التمكين .. بين القصور والتقصير

باسل عباس خضير

التمكين ( Empowerment ) مصطلح ( علمي ) بمحتوى أنساني واقتصادي واجتماعي يهتم بتحرير الفرد من القيود وإطلاق قدراته لتحقيق الرضا عن النفس وجعلها في منفعة المجتمع بالعموم ، والتمكين بمفهومه العام هي حالة ذهنية داخلية تحتاج إلى تبني من قبل الشخص أولا لكي تتوافر له الثقة بالنفس والقناعة بما يمتلك من قدرات معرفية تساعده في اتخاذ القرارات واختيار النتائج التي يريدها للوصول إلى مستويات من الأداء تشعره بان قدم ما عليه ، وتحتاج ثانيا التشجيع والتحفيز لإخراج ما يمتلكه الإنسان من الطاقات لأداء الأعمال بأعلى الدرجات الممكنة وبلوغ حالات المبادرة والإبداع او الابتكار ، ومن فوائده الإحساس بالانتماء وخلق الشعور بالمسؤولية والاستعداد لتحمل نتائج ما يقوم به من سلوك ، وهي عملية ليست تلقائية وتتعلق بالفرد نفسه وإنما تحتاج إلى برامج تتبعها المنظمة ( الوزارة ، الدائرة ، الشركة ، أي مكان او نشاط ) لتهيئة المناخ ( البيئة ) المناسب لكي تنعكس مخرجات ذلك عل تحقيق الذات والمشاركة الفاعلة وتطوير مستوى الأداء وزيادة الرغبة في اكتساب المهارة والمعرفة فضلا عن زيادة التفاعل الإنساني بما يساعد على احتواء الصراع ، ورغم إن التمكين ورد في القران الكريم باعتباره سلوكا ايجابيا (ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ الحج :٤١) ، إلا انه لم يطبق بشكله المطلوب في اغلب البلدان العربية والإسلامية ، ويعود ذلك لأسباب عديدة ربما أبرزها عدم الثقة بالآخرين والسعي لبلوغ المصالح والمنافع المحدودة بدلا من الحكم الرشيد .
وصحيح إن اغلب الحكومات أعطت اهتماما باستيعاب الموارد البشرية من خلال تعيين الآلاف كل عام ( علنا او بالخفاء ) ويكلفون الدولة نسبة مهمة من مجمل تخصيصات الموازنات ، إلا إن حجم الاهتمام بالتمكين لا يوازي حجم الاهتمام بالتعيين رغم إن نفقاته اقل من مدفوعات الرواتب والحوافز و الأجور ، إذ يشكو العديد من الموظفين إنهم يجدون أنفسهم وظفوا لأجل التوظيف وما يترتب على ذلك من مدخولات ، حيث لا يجدون البرامج والتشجيع والتحفيز التي تسند التعبير عن ذاتهم وإخراج ما يملكوه في ذاتهم التي يشعرون أنها قادرة على تغيير الأمور إن استخدمت بالشكل الدقيق ، فالبعض يجد انه لم يوضع في المكان او الموقع الوظيفي الذي يناسب اختصاصه وحتى إن وضعوا فيه فأنهم لا يجدون التمييز الصحيح بين من يمتلك القدرات وبين من يريد انقضاء الشهر واستلام الراتب والتمتع بالامتيازات ، وهذا الشعور يسبب آلام نفسية للبعض ممن لا يجدون الفرصة المناسبة لكي يغيروا طريقة العمل او يضيفوا لها او غيرها من الأمور ، ووراء ذلك عدة أسباب أبرزها شعور بعض المشرفين او المدراء إن التعيين قد تم لغرض إرضاء الفرد ويجب أن يقف سعيه عند هذا الحد ، كما إن من أسبابه قد يكون الفارق بين ما يمتلكه المدير من مؤهلات وما يجب أن يكون عليه من مواصفات ، وتلعب برامج التدريب التي يشاركون بها بعد التعيين دورا مهما حين تكون بعيدة من مواضيع التمكين لان غاياتها هي اجتياز متطلبات الترقية ( الترفيع ) او تبديل العناوين ، وهناك من يرى أنهم يتلقون اقل مما تعلموه خلال الدراسة او الوظيفة ، واغلبها غير مصممة للتطوير كونها تعتمد على طريقة المحاضرة دون غيرها من وسائل التمكين وان المدربين قد تعودوا على نمط محدد وكأنه غير قابل للتغيير .
إن الخاسر الأكبر من قصور التمكين او التقصير فيه هو الوطن لان ثروته الأكبر هي الموارد البشرية ويجب أن تكون هي من تستثمر لتقود مفاصل العمل والحياة لما يجب أن تبلغه من مستويات ، وينبغي أن يعول عليها في استمرار الحياة وتطوير الحال وبلوغ ما يطمح له المجتمع من مستويات ، كما إن الوظيفة العامة تخسر الكثير عندما تؤدى إجراءاتها بذات النمط من الروتين وإضافة قدر محدود او غير مناسب من التحديث ، ولعل من أسباب ذلك أن اغلب قرارات التطوير وإدخال التقانات تأتي من المراجع العليا بصيغة أوامر وقرارات وقلما تنبع كنمو ذاتي من داخل الأقسام والتشكيلات او من الإحساس الذاتي بأهمية وضرورات التبديل ومواكبة ما يحتاجه البلد والشعب وما يشهده العالم من تطوير ، وضعف التمكين ينعكس على العلاقة بين الرئيس والمرؤوسين وبالذات أولئك الذين لديهم رغبات برعاية المبادرات ، وذلك قد ينشا صراع داخلي ينعكس على العاملين أنفسهم عندما تسلب الفرصة من الكفء لتعطى على أسس ومفاضلة خالية من العدالة في التمييز بين هذا وذاك ، وتوطين هكذا أمور يشجع على الشللية والتكتل بما يوفر الظروف الملائمة على التستر وظهور الفساد من شكله البسيط إلى الفساد النظمي الذي يقوم على أساس ( طمطم لي واطمطم لك ) ، وهي النقطة الحرجة التي جعلت الفساد بمستويات ظاهرة أحيانا ويشكو منها المواطن بشكل علني .
إن غياب او ضعف مهمات التمكين كضرورة ( وطنية – وظيفية ) يجب أن تنبع من الهرم التنظيمي بمستوياته لان انعكاسه السلبي يبطل او يقلل من فاعلية القرارات و الاجراءت حتى وان كان مصدرها ( أحيانا ) اعلي السلطات ، فالمهم في التطبيق القبول و التهيئة والاستعداد والرغبة في تنفيذ محتوى وهدف ما يصدر من قرارات ، وتلك مهمة وان كانت ممكنة إلا أن تطبيقها يحتاج إلى الكثير من الجهود تبدأ بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب ، والاستثمار الدقيق للموارد البشرية باعتبارهم قيمة اقتصادية واجتماعية تضيف للمنظمة الكم والنوع وليس لتسيير أمورهم وتضخيم ما يستلموه ، ونقصد بالذات أجهزة الدولة فهي ليست كما يظنها البعض جمعية خيرية توزع الإيرادات دون ناتج ومخرجات ، والوظائف فيها يجب أن تكرس للمجتمع حاضرا ومستقبلا وفي القدرة على التجديد ومواجهة التحديات ومنافسة غيرنا من ( البلدان ) القريب والبعيد ، والتمكين لا يأتي من خلال الحوافز إذا كانت تمنح على حد سواء فمنحها يجب أن يستند على أسس الجهد و الإضافة والاستحقاق وبعيدا عن المجاملات وإملاء الأضابير الشخصية بكتب الشكر والتقدير التي تمنح للمقربين كهبات ، ويتطلب ذلك إشاعة ثقافة التمكين مبكرا من المدارس والجامعات ، والتركيز عل تفعيل دور مراكز التدريب والتأهيل والتطوير من خلال تمكين منتسبيها ليكونوا بمستوى الكفاءة والقدرة والرغبة والمسؤولية في الاضطلاع بهكذا مهام ، مع وجوب إعادة النظر في الدورات والبرامج الحتمية التي ربما تحوي الكثير من التسهيلات ظنا من البعض إن الجدية فيها قطعا للأرزاق ، أنها مهمة وطنية تستحق الاهتمام والأسبقية فيها ليس في الأقوال والأحاديث والشعارات وإنما في التطبيق و الأفعال .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here