دق ناقوس الخطر.. الجفاف يهدد استقرار المجتمع في الأنبار


2024-09-24
الأنبار –
هاجر العبيدي
تواجه محافظة الأنبار أزمة مائية حادة فاقمت الوضع المائي الهش الذي كانت عليه المحافظة، حيث لم يبق من 3.5 مليارات متر مكعب من مياه بحيرة الحبانية سوى نصف مليار فقط، ليشكل ذلك صورة جلية لما تعانيه هذه المحافظة الغربية من جفاف غير مسبوق.

لقد أدت عوامل متعددة بما في ذلك عواقب التغيرات المناخية والسياسات المائية الإقليمية والمحلية إلى تزايد رقعة الجفاف وارتفاع درجات الحرارة والتصحر، وكذلك تراجع منسوب المياه في الأنهار والبحيرات، الأمر الذي دفع بالسكان إلى الاعتماد بشكل رئيسي على المياه الجوفية.

تساهم عوامل متعددة ومتشابكة بأزمة المياه في محافظة الأنبار، وتعرض أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية إلى مزيد من الهشاشة، بالإضافة إلى الوضع الحرج الذي يمر به نهر الفرات جراء المشاريع المائية والسدود المبنية عليه في كل من تركيا وسوريا مما قلل تدفق المياه إلى العراق، حيث تأثرت المصادر المائية بعوامل أخرى تهدد استقرار سكان المحافظة، بما في ذلك سوء الإدارة، والإفراط في استخدام المياه المتاحة، وكذلك الدمار الذي تعرضت له الشبكات والبنى التحتية للمياه جراء احتلال تنظيم داعش للمحافظة عام 2014، ناهيك عن دور التوسع العمراني والازدياد السكاني في المنطقة.

وقد ترك سيطرة تنظيم داعش آثارا إضافية لما تعانيه المحافظة من قلة الموارد المائية جراء الجفاف واستنفاد المياه الجوفية، وتوضح لنا قصة مزارع في منطقة تسمى (العوينة) في ناحية الرحالية حجم تلك الآثار المترتبة على المياه والزراعة واستقرار السكان.

لقد امتهن وورث هيثم نوري، زراعة النخيل عن أجداده، ولم تراوده فكرة الهجرة وترك أرضه وأشجار النخيل يوما، ولكن لم يعد بمقدوره مقاومة الجفاف والأوبئة التي تصيب بساتين النخيل، بينما لا يرى آذانا صاغية لاحتياجاته واحتياجات غيره من المزارعين.

ويشير المزارع الأنباري، في حديثه لكاتبة التقرير الذي تنشره “العالم الجديد” حصرا، إلى أن أغلب الناس تركوا أراضيهم وهاجروا، لأن المياه قلّت، بل أصبحت نادرة، بما فيها العيون التي تتغذى على مياه نهر الفرات وأبرزها “العين الزرقاء” التي كانت غزيرة بالمياه وجفّت الآن، يضاف إلى ذلك انعدام خدمات الكهرباء، حيث لا يمكنهم سحب المياه من عمق الأرض دون المضخات الكهربائية، ناهيك عن تلك الأضرار التي لحقت بمصادر المياه، بما في ذلك المحطات والينابيع الطبيعية أثناء احتلال داعش للمنطقة.

وقد تعرضت محطات التنقية إلى قصف وتدمير، ما أدى إلى تلوث المياه بالمواد الكيميائية والبكتيريا وتعطيل شبكات الإمداد، كما تعرضت السدود والقنوات التي تزود المحافظة بالمياه إلى التخريب، ما أدى إلى تراجع منسوب المياه في الأنهار وتعطيل عمليات الري، علاوة على ذلك، نجم عن أعمال تنظيم داعش تلوث ملحوظ في العيون والمياه الجوفية، مما جعلها غير صالحة للشرب أو الاستخدام الزراعي.

ويشير المزارع هيثم نوري، إلى أن “إنتاجية التمور قلت بنسبة 50 بالمئة بعد الفترة التي سيطر فيها التنظيم على المنطقة”، وذلك جراء تهجير السكان وتخريب مصادر المياه، الأمر الذي ترك البساتين للعطش والحر دون عناية.

الأمر الآخر الذي يرهق كاهل المزارعين في الأنبار كما يشير نوري، هو تفشي الأمراض الفطرية والبكتيرية بين أشجار النخيل، مثل مرض البيوض الأحمر، بينما لا تلتفت الحكومة المحلية والاتحادية إلى أوضاع الزراعة والفلاحين، الأمر الذي يجبرهم على ترك أراضيهم والهجرة نحو المدن بحثا عن مصادر رزقهم. “نعم أفكر جدياً بترك المهنة لتلك الأسباب”، يقول هيثم.

وحول جفاف ينبوع “العين الزرقاء” المائي في ناحية الرحالية، يقول مديرها مصطفى أبو ريشة، إن “ذلك أدى إلى موت الكثير من المحاصيل وجفاف الأراضي الزراعية”.

ويضيف أبو ريشة، “لقد قل الدعم في السنوات الأخيرة التي تلت سيطرة تنظيم داعش على المنطقة، حيث أصبحت الحركة والتنقل والحصول على المحاصيل والأسمدة والمياه صعبة، ما زاد من جفاف الأراضي”.

وعلى الرغم من هذا الواقع، يشير مدير ناحية الرحالية، إلى أن “البلدة شهدت تقدما في القطاع الزراعي وفي تنويع المحاصيل، واستخدام الوسائل الحديثة في ري الزراعة، ما أدى إلى زيادة في الإنتاج في معظم المحاصيل”.

ولكن حجم الأضرار يزيد عن أي تقدم يُذكر، خاصة وأن حرب داعش فاقمت الأزمة المائية والزراعية في الأنبار، إثر عمليات تدمير القرى والأرياف التي تضررت وتهجر سكانها إلى المخيمات، تاركين وراءهم العديد من الأراضي الزراعية التي اندثرت وأصبحت خارج الخدمة. وحصل ذلك في قوت تعاني المنطقة من آثار الأزمات المناخية والأمنية والإقليمية التي أصابتها، ولم يعد بمقدور السكان العودة إلى مناطقهم، بحسب أبو ريشة.

من جهته، يقول الناشط البيئي صميم سلام، لكاتبة التقرير الذي تنشره “العالم الجديد”، إن “أكثر من 10 آلاف عائلة في منطقتي العنكور والمجر في قضاء الحبانية داخل المحافظة تعاني من شح المياه، نتيجة جفاف البحيرة التي كانوا يعتمدون عليها في الزراعة وصيد الأسماك”.

ويلفت سلام، إلى “تكرار المناشدات والمطالبات بتدخل رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، بشكل مباشر لإنعاش البحيرة وإنقاذ القاطنين حولها، لكن الإيرادات المائية التي يحصل عليها العراق حاليا لا تكفي لذلك، فالبحيرة خرجت عن الخدمة منذ 3 سنوات، وهي تدخل عامها الرابع من الجفاف الذي أصابها وقد تختفي عن الأنظار نهائيا”.

ويتابع “كانت مدينة الحبانية السياحية تعد من أضخم المشاريع في العراق والشرق الأوسط، حيث كانت منتجعا متكاملا ووجهة سياحية لكل دول المنطقة”.

من جانبه، يقول عضو مجلس محافظة الأنبار، عدنان الكبيسي، إن “بحيرة الحبانية كانت تمتد من الرمادي إلى الحبانية، وكانت سدا منيعا بين الرمادي والمناطق الجنوبية، لكنها حاليا يتم عبورها مشيا على الأقدام نتيجة الجفاف”.

ويعزو أسباب جفاف بحيرة الحبانية، إلى أن “وزارة الموارد المائية أوقفت قبل عام ونصف العام الإطلاقات المائية باتجاه البحيرة، ما أدى إلى جفافها وخروج محطات المياه عن الخدمة، رغم أنها ليست للسياحة فقط، وإنما يُعتمد عليها في صيد الأسماك والزراعة، وهو أمر أدى إلى حرمان أكثر من 10 آلاف عائلة في العنكور والمجر من المياه الصالحة للزراعة والشرب”.

بدوره، يشير صميم سلام، إلى أن “السكان يقومون حاليا بحفر الآبار بعد أن كانوا يعتمدون على مياه البحيرة في معيشتهم، كما كان 70 بالمئة منهم يعيشون على الزراعة وصيد الأسماك”.

ويلفت الناشط البيئي لـ”قيام أحد الصيادين في تلك المناطق بارتكاب جريمة قتل بحق جميع أفراد عائلته بسبب البطالة والوضع الاقتصادي المتردي الذي مرّ به، ولكننا لم نستطع التأكد والحصول على المعلومات حول ملابسات الجريمة”.

إلى ذلك، يقول صادق عليوي، الأكاديمي والباحث المتفرغ في مركز تنمية حوض أعالي الفرات بجامعة الأنبار، بأن “المحافظة تعتمد على المياه السطحية، وهي واردات نهر الفرات والبحيرات المرتبطة به وبحيرة الثرثار، وكذلك مياه السيول الموسمية الناتجة من التساقطات المطرية على أحواض الأودية الكثيرة وجريان الأودية الموسمية في الصحراء الغربية؛ وما يتم خزنه في بحيرات السدود القاطعة لهذه الأودية وأمام السدود الاعتراضية وفي الحفريات التي تنشأ على مسارات هذه الأودية”.

ويضيف عليوي، أن “نهر الفرات يعد المصدر الأول للمياه في المحافظة، وعلى ضفافه تقع أغلب مدن الأنبار، ومنه تأخذ احتياجاتها المائية للزراعة والصناعة والبلديات”.

ويعتبر نهر الفرات من الأنهار الدولية، إذ يمر بثلاث دول هي تركيا وسوريا ومن ثم العراق (دولة المصب)، ويدخل النهر الأراضي العراقية عند بلدة حصيبة الغربية الواقعة ضمن قضاء القائم أحد اقضية المحافظة.

ويشير الباحث بجامعة الأنبار، إلى “دراسة سابقة أظهرت زيادة مستمرة في ملوحة مياه نهر الفرات خلال السنوات الأخيرة، نتيجة انخفاض الإيرادات المائية بسبب السدود والمشاريع المائية المشيدة من دول المنبع على النهر، ما يزيد ملوحة المياه الواردة الى العراق”.

وينوه خلال حديثه في التقرير الذي تنشره “العالم الجديد”، إلى “عوامل أخرى تسببت بها دول المنبع، منها تفريغ مياه الصرف الزراعي في النهر دون مراعاة دولة المصب، وما تواجهها من الصعوبات جراء ذلك، يضاف إلى ذلك نوعية المياه من بحيرة الثرثار ومياه البزل داخل الحدود العراقية”.

فيما يؤشر محمد داود موسى، الأستاذ في جامعة الأنبار، تحديات كبيرة تواجه مديرية البيئة في المحافظة، تتطلب جهودا مضاعفة من قبل الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص بغية إيجاد الحلول لها، وذلك بسبب الظروف الخاصة التي تمر بها المحافظة.

ويقول موسى، إن “الأزمة البيئية في الأنبار، لا تقتصر أسبابها على تغير المناخ، وندرة المياه الناتجة عن العوامل الإقليمية والمحلية فحسب، بل بتدهور التربة جراء الاستخدام المفرط للأسمدة والمبيدات الزراعية، والتخلص غير السليم من النفايات الصلبة، ونقص الغطاء النباتي بسبب الرعي الجائر والحرائق والتوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية، وارتفاع درجات الحرارة مما يؤدي إلى زيادة التبخر والجفاف”.

يضاف إلى كل ذلك، بحسب الأكاديمي الأنباري، تصريف المياه العادمة الصناعية والزراعية دون معالجة في الأنهار والجداول وتسرب المواد النفطية من أنابيب النفط القديمة، إضافة إلى عدم كفاية الميزانيات، ما يحد من قدرة المديرية وكوادرها على تنفيذ المشاريع البيئية، كما لا يجب أن ننسى تدمير البنية التحتية بسبب العمليات العسكرية التي تعرضت لها المحافظة”.

وتتضافر جميع هذه العوامل ليس في تدهور الأوضاع البيئية والأمن الغذائي، بل حتى في نشوء صراعات محلية بين السكان من أجل الحصول على المياه وموارد العيش، كما ينوه موسى.

من جهته، يشير مدير شعبة التغيرات المناخية في محافظة الأنبار علي هاشم، إلى أن “محافظة الأنبار تشكل ثلثي مساحة العراق، وتتكون من مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، إلا أن غالبية هذه الأراضي أصبحت متصحرة ومتدهورة”.

ويرجع هاشم، أسباب ذلك، إلى “النقص الحاد في مياه نهر الفرات، فقد نشهد قلة تساقط الأمطار للسنة الخامسة، كما يصاحبها ارتفاع بدرجات الحرارة، فيما تحجب السدود المشيدة على النهر الذي ينبع من الأراضي التركية مرورا بالأراضي السورية ثم العراقية، كميات كبيرة من المياه”.

وعن آثار أزمة المياه والزراعة في الأنبار، على الاستقرار الاجتماعي، يشير إلى “ظهور صراعات ومشكلات كبيرة بين المزارعين في محاولاتهم للحصول على المياه لإرواء مزارعهم، وهذا مؤشر خطير جدا على مستقبل الاستقرار المحلي”.

ويؤكد المسؤول المحلي على أن “المزارع، إذا حاول تجنب الصراعات بسبب شح المياه، فلا يجد سوى ترك أراضيه والهجرة، والبحث عن مصدر دخل آخر لضمان حياته وحياة عائلته”.

وبالعودة إلى بلدة الرحالية، التي يتحدر منها مزارع النخيل هيثم نوري، قامت الحكومة الاتحادية بحفر خمس آبار ارتوازية للري، بهدف إنقاذ البساتين من الجفاف ومن أجل المنفعة العامة كما يصرح مصدر عسكري اشترط عدم الكشف عن هويته، لكن مشروع الآبار أدى إلى نشوء أزمة بين المزارعين الذين تم حفر الآبار بداخل أراضيهم، وقد امتنع أصحاب الأراضي عن مشاركة مياه الآبار مع بقية المزارعين، الأمر الذي ولّد صراعا قويا ومازال مستمرا حتى اليوم، ولم يجدوا له حلا، وتعد الصراعات على الموارد المائية من القضايا الشائكة التي تتطلب تحليلا دقيقا لفهم جذورها وتداعياتها”.

وتعد ناحية الرحالية من النواحي القديمة، التي يعود تاريخها إلى زمن “الخلافة العثمانية” وتعرف بأنواع تمورها الغزيرة، لكن بساتينها تعرضت لإهمال كبير في السنوات الأخيرة، دون مكافحة للآفات والأمراض كما كان يحصل سابقا عن طريق الطائرات الزراعية.

ولا تعد الرحالية، المنطقة الوحيدة التي تشهد صراعات على المياه، بل هناك مناطق أخرى، من قبيل زنكورة في جزيرة الرمادي، حين عاد المزارعون إلى مناطقهم بعد تحريرها من تنظيم داعش، فكانت بساتينهم قد تيبست من العطش، وبسبب التراجع الكبير في الحصص المائية، لم يجدوا سوى وسيلة واحدة لري الأراضي بشكل تشاركي، والتي تعرف محليا بـ”الشاخة”، ما أدى إلى خلافات بين المزارعين، حالت دون نجاح الطريقة الوحيدة لري البساتين.

وعلى الرغم من هذه التحديات، يتحدث مدير شعبة التغيرات المناخية في مديرية البيئة بالأنبار عن “بذل جهود كبيرة لمواجهة الأزمة وسبل مواجهتها عبر الحلول والمبادرات وإشراك المجتمعات المحلية لضمان الاستقرار، وتجنب حدوث هجرة مناخية نحو المدن”.

وتقتضي الحلول، بناءً على التصور الذي يقدمه هاشم، إعادة تأهيل الأراضي المتدهورة، ودعم الجهات الحكومية والمنظمات الدولية في الحصول على الأموال والتكنولوجيا لضمان استدامة القطاع الزراعي وتحسين الأوضاع المعيشية للسكان.

ومن شأن توفير الدعم المالي والتقني في المحافظة التي تعد الزراعة ركيزة اقتصادها واستقرار سكانها، أن يجنب الصراعات المحلية، خاصة وأن المجتمعات المحلية لا تزال تعيش مرحلة ما بعد تنظيم داعش والمجموعات المسلحة الأخرى، كما يقول هاشم.

ويعد ترشيد استهلاك المياه في جميع القطاعات، وتحديد حصص المياه، والانتقال إلى أنظمة الري الحديثة، والتحول إلى الزراعة الذكية لإنتاج محاصيل بأقل كلفة مائية، لتقليل الفاقد من المياه، وصيانة القنوات التقليدية لضمان وصول المياه إلى الأراضي الزراعية بكفاءة، وإعادة تكرير واستخدام المياه المعالجة من المعالجات السائدة اليوم (حيث تساعد التكنولوجيا الحديثة في تطبيقها) من الحلول المقترحة، في ظل أزمة مائية خانقة تستلزم التوصل إلى حلول مستدامة مع دول الجوار واتفاقيات إقليمية ودولية تضمن حقوق العراق المائية، وتوفير دعم أكبر من الدولة لدعم مشاريع التكيف المحلي للحيلولة دون حدوث عجز مائي كبير بين كمية الموارد المائية المتاحة والحاجة الفعلية لها للاستخدامات المختلفة بما في ذلك الزراعة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
, ,
Read our Privacy Policy by clicking here