2024-11-01
كشف مصدر حكومي مطلع، عن ملف فساد مالي يتعلق بجباية أجور استهلاك الطاقة من الفنادق والمولات وغيرها من المجمعات التجارية والترفيهية في العاصمة بغداد، حيث يتم هدر مليارات الدنانير شهرياً عبر “ثغرات إدارية”، مؤكداً أن وزارة الكهرباء اكتشفت خلال الشهر المنصرم أحد تلك الملفات.
المصدر أطلع على وثائق تتعلق بالملف الأخير الذي اكتشفته وزارة الكهرباء، مؤكداً أنه “أنموذج واحد عن ملفات أخرى في الصدد نفسه”، إلا أنه اشترط عدم نشر الوثائق لمحاذير خاص.
“الحيتان والرؤوس الكبيرة”
وفي التفاصيل يقول إن “الفساد المالي في جباية أجور استهلاك الكهرباء كبير جداً والمتورطون بها رؤوس كبيرة وحيتان تسندهم جهات سياسية، إلا أنها تكون عبر سلسلة تبدأ من موظفين صغار، لكن هؤلاء واجهة لمن هو أكبر منهم وفي حال الكشف عن أحد الملفات بطريقة ما يكون هؤلاء كبش فداء لكن بعقوبات إدارية لا تتناسب مع حجم الفساد”، على حد تعبيره.
ويوضح “ملف الفساد الأخير في جباية الأجور وبعد كشفه من أحد أعضاء مجلس النواب، وقع المسؤولون في وزارة الكهرباء بحرج وكان لابد من اتخاذ إجراء للتغطية على الأمر، لذلك صدرت عقوبات بالإعفاء من المنصب والنقل من دائرة إلى أخرى، في حين أنه ملف اختلاس أو على أقل تقدير هدر للمال العام من المفترض أن يُحال إلى هيئة النزاهة للبت فيه”.
ويقدم المصدر الحكومي تمهيداً لكيفية احتساب استهلاك أجور الطاقة الكهربائية وفقاً لما تم إقراره في حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، موضحاً “تم تقسيم أجور الاستهلاك على خمسة أقسام، المنزلي، التجاري، الصناعي، الزراعي، الحكومي، ولكل فئة أجورها المختلفة عن غيرها وأدناها تكلفة المنزلي وهو مقسم لأربع فئات، الفئة الأولى 10 دنانير لكل وحدة (الوحدة هي مقدار قياس استهلاكي)، الفئة الثانية 35 ديناراً (أي إذا كان المنزل يستهلك أكثر من وحدة استهلاكية)، الفئة الثالثة 80 ديناراً (المنزل يستهلك ثلاث وحدات استهلاكية)، الفئة الرابعة 120 ديناراً (المنزل يستهلك أربع وحدات استهلاكية)”.
ويعقب المصدر على ذلك بالقول “واهم من يظن أن أجور استهلاك الكهرباء في العراق منخفضة، بل هي ضمن الأجور المرتفعة إن لم تكن ضمن الأعلى ارتفاعاً في دول المنطقة، فالعائلة التي تشغل ثلاثة أو أربعة أجهزة تبريد في الصيف أجرها لا يقل عن 200 ألف دينار شهرياً، أما في ذروة اشتداد درجات الحرارة، أو عند استخدام أجهزة تدفئة متعددة أو طباخ كهربائي فالأجور تتضاعف، لكن الناس لا يعرفون ذلك، ولذلك الكثير من العوائل تتفاجأ بأجور مرتفعة في المناطق والمجمعات السكنية التي لا تعتمد على المولدات الكهربائية”.
“المعصومون” من أجور الاستهلاك
وبالعودة إلى ملف الفساد الأخير، يبين المصدر “أحداث الملف تدور في الشركة العامة لتوزيع كهرباء بغداد/ فرع توزيع كهرباء الرصافة، حيث أن بعض الفنادق والتي تدخل ضمن قسم الاستهلاك التجاري لم تسدد أجور الكهرباء منذ سنوات، لكن تمت تسوية أجور أحدها بطريقة احتيالية”.
ويتابع “أحد الفنادق الشهيرة في منطقة الكرادة وسط العاصمة بغداد قام بتسديد ما عليه من أجور استهلاك بشكل أصولي، لكن ما حدث وتم اكتشافه لاحقاً أن الأجور التي سددتها إدارة الفندق تم تسجيلها باسم فندق آخر لا يبعد سوى كيلومتراً واحداً عن الفندق المسدد الذي فوجئت إدارته بقائمة استهلاك جديدة جاءتها وفيها ديون سابقة هي كانت قد سددتها أصلاً، لكن تم تسجيلها باسم الفندق الآخر”.
وينبه إلى أن “جميع الفنادق في بغداد ملكيتها مختلطة بين الحكومة والمستثمرين، أي أنها فنادق أهلية وللحكومة حصة محدودة فيها، وأجور استهلاكها للكهرباء مليارية”، على حد وصفه.
ويشير المصدر إلى أنه ضمن الملف أيضاً والوثائق التي اطلعت عليها “أحد المولات وسط بغداد تم تسجيله كحساب مُعطّل أو كما يسطلحون عليه وظيفياً في وزارة الكهرباء (3 تسعات) والتي تعنى أن خطأ فنياً حصل من قبل موظف إدخال البيانات أثناء عملية (التثقيب والترحيل) وهي عملية تسجيل البيانات الخاصة بالوحدة المنزلية أو التجارية أو الصناعية أو الزراعية أو الحكومية بخلاف ما موجود في قاعدة البيانات الأساسية المحفوظة لدى شركة توزيع كهرباء بغداد، وبالتالي يكون هناك تضارب في البيانات ويتوقف تسجيل أجور الاستهلاك لهذا الحساب”.
ويوضح “إصلاح خلل وظيفي أمر في غاية السهولة وخصوصاً إذا كانت قاعدة البيانات متوفرة ومحفوظة لكن المشكلة أن هذا الإصلاح الذي من المفترض أنه لا يستغرق سوى دقائق أو ساعات أو حتى أيام، يطول إلى أشهر وسنوات، وبالتالي فإن صاحب الحساب المُعطّل لا يسدد أي أجور طوال هذه الفترة وحين يتم اكتشافه من قبل مسؤول أو جهة رقابية تقوم الجهة المعنية المتمثلة بشركة بغداد الرصافة أو الكرخ أو وزارة الكهرباء بعمل ما يسمى (تسوية) وتشكيل لجنة أو حتى قيام مدير قسم المبيعات بافتراض رقم تقديري لأجور الاستهلاك التي هي في العادة تكون بمليارات الدنانير لكن تتم التسوية ببضعة ملايين من الدنانير وينتهى الأمر، هذا في حال تم اكتشافه”.
وبعد متاهة الأرقام هذه والطرق الاحتيالية والتلاعب بمقدرات الدولة وإيراداتها المالية والتي تحاول الحكومة الحالية تعظيمها وتنويعها للتخلص من “عبودية النفط”، خصوصاً بعد أن وصلت إلى مراحل خطيرة منذ ما يقارب العشر سنوات بسبب التذبذب الخطير في أسعار النفط بسبب الأزمات العالمية، بحيث أنه بين عام وآخر أو بين حكومة وأخرى تظهر تحذيرات من أن تعجز الدولة العراقية عن تسديد رواتب الموظفين والمتقاعدين والمستفيدين من الرعاية الاجتماعية، بعد ما تقدم يتطلب الأمر أخذ نفس عميق قبل الغوص في تفاصيل أخرى من هذا الملف.
الديون السالبة
ويقول المصدر “هناك ما يسمى الديون السالبة، وهذه ليست فقط تعفي أصحابها من تسديد أجور الاستهلاك بل أنها تعني أن الدولة هي من تسدد بالنيابة عنهم، وتم اكتشاف 414 قائمة كديون سالبة”، وتتحفظ وكالة على ذكر لمن تعود هذه القوائم.
ويشرح المصدر “الدين السالب هو أن أحد المواطنين جاءته قائمة استهلاك بمبلغ 50 ألف دينار فيذهب ويسددها لكن موظف إدخال البيانات يخطئ فيكتب في عملية التثقيب والترحيل 150 ألف دينار بدلاً من 50 ألف دينار، وحين تصل إلى قاعدة البيانات الرئيسية في الشركة يتم تأشير أن هناك 100 ألف دينار زائدة عن الحساب”.
ويردف “بالتالي تكون الدولة مطلوبة لهذا المواطن بهذا المبلغ، فتتم التسوية بأن لا يقوم المواطن بتسديد الأجور إلى حين استيفاء مبلغ الـ100 ألف دينار، في حين أن المواطن لم يدفع هذا المبلغ أساساً ولا الموظف الذي أخطأ استلم مبلغاً زائداً”.
ويوضح المصدر “اللعبة ليست في المواطن العادي صاحب المحل البسيط أو الاستهلاك المنزلي، بل أنها تتعلق بأصحاب الحسابات التجارية والصناعية والزراعية، فهؤلاء أجور استهلاكهم بمليارات الدنانير، فقد يكون أحدهم أجور استهلاكه 10 ملايين دينار فيدفع مليون دينار كأجور، ومليون دينار كرشوة فيخطئ الموظف ويضيف للعشرة ملايين دينار صفراً بالخطأ فيصبح هذا المستهلك قد دفع للوزارة 100 مليون دينار وبالتالي فإن الدولة مديونة له بـ90 مليون دينار”.
الشركة التي “ثقبت” الدولة
يتناول المصدر جانباً آخر من الملف الذي تم اكتشافه مؤخراً ويتعلق بإحدى شركات “الخصخصة” والتي أصبحت الدولة مديونة لها بمستحقات مالية لأربع سنوات من دون أن تقوم هذه الشركة بأي خدمة أو عمل أو حتى صرف ديناراً واحداً سوى مبلغ الرشوة للمسؤول المعني.
ويوضح “مدير قسم المبيعات قام بتوقيع محضر استلام مشترك مع الشركة لتسليم الشبكة الكهربائية والمشتركين في إحدى المحلات السكنية قبل أن يتم استحصال الموافقات الأصولية أو حتى اطلاع فرع شركة توزيع الرصافة على العقد، مما يعني أن الشركة باتت هي المسؤولة عن جباية أجور استهلاك الكهرباء قبل أن تحصل على تخويل رسمي بذلك”.
ويضيف “فرع شركة توزيع الرصافة لم يوقع العقد إلا بعد أربع سنوات من ذلك، وحينها قامت الشركة الأهلية بمطالبة فرع الرصافة بحصتها من أجور الاستهلاك للسنوات الأربع الماضية على الرغم من أنها لم تقدم أية خدمات بل أنها حتى لم تقم بجباية أجور الاستهلاك لكون جباية الأجور كانت تتم من قبل فرع الرصافة كما هو معتاد في هذه المحلة السكنية”.
ويلفت إلى أنه “الشركة ليس فقط لم تقدم أية خدمات بل أن الدولة الآن مديونة للشركة بحصصها المقررة وفقاً للعقد الافتراضي، أي أن الدولة ملزمة بدفع أرباح لهذه الشركة التي لم تصرف أي ديناراً سوى مبلغ الرشوة للمدير المرتشي”.
تجدر الإشارة إلى أن ديوان الرقابة المالية الاتحادية، أصدر في 19 آذار/ مارس 2019 تقريراً كشف فيه عن أن ثلاث شركات تشرف على عملية جباية أجور الكهرباء في جانب الرصافة، بذمتها 49 مليار دينار لصالح وزارة الكهرباء.
وقال الديوان إن “شركة (النور الثاقب) نفذت عقد الخدمة والجباية في 21 محلة موزعة على ثلاث مناطق هي زيونة، وشارع فلسطين، والغدير، وشركة (فضاء الرافدين) نفذت عقد الخدمة والجباية في 42 محلة موزعة على مناطق مركز الرصافة والصليخ والكريعات، بينما شركة (أهل الوصال) نفذت عقد الخدمة والجباية في 15 محلة وتحديداً في منطقتي الأعظمية والقاهرة، وكذلك شركة (نخيل الشرق الأوسط) في 51 محلة موزعة على مناطق الكرادة وبغداد الجديدة وجسر ديالى والزعفرانية”.
وأشار التقرير أن “الشركات المستثمرة لم تلتزم بالحصول على إجازة الاستثمار وفقاً لكتاب الهيئة الوطنية للاستثمار ولم تتضمن العقود المبرمة مع وزارة الكهرباء على الشرط الجزائي في حالة تأخر الشركات الاستثمارية في إصدار إجازة الاستثمار”.
وبين أن “شركة (فضاء الرافدين) حققت إيرادات مالية لشهري تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر 2017، مبلغ قدره 305.5 مليون دينار، علماً أن عقدها المبرم مع وزارة الكهرباء يلزمها بتحقيق 8 مليارات دينار شهرياً”.
ووفقاً للتقرير، فإن “مؤشرات تسديد المواطنين للأموال تراوحت بين 0 – 54% مما يتطلب من مديرية الكهرباء حث الشركات المستثمرة لزيادة مؤشرات التسديد لغرض تحقيق مبالغ مالية تساهم في تعظيم الموارد المالية”.
وأكد التقرير أن “إجمالي الطاقة المباعة إلى شركة (أهل الوصال) بلغ 16.4 مليار دينار، بينما الديون التي بذمة الشركة 6.7 مليار دينار، وأن الديون المترتبة بذمة شركة (نخيل الشرق الأوسط) 36.5 مليار دينار، وشركة (النور الثاقب) مبلغ 5.8 مليار دينار”.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط