعة بين شهر تشرين الأول (أكتوبر) وأيار (مايو) أفضل فترة للصيد حيث تكون الأجواء ممتازة.
يتابع قائلاً “لقد أدى تلوث المياه في شط العرب والمد الملحي والنفايات الى تراجع أعداد الأسماك وشح الصيد بعد 2013، ما أدى الى ترك مهنة الصيد لدى غالبية الصيادين قائلاً، ” انقطع رزق معظم الصيادين وتوقف حالهم”.
مصب الأنهار وموارد مائية قليلة
على الرغم من كونها العاصمة الاقتصادية للعراق، إلا أن مدينة البصرة، التي يقطنها نحو أربعة ملايين نسمة، تعاني أكثر من غيرها من شح المياه، ناهيك عن نسبة التلوث العالية ليس في مياه شط العرب فحسب، بل حتى في هوائها وتربتها، وذلك بسبب الصناعة النفطية والتصحر من جانب وموقع المحافظة كمصب لجميع الأنهار من جانب آخر. إن تدهور البيئة البحرية في هذه المحافظة الجنوبية جراء الرواسب المائية الكثيفة والآثار الناجمة عن استخدام الأنهار لأغراض الصناعة والزراعة، جعل من نوعية مياه غير صالحة لغالبية الأحياء قبل التقائها بمياه الخليج.
علاوة على ذلك، تراجعت التساقطات المطرية بشكل ملحوظ جراء آثار تغير المناخ، ويعود جزء كبير من أسباب تلوث البيئة النهرية والبحرية في البصرة بحسب المسؤولين العراقيين الى تراجع تدفق المياه من الأنهار القادمة من تركيا وإيران.
بناءً على معلومات صرح بها وزير الموارد المائية العراقي عون ذياب عبد الله لوسائل إعلام عربية بأن معدل الإيرادات السنوي من نهر الفرات الذي كان لا يقل عن 30 مليار متر مكعب سنويا، انخفض الى 14 مليار متر مكعب وستواصل في الانخفاض ليصل خلال الأربع سنوات الماضية إلى أقل من 7 مليار متر مكعب. بالمقابل انخفض معدل الإيرادات من المياه في نهر دجلة الى مليار متر مكعب سنوياً بينما كان يبلغ 21 مليارا قبل عام 1999.
فيما يرى هادي عبد الحسين خضير، رئيس القسم البيولوجي في مديرية بيئة البصرة، أن كمية الاطلاقات المائية من محافظة ميسان شمالاً باتجاه البصرة غير كافية، ما يضعف التدفق ويتسبب في صعود اللسان الملحي من الخليج الى شط العرب أثناء حالة المد وتغلغل اللسان الملحي، بالتالي في المياه العذبة.
ويلفت خضير، إلى أن هنالك تأثيرا إيجابيا على نوعية مياه شط العرب إذا كان نهر الكارون الداخل من إيران مفتوحا ويصرف مياهه في شط العرب. بخصوص التراكيز الملحية.
ويشير أن نسبتها تتراوح بين 1510- 2555 ملغم/لتر قرب جسر خالد وتتراوح هي بحسب تقييمه تراكيز لا بأس بها وجيدة، أما في جنوب محافظة البصرة وفي قضاء الفاو تحديدا، فتتأثر نوعية المياه بنهر الكارون تأثيراً كبيراً، مضيفا أن “هذا العام 2024 لا توجد لدينا بيانات حول وضع التراكيز الملحية في مياه الفاو. وقد شهدت التراكيز للأملاح الذائبة الكلية TDS ارتفاعا ملحوظا خلال تشرين الأول أكتوبر وتشرين الثاني نوفمبر وكانون الأول ديسمبر لعام 2023، حيث سجلت 14964-17075-11350 ملغم على التوالي”.
من جانبه، يذهب علاء البدران، الخبير في شؤون المياه والزراعة، الى أن “أهم مصدر لتلوث مياه شط العرب هو الأحياء السكنية العشوائية نتيجة التوسع السكاني على حساب المناطق الزراعية. وقد تحولت مياه مجاري العشوائيات لأنهار يتم تفريغها في الشط العرب، ما أدى الى فقدان الكثير من الأحياء المائية المتوطنة، فضلاً عن التلوث الصناعي الناجم عن تهريب النفط ايام الحصار على العراق وملوحة المياه لاحقا”.
هذا وقد اتخذت الحكومة عام 2018 قرارا بتنفيذ مشروع الأنابيب الناقلة لمياه مجاري مركز المدينة، إلا أن المناطق السكنية المحاذية لشط العرب بقسميها الشمالي والجنوبي ما زالت تفرغ مياه مجاريها مباشرة إلى الشط دون معالجة، الأمر الذي يسبب المزيد من التلوث.
تلوث المياه يهدد الثروة السمكية
من جانبه، يتحدث أحمد منذر شاكر الجناعي، المتخصص في الأمراض والطفيليات التي تصيب الأسماك ومهندس استشاري في قسم الأسماك في مديرية زراعة البصرة، قائلاً إن “البيئة المائية تأثرت بشكل كبير بارتفاع نسب الملوثات والملوحة، ما أثر على الأحياء المائية بما في ذلك الأسماك والنباتات”. وقد أثرت التغيرات في البيئة المائية على أنواع الأسماك وموائلها وتكاثرها. ويشرح الباحث الجناعي، التغيرات على النحو التالي، “أدت الملوحة الى صعود الأسماك البحرية من مصب شط العرب الى أعالي الشط وتأثرت كمية الأسماك من حيث النوعية بالملوحة وازدادت الأسماك البحرية 75 بالمئة بالمقارنة مع الأنواع النهرية التي ازدادت عن 13 بالمئة، أما الأنواع الغريبة أو الدخيلة فبلغت نسبة ازديادها 12 بالمئة بحسب البيانات العائدة الى عام 2020 في شط العرب.
لم تقتصر آثار التلوث على الأسماك فقط، بل شملت الأنواع البحرية الأخرى مثل القواقع والقشريات وكذلك النباتات. ويضيف الجناعي بهذا الخصوص، “فقدنا معظم النباتات المائية التي تعد مهمة جدا للبيئة البحرية التي تُعد أعشاشاً للأسماك وغذاء لها وللأحياء المائية الأخرى حيث تعتبر مكملاً مهماً في السلاسل الغذائية المائية”.
ويوضح الباحث في سرده لأحوال القواقع والقشريات التي تعيش على النباتات المائية، أنها قد تأثرت حين تدهورت السلاسل الغذائية بشكل كامل واختفى الكثير من أنواع النباتات في البصرة.
ووفقاً للمعلومات التي يقدمها الباحث، يواجه المختصون صعوبة في العثور على النباتات المائية، وإن وجدت فإنها تظهر بكميات قليلة جداً بينما كانت في 2010 تسد أنابيب المجاري وتسد الأنهار الداخلية وكانت تعد مشكلة بسبب كثافتها. أما الآن فقد أصبحت نادرة الوجود، وهو أمر يسبب خللا كبيرا في إدامة وتوازن السلسلة الغذائية، لأن اختفاء النباتات يؤثر على القشريات والقواقع وعلى الأسماك، ذلك أن حياة تلك الأحياء المائية تعتمد على سلاسل غذائية واحدة.
ويضيف الجناعي: “سجلت الأنواع المنقرضة من الأسماك في القائمة الحمراء العالمية Red list للكائنات المنقرضة أو التي اقتربت من الانقراض في وادي الرافدين وشط العرب ووضع سمك البني في اللائحة الحمراء من الأنواع المهددة بالانقراض والتي تعتبر من الأسماك الأصلية والمميزة في وادي الرافدين وبالأخص في شط العرب”.
ويكمل حديثه في هذا السياق قائلاً، “تعد عمليات الصيد الجائر إحدى الأسباب الرئيسة للانقراض وبسبب التغير في البيئة المائية ساد نوع دخيل في السنوات من 2008 لغاية 2010 وسيطر على البيئة المائية وهو أسماك الكرسين وأسماك الخشني مع التنوع الكبير بالأنواع المحلية والأصيلة التي تضم أسماك أنواع الشبوط والبني والگطان والجصان، وهذه الأنواع قلت تدريجيا في 2008 الى 2010 وبدأ ظهور البلطي حتى هذا الوقت”.
وبحسب بيانات المختصين، بما في ذلك البيانات التي وفرها أحمد الجناعي، أن البيئة المائية في تغير مستمر، حتى سمك الكرسين الذي غزا البيئة المائية في فترة معينة اختفى وظهر البلطي، ومن المتوقع أن يختفي هذا النوع أيضا في الفترة القادمة وينقرض بسبب تغير البيئة المائية وتأتي أنواع أخرى ربما هي أنواع رديئة غير مرغوبة، وقد تكون غير صالحة للأكل مثل أنواع الأسماك الجري. وهذا الأخير لدينا منه أكثر من نوع مثل (الزمير) نوع بحري و(السلوريات) وهي تنتشر بأنواع غير مرغوبة وغير صالحة للأكل بدل البلطي الذي يعتبر أيضاً نوعاً رديئاً.
ويضيف الجناعي: بسبب تغير البيئة مرت الأسماك بمراحل انتقالية من تواجد انواع متنوعة الى أنواع محدودة وفقيرة ثم إلى أنواع غير مرغوبة أو غير صالحة للأكل. وإذا استمر الإهمال والتلوث وعدم مراعاة البيئة، ربما تختفي الأنواع الأصلية من الأسماك في البيئة المائية كما حدث في الأنهار الموجودة في الهند، حيث اختفت كل الأنواع مما مهد الطريق أمام تكاثر السلوريات.
التلوث يهدد التنوع الأحيائي ويزيد الأنواع الدخيلة
يقول كامل حسن الفياضي، المتخصص في التنوع البيولوجي والبيئة الحيوانية، إن “الآثار الناجمة عن ارتفاع تراكيز الأملاح الصلبة الذائبة الكلية TDS والملوحة إلى أضعاف ما كانت عليه سابقا والشح المائي، أثرت سلباً على التنوع الاحيائي في المنطقة، وأدت إلى خلل في النظم البيئية الطبيعية للمنطقة حيث لوحظ تواجد أحياء دخيلة وغازية بحرية في مياه شط العرب.
أدى تلوث مياه شط العرب إلى تهديد بعض أنواع النباتات التي كانت سائدة وواسعة الانتشار إلى تقليص مساحتها بسبب دخول الأنواع الغريبة الغازية التي تنافس الأنواع الأخرى في موائلها ومصادر غذائها، وبما أن البقاء يكون للأقوى في النظم البيئية، فتكون الكفة الأقوى لهذه الأنواع الدخيلة وليست الأنواع الأصلية المستوطنة. وللأنواع الدخيلة القدرة على التأقلم مع الشروط الجديدة التي تفرضها الظروف البيئية الجديدة التي أصبحت قاسية على الأنواع الأصيلة بسبب التغيرات التي أصابت الخواص الفيزيائية والكيميائية الطبيعية لمياه شط العرب والناجمة عن عوامل عدة، وهي: نبات مزمار الراعي في كرمة علي في شط العرب المهدد بالانقراض، ولسان الثور في شط العرب والأفرع الجانبية في قضاء البصرة، وناحية الهارثة، وقضاء ابو الخصيب والكاط في قضاء المدينة والفاو، أما النباتات المائية المنقرضة في البصرة فإنها تزيد عن ثمانية أنواع.
يتابع الفياضي في روايته، “واجه التنوع الاحيائي للأسماك في المسطحات المائية معوقات كثيرة، منها سوء إدارة المسطحات والصيد الجائر واستخدام وسائل صيد غير قانونية، إذ تنهار التركيبة الاحيائية للتجمعات السمكية كماً ونوعاً بصورة عامة والتنوع السمكي خاصة. يضاف الى ذلك التوسع العمراني الناجم عن النمو السكاني والتطور الصناعي والزراعي وزيادة الملوثات التي تلقى في المياه، تواجه الأسماك في المياه العذبة الخطر والتهديد من قبل الأنواع الغازية التي تتحمل الملوحة العالية ودرجة الحرارة المرتفعة.
على سبيل المثال يقاوم (الكارب البروسي) الشائع باسم السمك البلطي، العيش في المياه الحامضية فهي قوية التحمل للظروف الصعبة والمميتة عند ارتفاع نسبة التلوث الأزرق وغيرها. وتعد الأسماك الغازية أحد عوامل التغير في التنوع الأحيائي المائي، إذ من الممكن أن يقود إلى تغير عكسي في النظام البيئي، ما ينتج عنه انقراض بعض الأنواع المحلية وأيضا يعد شط العرب منطقة مصب الأنهار بيئة ملائمة للأسماك البحرية التي تدخل عن طريق ظاهرة المد أو نتيجة انخفاض المنسوب والأكثر شيوعاً البياح.
تهديد صحي وبيئي
الخبير بالتنوع الأحيائي ليث العبيدي، ينوه الى أن التلوث في شط العرب يترك تأثيرات خطيرة على النظم البيئية والصحية. ويرجع الخبير أسباب التلوث الى تفريغ مياه الصرف الصحي في الأنهار العذبة، ناهيك بالعناصر الثقيلة والملوثات الأخرى التي تهدد الأحياء المائية، مثل الأسماك والطيور والقواقع وجميع الكائنات الاخرى الموجودة في البيئة المائية. وقد يؤدي التلوث إذا كانت نسبته عالية الى القتل المباشر للكائنات أو تكون التأثيرات تراكمية على الأنواع بدءاً من الأنسجة وصولاً إلى العضلات، الأمر الذي يترك اَثاراً على الإنسان حين يتناول هذه الكائنات البحرية. وأصبحت الملوحة في مياه شط العرب عالية، حيث تقترب من مستوى ملوحة البحر، وأصبحت مياهها مختلطة بين النهري والبحري، الأمر الذي يجلب الكائنات البحرية مما يسبب التزاحم على البيئة النهرية، ويتلف النظام البيئي في المياه العذبة أو المياه المختلطة. ويعد هذا التزاحم تهديداً للكائنات الأخرى التي تعيش في هذه المناطق، وذلك بسبب تغير طبيعة المياه من العذبة أو المختلطة الى المالحة، ما يهدد الأنواع بسبب تزاحم الأنواع البحرية.
ويشير العبيدي، الى أن هذا التلوث ليس له نتائج سلبية فقط على البيئة، بل يمثل خطرًا على الصحة العامة أيضًا، حيث يمكن أن تنتقل الملوثات عبر السلسلة الغذائية إلى الإنسان، ما يمكن أن يتسبب في مشاكل صحية خطيرة في حالة استهلاك تلك الكائنات الملوثة. تجلب المياه الملوثة بالملوحة والنفايات الصناعية معها تغيرات جذرية في البيئة النهرية، ما يجعلها بيئة ملائمة للكائنات البحرية التي تتحرك نحو هذه المناطق، الأمر الذي يسبب تزاحمًا وصراعًا على الموارد الطبيعية بين الكائنات البحرية والكائنات المائية الأخرى التي تعيش في المياه العذبة.
الغوارق ماضي مستمر للتلوث
إلى ذلك، يكشف مدير قسم الإنقاذ البحري مدين عبد الجبار، أن قسم الإنقاذ تمكن من انتشال 23 هدفا من الغوارق ضمن خطة العام السابق 2023، في حين تم منذ مطلع العام الجاري انتشال نحو تسعة غوارق بحرية في أُم قصر وكورنيش التنومة وقرب القصور الحكومية.
ويبين عبد الجبار، أن “الموانئ تعمل جاهدة من خلال قسم الإنقاذ البحري التابع لها على رفع الغوارق والمخلفات البحرية من جميع القنوات البحرية وواجهات الأرصفة، كون هذه المخلفات تعيق حركة الملاحة البحرية وتسبب ضررا بيئيا وتشوه منظر المناطق السياحية في البصرة”.
وفي ذات السياق، يتحدث جاسم المالكي، المتخصص في التلوث البيئي وتقنيات معالجة المياه لمعدة هذا التقرير، قائلاً إن “الغوارق تعد واحدة من المشاكل البيئية الخطيرة التي يعاني منها شط العرب ويمتد تأثيرها لسنوات طويلة حيث بدأت قصتها إبان الحرب العراقية الإيرانية، وتعرض العديد من القطع البحرية للغرق في مجرى الشط وتبعها إغراق العديد من القطع البحرية في حرب الخليج وما تبعها من حروب متتالية، ما أدى إلى زيادة عدد الغوارق في شط العرب مع توقف تام لعمليات الكري والتنظيف التي استمرت عقود من الزمن”.
كما أن هنالك قطعا بحرية متروكة من قبل الأهالي بعد سنوات الحصار، والتي كانت تستخدم في فترات التهريب للنفط في تلك الفترة، حيث توقفت تلك العمليات بعد سقوط النظام، وتركت تلك القطع البحرية على جانبي النهر، ما زاد من خطورة المشهد، كما يضيف المالكي.
ويردف أن “تلك المواد وبعد تعرضها للاندثار وعوامل التعرية البيئية ينتج عنها العديد من العناصر الكيميائية الخطرة وأهمها العناصر الثقيلة التي لها تأثير مباشر على حياة الكائنات الحية وتنتقل عبر السلسلة الغذائية للإنسان وقد ترافق ذلك مع تدهور بيئة شط العرب بصورة عامة نتيجة قلة التصاريف المائية القادمة إليه واستمرار إلقاء الملوثات المختلفة إلى مجراه الرئيسي مما زاد من حدة التأثير على أشكال التنوع الحيوي النباتي والأسماك والأحياء الأخرى المتعايشة في بيئة شط العرب.
ويؤكد أن “انتشال تلك الغوارق يحتاج إلى وقت طويل، وسوف يبقى تأثيرها حتى رفعها، لذلك يجب إجراء عمليات تصحيح بيئي للمنطقة لغرض التقليل من تلك التأثيرات”.
حقوق إنسان مهدورة
من جانبه، يشير عبد المهدي التميمي رئيس فرع البصرة لمفوضية حقوق الإنسان في العراق، الى ان البصرة تشهد واقع خطير جراء تلوث المياه في شط العرب وهذا الشط الذي حظيت به المدينة على مر آلاف السنين جراء التقاء نهرين عظيمين هما نهري دجلة والفرات اليوم بات مكباً للنفايات والمياه الثقيلة التي تأتي من بقية المحافظات وشمال المحافظة مع قلة الاطلاقات وزيادة الملوثات.
ويقول التميمي، “في عام 2018 الذي شهد تسجيل أكثر من 100 ألف حالة تسمم من البصريين، حيث كانت القراءات تبين أن نسبة تلوث الشط تقترب من 98 في المئة جرثومياً، 48 إلى 50 في المئة كيميائياً، وبالتالي عملية تجزئة الاستفادة من النهر هي عملية تحلية المياه لا تعد اليوم مستوفية للشروط الصحية والبيئية ومخالفة لقانون 27 لعام 2009 لحماية وتحسين البيئة، حيث أن المياه الملوثة كيميائيا لا يمكن التعامل معها إلا بتقنينها وزيادة الإطلاقات عبر قنوات وعبر أجهزة خاصة وأن تحلية المياه لا تقضي على التلوث الكيميائي.
“ربما بالإمكان تصفية المياه إلى درجة من النقاوة من ناحية جرثومية بعد استخدام مركب عنصر الكلور، إلا أن الكلور مع التلوث الكيميائي يعد خطيراً وخطيراً للغاية، إضافة الى استمرار رمي النفايات الثقيلة في المحافظة والمياه الثقيلة” يقول التميمي.
ويتابع مهدي التميمي بالقول، “كذلك ما تلقيه شركات النفط وشركات الكهرباء والعيادات الطبية والمستشفيات والعيادات الخاصة، هذا كله أيضا يشكل زيادة في نسبة التلوث في هذا الشط وايضا قلة او انعدام اطلاقات مياه الكارون من الجانب الإيراني أدى إلى زيادة في هذه الملوثات كما أن الجانب الإيراني يقوم بعملية رمي المواد الكيماوية من محطات عبادان”.
أدى كل ذلك إلى زيادة اللسان الملحي من الخليج إلى مناطق جنوب مركز المحافظة وشمالها، وهذا اللسان ليس بمعزل عن الزيادات في نسب التلوث الكيميائي والجرثومي مع إصابات الفشل الكبدي جراء تلوث المياه وإلى التهابات الكبد المتنوعة بأرقام ربما تتعدى الآلاف، ولا توجد إحصائية ثابتة بهذا الخصوص.
ويشير التميمي، في ختام حديثه الى “انعدام المحطات والآليات الخاصة في تصفية المياه في المحافظة إضافة إلى وعدم وجود رقابة دقيقة على ما تنتجه محطات التصفية مع قلة الإطلاقات”، مختتما كلامه بالقول، “أدى كل ذلك إلى تحول الشط لمكب نفايات ومياهه لا تصلح حتى لسقي المزروعات، وأن العملية تحتاج إلى حل جذري وهو للأسف بات متوقفا”.
مصادر متعددة للمياه
يوعز جاسم المالكي، أن الإطلاقات المائية لدول الجوار أثر بشكل كبير على زيادة الملوحة والسبب الرئيسي الذي أدى إلى تدهور نوعية المياه في شط العرب. في السابق، كان يتغذى الشط على خمس مصادر رئيسية، أما اليوم فقط مصدر واحد يغذيه، وهو نهر دجلة من خلف ناظم قلعة صالح، أما بقية المصادر فقد قطعت بالكامل عنه، وكل هذا بسبب قلة التصاريف المائية القادمة من دول الجوار خاصة تركيا وإيران.
ويكمل جاسم: “يغذي نهر دجلة من خلف قلعة صالح بتصريف مسيطر عليه، تتراوح نسبته بين أقل من 50 متر مكعب في الثانية وبعض الأوقات الحرجة إلى 120 متر مكعب بالثانية في السنوات الرطبة الممطرة، انما المعدل العام فهو بحدود 75 متر مكعب في الثانية”.
أما المصدر الثاني الذي يغذي شط العرب من جهة الجبايش والمدَينة، قد قطع الآن، أما المصدر الثالث، فهو الفرات من جهة هور الحمار في الگرمة وهو مقطوع أيضاً، وكذلك المصدر الرابع نهر السويب من جهة هور الحويزة والمصدر الخامس وهو نهر الكارون في الغالب مقطوع، يفتح فقط في أوقات محددة وقد يستمر غلقه سنوات احياناً.
ويشير المالكي، الى أن قناة البدعة تجلب تصريف مائي 5 متر مكعب في الثانية، ولكنها لا تكفي أيضاً لسد احتياجات بعض مناطق مركز المدينة وبعض الأقضية التي لا يتوفر فيها مصدر ماء مناسب خاصة سفوان وأم قصر والفاو. وبسبب مياه الصرف اللا صحي وما ينتج عنه من ضرر، تعتمد أغلب محطات الاسالة على مياه شط العرب لضخها إلى المنازل وهي كثيرا ما تكون غير صالحة للاستخدام البشري ولذلك لجأ الاهالي في محافظة البصرة بالاعتماد على مصدرين للمياه في داخل المنازل أولها مياه الاسالة لأغراض التنظيف والاستحمام وبعض الاعمال الأخرى أما مياه الشرب فيعتمدون على المياه المعبأة أو ما يسمى بمياه الـRO.
رصد بيئي بلا حلول
يقول مصدر في مديرية حماية وتحسين البيئة للمنطقة الجنوبية في البصرة، طلب عدم الإشارة إلى أسمه، “يوجد هناك رصد بيئي للملوثات في شط العرب من خلال الفرق الرقابية لمديرية بيئة البصرة وفحص نماذج المياه في مختبرات المديرية ومعرفة عناصر التلوث، وهي ضمن المحددات البيئية المسموح بها عالمياً وتتم وفق الإجراءات القانونية سارية المفعول من خلال الانذارات وفي حالة عدم إزالة المخالفة تتحول إلى غرامة مالية”.
ويؤكد المصدر على رصد عدة حالات مرضية كالكوليرا والتيفوئيد وأمراض أخرى بسبب تلوث المياه خلال ارتفاع الملوحة أو نتيجة المخلفات الكيميائية بأرقام غير مخولين بالتصريح عنها ونحن جهة رقابية نرصد التلوث ونسحب نماذج للفحوصات المختبرية ونعد تقارير بالنتائج وإرسالها للجهات المختصة فقط.
معالجات غير جدية ومترهلة
من جهته، يكشف المدير العام لدائرة البيئة في المنطقة الجنوبية محسن عزيز، عن اتخاذ الوزارة عدد من الإجراءات لغرض الحد من التلوث الناتج من الأنشطة المخالفة للتعليمات والمتطلبات البيئية.
ويقول عزيز، إن “وزارة البيئة تعمل على مراقبة جميع الأنشطة لغرض الوقوف على الواقع البيئي الحقيقي وتقليل التلوث الناتج منها وتحسين الواقع البيئي واتخاذ عدد من الإجراءات القانونية المتمثلة بتوجيه الإنذارات وفرض الغرامات”.
ويدعو إلى ضرورة الاستفادة من مياه الصرف الصحي بعد معالجتها واستخدامها في زراعة بعض الأشجار غير المثمرة لغرض تحسين الواقع البيئي في جميع المحافظات، مشيراً إلى أن العراق تعرض إلى شح مياه خانق في الفترة الماضية بسبب قلة الاطلاقات المائية من دول المنبع في حوضي نهر دجلة والفرات، الأمر الذي كان له تأثير على الغطاء النباتي، ومنها في المحافظات الجنوبية.
ويشدد علاء البدران، على أن موضوع وقف التخلص من الملوحة ما زال متعثّراً من قبل وزارة الموارد المائية رغم القوانين التي تخص البيئة والنقل والزراعة كلها تمنع حصول تجاوزات على شط العرب، لكن الجهات التنفيذية أغلبها، إن لم تكن جميعها، لا تنفذ أو تتولى مسؤولياتها بتطبيق القوانين. وأيضاً المنظمات والجهات المجتمعية لديها قصور واضح في مجال الضغط على الجهات المسببة للتلوث حكومية أو خاصة مسؤولية تضامنية لا تختص بجهة دون أخرى، وأبرز التحديات التي تواجه الحد من التلوث هي الروتين الحكومي والتمويل والفساد والترهل في تنفيذ المشاريع.
وبالنسبة لمدير فرع البصرة لمفوضية حقوق الإنسان، لا يختلف برأيه مع ما ذكر وأضاف التميمي، قائلاً “هناك تسويف في الوعود والمماطلة بتنفيذها إنشاء محطة تحلية عملاقة في قضاء الفاو، إلا أن هذه المحطات تتأرجح بين قرار حكومي ضعيف وإعلامي أكثر مما هو واقعي يتضمن الموازنة الثلاثية، ثم يرفع من هذه الموازنة، كذلك الحكومة المحلية في البصرة ليست جادة في تنفيذ وإنشاء هذه المحطة حيث أخضعت المحطة مرة أخرى الى الدراسة لمدة ثلاث سنوات، بمعنى ان هذه المحطة ستكون حلماً للبصريين وهو المنقذ للبصرة ولكن ستصبح حلماً بعد سنين مرة اخرى.
بالعودة الى قصة علاء عادل، التي كانت بوابة لهذا التحقيق عن تلوث النظم البيئية المائية في البصرة: إنه، بعد أن وضع اليسر النذير مما اصطاده في الصندوق، يأمل أن “تُقطع أنابيب الصرف الصحي عن مياه شط العرب ورفع النفايات الطبية للمستشفيات وإنقاذ ما تبقى من النهر الذي كان زاخراً بالأسماك وعذوبة المياه يوماً”.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط