ا. د. كاظم خلف العلي
استاذ اللسانيات والترجمة في كلية الآداب- جامعة البصرة
[email protected]
الكفاءة، مثلما تعرفها القواميس، هي بشكل عام، القدرة على القيام بشيء بنحو ناجح أو كفوء. وتمركز الحديث في البدء على الكفاءة اللغوية باللغتين المنقول منها (لغة المصدر- ل م) والمنقول إليها (لغة الهدف- ل هـ) في مبادئ الترجمة المبكرة التي وضعها عدد من اساطين الترجمة مثل دوليه وجابمان وتايتلر ولوثر وعلى الكفاءة اللغوية والكفاءة الثقافية من خلال القول المأثور “على المترجم أن يكون ثنائي اللغة وثنائي الثقافة”، ثم تطور الحديث بعدها إلى الكفاءة الترجمية ليشمل المهارات والتكتيكات والاستراتيجيات الترجمية التي يتبعها المترجمون والواجب على المترجم المبتدئ ان يتعلمها. وبتطور المعارف والعلوم وتفاعلها مع الترجمة صار الكثيرون منا يتحدثون عن كفاءات لا كفاءة واحدة أو اثنتين وخير ما يمثلها المخطط الآتي:
1- الكفاءة اللغوية Linguistic competence: تشمل الكفاءة باللغتين الأصل والهدف المستويات كلها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية. ففي مستوى الصوت، ينبغي على المترجم أن يعرف الأصوات في لغته الأولى (اللغة الأم) والأصوات الموجودة في لغته الثانية (اللغة الأجنبية) وكيفية ترميز وكتابة الأصوات غير الموجودة في اللغتين. على سبيل المثال، اقرت الجمعية الصوتية العالمية (IPA) ترميز حرف الضاد في (كاظم) بالحرفين (dh) والذال في (معاذ) بالحرفين (th) والحاء في حسن بحرف (ḥ) المنقوط في اسفله والصاد في (صادق) بالحرف (ṣ). وعلى مستوى الصرف، ينبغي أن يعرف المترجم جذور الكلمات وأصولها وطرق تكوين الكلمات واشتقاقها (من خلال البوادئ prefixes واللواحقsuffixes )، وأن يلجأ إلى الاستعارة (borrowing) إذا ما صعب عليه إيجاد مكافئ أصيل لكلمات اللغة المصدر وأن يجهد نفسه في محاولات إيجاد المكافئات القحة (راديو- مذياع، تليفون-هاتف، موبايل- نقال/جوال، كومبيوتر- حاسوب). ويجب أن يضمن مستوى النحو معرفة المترجم ببنى لغته الأولى والثانية فلا يفرض بنى اللغة الأصل على بنى اللغة الهدف في عملية الترجمة من نحو ترجمتنا لجملة المبني للمجهول الإنكليزية (The letter was read by Mary) بجملة مبني للمجهول مقحم ( forced passiveكما يسميها الدكتور صفاء خلوصي) قائلين (قرئت الرسالة من قبل ماري) بدلا من (قرأت ماري الرسالة) أو (قرئت الرسالة) لأن عبارة (من قبل + الفاعل) غريبة على اللغة العربية. وعلى المستوى الدلالي، ينبغي على المترجم أن يحيط بمعاني الكلمات وإيحاءاتها مثل (childlike-childish) والفرق بين الإيحاءات الإيجابية والسلبية (pig-headed- strong-willed) وعلى أن معاني الجمل تتكون من الإحاطة بمعاني الكلمات الفردية والوظيفة النحوية لكل كلمة في الجملة. فالجملتان (The policeman caught the thief) و (The thief caught the policeman) تختلفان من ناحية المعنى وإن كانت كلماتهما واحدة. وجدير بالذكر أن الأنسان عموما يكتسب هذه الكفاءة على مرحلتين: لا واعية حين يكون طفلا وصولا إلى الخامسة أو السادسة من عمره حين يدخل المدرسة، ويكون التعلم في المرحلة الأولى غير رسمي وغير واع ورسميا وواعيا عندما يدخل الطفل قاعات المدرسة.
2- على المترجم أن يعي جيدا أن الكفاءة اللغوية تشترط الإجادة للغتين الأولى والثانية، فلو تصورنا أن مترجما كان مجيدا للغة الإنكليزية لكن لغته العربية ضعيفة فإنه مع الأسف سيكون شبيها بسيدة المنزل التي تتعب على طعامها وتعطي من نفسها له لكنها تقدم الطعام بأواني غير نظيفة أو ان طريقة تقديمها للطعام سيئة لا تفتح النفس. وأما ان كانت معرفته للغة الإنكليزية سيئة ومعرفته للعربية ممتازة فإنه سيقوم بنقل جميع اخطاء عدم الفهم (miscomprehension)، لغوية كانت أم ثقافية، ويغلفها بغلاف لغوي متين وجميل وهو ما كان يفعله المنفلوطي ويفعله كثيرون غيره. ربما تمر مثل هذه النواقص على الصحفي أو الناقد الذي يستعرض الترجمة فيكتب عن جمال لغة الترجمة مانحا إياها أعلى درجات التقييم من دون الرجوع إلى النص الأصلي ومقارنة النصين.
2- الكفاءة الثقافيةCultural competence : لا تشتغل اللغة في فراغ. إنها تشتغل ضمن بيئتها المادية والمجتمعية والسياسية والفكرية والثقافية …الخ. وتعبيرا عن الكفاءة الثقافية، يردد اساتذة الترجمة في دروسهم اشتراطا مأثورا يقول (يجب أن يكون المترجم ثنائي اللغة والثقافة The translator must be bilingual and bicultural). بعيدا عن الترجمة، تعني الكفاءة الثقافية قدرة الشخص على التفاعل والعمل وتطوير العلاقات مع افراد من خلفيات ثقافية متعددة على نحو فاعل. ويمكن أن تشمل الكفاءة الثقافية المعتقدات– بمختلف الوانها الشعبية والدينية والاجتماعية والسياسية- والعادات والوان السلوك. إن اكتساب الكفاءة الثقافية عملية طويلة من عمليات الوعي الذاتي ومن تطوير المهارات والسلوكيات الاجتماعية المتعلقة بالتنوع وامتلاك القابلية على تبني العادات والسلوكيات التي تخص الآخرين. ومن بين ما تعنيه الكفاءة الثقافية ادراك التعددية واحترامها قولا وفعلا في جميع السياقات. وأما في الترجمة، فهي تعني انعكاس كل ما تقدم من نواح ثقافية من خلال فهمها واستيعابها والتفاعل معها بحيث تقدم النواحي الثقافية في نص لغة الهدف على نحو محترم.
وبحسب احد المواقع فإنه “لا يمكن المبالغة في أهمية الكفاءة الثقافية في الترجمة. في عالمنا الذي يتسم بالعولمة بشكل متزايد، يجب أن تتدفق الرسائل بسلاسة عبر الحدود لمجموعة متنوعة من الأسباب الحاسمة- سواء كانت للأعمال التجارية الدولية، أو الرعاية الصحية، أو التعليم، أو الأغراض القانونية. وبدون الكفاءة الثقافية، يمكن أن تصبح الترجمة مصدرا لسوء الفهم والصراع، مما قد يؤدي إلى سوء التواصل الذي يمكن أن يؤثر بشكل خطير ويؤدي نتائج خطيرة. على سبيل المثال، قد تؤدي الحملة التسويقية التي تعمل بشكل جيد في إحدى الثقافات إلى الإساءة أو الفشل في إحداث صدى في ثقافة أخرى إذا لم ينظر بعناية في الفروق الثقافية الدقيقة”.
ومثالا على الكفاءة الثقافية، لابد من معرفة المترجم لاختلاف إيحاءات كلمة “البوم” في اللغة الإنكليزية (الحظ والحكمة) عنها في العربية (الشؤم) وضرورة ترجمة التعبير الإنكليزي (paved with gold) إلى التعبير العربي (مفروش بالورد) والتعبير الإنكليزي (He is pig-headed) إلى (أنه عنيد ولا فائدة منه) لأن لا معنى لقولنا (ان له رأس خنزير) والمثال العربي (عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة إلى المثال الإنكليزي (A bird in hand is worth two in the bush) لأن دلالة اختلاف العدد في الثقافتين مهمة. وعلى عكس الأخطاء اللغوية، فإن الأخطاء الثقافية في الترجمة تترك، برأيي، أشد الآثار وأعظمها سوءا على شخصية المترجم بحيث انه يصبح مادة للتندر والسخرية. وإذا كانت الأخطاء في السياقات الطبية أو القانونية عواقب وخيمة على رفاهية الفرد أو حقوقه القانونية، فإن للأخطاء الثقافية في الترجمة آثار مدمرة على اجيال بكاملها حين تتناقل ترجمة كان المترجم فاقدا فيها للكفاءة الثقافية أو غير مبال بالاختلافات الثقافية بين الثقافتين الأصل والهدف.
3- الكفاءة الترجمية Translation competence: بعد أن يتمكن الفرد من المعرفة الجيدة جدا باللغتين الأصل والهدف وبالثقافتين، ينبغي عليه التحرك نحو تمكين نفسه بالكفاءة الترجمية. وأحسن دليل يمكن أن نسوقه على أهمية الكفاءة الترجمية وضرورة توافرها لدى المترجم هو عدم مقدرة أو ضعف قابلية الترجمة لدى الكثير من ثنائيي اللغة مما حدا ببعض الولايات الأمريكية أن تقوم بمنع ابناء المهاجرين من لعب دور المترجم لآبائهم في المستشفيات بسبب الأضرار التي الحقوها بأهليهم، عن غير قصد، بترجماتهم غير الكفوءة. لدينا اليوم اعداد غفيرة من اساتذة اللغات والترجمة ممن لا يترجمون ومن خريجي الترجمة ممن لم نسمع بنجاح سوى فئة قليلة منهم في الترجمة. الترجمة، مثلما يقول المترجم البارع وليم ويفر، شيء نتعلمه وللأسف بالترجمة أو مثلما أقول في دروسي “التدريب ثم التدريب ثم التدريب. التدريب يقلل من دماء الترجمة”. لم يولد المترجمون الكبار مترجمين وهم في أرحام امهاتهم، ولم يتوصل العلم الحديث رغم الأشواط العظيمة التي قطعها إلى انتاج عقار يعلمنا اللغات أو الترجمة. ومثلما يقول الإخوان المسلمون “الإسلام هو الحل” فإن التدريب في الترجمة هو الحل. وعلى هذا الأساس يكون تحصيل الكفاءة الترجمية بممارسة الترجمة يوميا بنحو ثابت ومضطرد. وأقصد بالثبات هو التدريب اليومي والأسبوعي والشهري وان الثبات هو نقيض الانقطاع، والاضطراد يعني اننا يمكن أن نبدأ تدريبنا بنصف ساعة وان نزيد تلك المدة يوميا إلى أن نصل إلى مقدار زمني كاف ومعقول من التدريب اليومي. ومن اجل تعظيم التدريب والممارسة هناك خطوات تعضيدية مهمة أرى أن على المترجم القيام بها وهي:
– قراءة ودراسة النصوص المتوازية، أي قراءة ودراسة الكتب التي ترصف فيها نصوص اللغة الأم مع نصوص اللغة الهدف صفحة بصفحة والاستفادة من تجربة المترجمين الآخرين والتعلم من صحيحها وخطئها.
– قراءة ودراسة النقد الترجمي الذي يكتبه وينشره خبراء الترجمة الماهرين في مقالات صحفية أو في كتب.
– حضور الندوات والحلقات النقاشية والمؤتمرات المتعلقة بالترجمة النظرية البحثية منها والعملية.
– إدامة العلاقات مع أساتذة الترجمة والمترجمين القدامى والصلة بجمعيات المترجمين.
– قراءة ودراسة الحوارات التي يجريها الصحفيون مع المترجمين متحدثين فيها عن تجاربهم وعن شؤون الترجمة وشجونها.
– متابعة مراكز التعليم المستمر في الجامعات والتفاعل معها.
– الاشتراك بالدورات التي تقيمها دور النشر المتخصصة بالترجمة (مثل دار المأمون) أو جمعيات الترجمة (مثل جمعية المترجمين العراقيين).
4- الكفاءة المعرفية والبراغماتية Cognitive competence: تناقش الكفاءة المعرفية قدرة المترجم على فهم النصوص وتحليلها، فالمترجم مثلما ترى المترجمة جيسيكا كوهن (قارئ أولا وقبل كل شيء- A translator is first and foremost a reader) إذ يتوجب عليه قراءة النص مرة ومرتين قراءة عامة كلية general holistic reading ليكون صورة عن المعنى العام ثم يقوم بقراءة جزئية تحليلية partial analytic reading لكل عبارة وجملة في النص. وتشمل الكفاءة المعرفية التفكير النقدي حول المعاني والسياقات المختلفة، وهي صفة تميز القارئ المستنير (informed reader) عن القارئ الساذج (naïve reader). غني عن القول أن القارئ الناقد المستنير قارئ شكاك يشك بالكلمات والمصطلحات ويفكك الجمل وصولا إلى اليقين والحقيقة بعكس القارئ الساذج الذي تمر عليه الكلمات والمعاني من دون تدقيق أو تمحيص. وإذا كانوا في السياسة ينقدون الإمعات بقولهم (لا تكن امعة Don’t be a yesman) فإنني انقد القراء بقولي (لاتكن قارئا إمعة Don’t be a yesreader). تشمل المهارات الأساسية في هذا المجال التفكير التحليلي والذاكرة والفهم، مما يساعد المترجمين على اتخاذ قرارات مستنيرة أثناء عملية الترجمة. يقوم المترجم أولا بقراءة أو قراءات كلية عامة بقصد تحصيل معنى عام أولي عن النص ثم يقوم بقراءة جزئية تحليلية لكل عبارة وجملة بهدف اكمال المعنى العام وسد فجواته. وهاتان القراءتان، العامة الكلية والجزئية التحليلية، هما اللتان تساعدان المترجم في الوصول إلى القرارات السليمة والصائبة بشأن الترجمة.
ويرى بعض الباحثين ان الكفاءة المعرفية التي تشير إلى العمليات والمهارات الذهنية التي تمكن المترجمين من فهم وتحليل ونقل المعنى بنحو فاعل بين لغتين تتشكل من الأجزاء الآتية:
1- البراعة في النقل اللغوي language transfer بما فيه السيطرة الكاملة على المفردات والقواعد والإشارات الثقافية.
2- فهم النص text comprehension ويعني القدرة على الفهم الدقيق لمعنى وسياق وغرض النص الأصلي المنشود.
3- الخلق والإبداع creativity وهو القدرة على إيجاد حلول مبتكرة لإشكاليات الترجمة مثل إيجاد التعبيرات المكافئة أو تكييف النص طبقا لأعراف اللغة الهدف الثقافية.
4- التحليل والتركيب analysis and synthesis ويعني القدرة على تفكيك النصوص المعقدة إلى وحدات اصغر وإعادة تركيبهن من ثم في اللغة الهدف مع ضمان الحفاظ على المعنى والأسلوب.
خلاصة القول هنا هو ان الكفاءة المعرفية تعد من الكفاءات الأساسية في عملية انتاج ترجمات عالية الجودة تتسم بالدقة والطلاقة والتوافق الثقافي. واستحصال الكفاءة المعرفية عملية معقدة تتطور عبر المزج بين التدريب الرسمي والتجربة العملية والتعلم المستمر.
وأما بصدد الكفاءة البراغماتية التي أود تضمينها هنا والتي يعرفها البعض بصورة لا تختلف عن الكفاءة المعرفية ، فهي بالنسبة لي تعني القدرة البدهية على الوصول إلى التضمينات او الفاظ التعريض implictures . وتشكل التضمينات تحديات كبيرة للمترجمين يعجز الكثير منهم في نقلها كما في عجز المترجم في أدناه في نقل التضمينات الاستعارية للنص:
“لا يجوز أن يشعر بي أحد!”
فقالت ضاحكة وكأنها ضمنت امتلاكه للأبد:
“احطك في عيني واكحل عليك” (نجيب محفوظ، زقاق المدق: 105)
“Nobody should feel my presence in here ,he said. She assured him, as if she was certain of possessing him forever, with me you are safe” (Le Gassick’s translation:108)
يقول الباحث عكرمة شهاب في بحثه المنشور بمجلة النجاح 2004 معلقا على المثال اعلاه أن المترجم فشل في نقل استعارتين في النص الأصلي هما استعارة العين-الحب (احطك في عيني) واستعارة السجن (واكحل عليك) وكان الأجدر به ترجمة الجزء المخطوط من النص على النحو الآتي:
You will be locked up in my heart forever.
ويعطينا شهاب مثالا آخر متأت من قولنا (الأسد أسد) أو (الحمار حمار) فيقول أن هناك خياران في نقل مضمون الأعجاب في القول الأول والاستهجان في القول الثاني إذا ما كانت هناك مشتركات بين اللغتين في ناحية التضمينات:
– الأسد أسد / انه شخص شجاع.
– الحمار حمار/ انه شخص غبي.
ولا يفوتني ذكر الدراسة الشيقة التي قامت بها الدكتورة علياء لعدم الحضور البراغماتي لمترجم الرئيس السابق صدام حسين في لقائه مع اثنين من مراسلي السي أن أن حيث قام بانتهاك العديد من مبادئ غرايس وأدى إلى نتائج سلبية هي بعيدة الأثر من منظور اللغويين وأهل الترجمة.
5- الكفاءة البحثية Research competence: هناك معنيان للبحث في الترجمة أولهما أن طالب الترجمة لابد أن يكون باحثا لأن كليات الآداب التي تنتمي إليها أقسام الترجمة هي ليست كالكليات المهنية أو التقنية التي تخرج العمال أو المهندسين المهرة في حقل ما ولذلك فهي تزودهم بالخبرات العملية بدرجات تفوق المعارف النظرية مرات ومرات. كليات الآداب كليات أكاديمية تعطي قدرا متساويا من المعرفة النظرية والخبرة العملية، واقسام الترجمة لا تخرج مترجمين (مهرة) بل باحثين ومترجمين. علاوة على ما تقدم، هناك أدوار عديدة ينبغي على المترجم أن يقوم بها ومنها دور الباحث. وليست عملية البحث بالعملية المضافة حديثا أو بطرا إلى كاهل المترجم، بل هي جزء أصيل من عمله. يبدأ المترجم أولا بالبحث عن نص أو نصوص تتوافق مع ميوله واهتماماته وامكاناته. وتأتي بعد مرحلة البحث النصوص الموافقة للميول والاهتمامات مرحلة البحث عن صاحب النص واسلوبه وخصوصيته وعن معنى النص العام لينطلق المترجم بعدها إلى البحث في معاني الكلمات والمصطلحات. وهنا يتوجب على المترجم أن يعمل بالمبدأ الثالث لجورج جابمان الذي ينص على “تجنب الترجمات السائبة بتأسيس ترجمتك على استقصاء علمي واضح للنسخ والمسارد السابقة”. وهو ما يعني أن على المترجم أن يقرأ في الترجمات المتعلقة بنصه والمتوفرة في الميدان ففي ذلك ما قد يغنيه عن ارهاق نفسه باشتقاق المصطلحات والتعابير المتخصصة بديلا عن المصطلحات والتعابير الراسخة في الميدان، وهذه المهمة شاقة وليست باليسيرة إذ يقول مارتن لوثر “وكثيرا ما حدث أننا بحثنا وسألنا لأربعة عشر يوما- بل ولثلاثة اسابيع أو أربعة- عن كلمة واحدة، وطوال هذا الوقت لم نجدها”. وخير مثال على عملية البحث في الكلمات والتعابير والمصطلحات أن المترجم بدل أن يترجم مصطلحا علميا طبيا مثل foot and mouth disease بـ (مرض القدم والفم) فإنه سينتهي إلى (مرض الحمى القلاعية) إذا ما راجع المصادر ذات العلاقة بأمراض الماشية وحمى الماشية بالخصوص. ويصدق الأمر عينه على بحثه عن المصطلحات العامة فمن خلال البحث سيعرف المترجم أن (It’s raining cats and dogs) تعني (إنها تمطر بغزارة) وليس (إنها تمطر قططا وكلابا)، وأن مكافئ (وزير الخارجية) الأمريكي لا يتطابق مع ما هو مألوف لديه (Minister of Foreign Affairs) بل هو (Secretary of State) والشيء نفسه مع (وزارة الداخلية) البريطانية التي تصبح بعد البحث (Home Ministry) وليس تعبير (Ministry of Interior/Ministry of Internal Affairs) المألوف لدى المترجم. ومن بين الأبحاث الكثيرة التي قمت بها بحثي عن عنوانات روايات نجيب محفوظ كما هي منشورة بالعربية وليست كما كتب بعضها بالإنكليزية عندما كنت اترجم نصا كتب بالإنكليزية عن محفوظ وعن الكثير من المصطلحات التي يتوجب علي شرحها وتبيانها للقارئ واضافتها تحت باب “هوامش المترجم”. وعلى المترجم بعدها أن يبحث عن مجلة أو صحيفة تتولى نشر مقاله أو دراسته أو عن دار نشر تقبل نشر كتابه المترجم. ويجد المترجم نفسه ملزما بالبحث في ملاحظات مراجع الترجمة والتواصل معه للوصول إلى قناعة مشتركة بشأن التعديلات.
لكن متى يتحول المترجم إلى باحث أو يقوم بعملية البحث؟ في الحقيقة انه يقوم بذلك حينما يشك، وفي الحقيقة أيضا أنه يتوجب أن يكون المترجم شكاكا بجزئيات النص الذي يترجمه فالشك يفضي إلى البحث والبحث يفضي إلى اليقين والحقيقة. ومما تجدر الإشارة إليه أن الفيلسوف ديكارت ربط الشك بالوجود فقال عبارته الأثيرة “أنا اشك، إذن أنا موجود”. على المترجم هنا أن لا يسلم بفهمه الجاهز للكلمات والمصطلحات والتعابير.
6- الكفاءة التقنيةTechnical competence : تشتمل الكفاءة التقنية الواجب على المترجم تحصيلها على المعرفة والمهارات الخاصة التي يحتاجها المترجمون من أجل اداء عملهم بنحو ناجح. لقد اعترف بالكفاءة التقنية في نموذج مجموعة PACTE (Process in the Acquisition of Translation Competence and Evaluation عملية اكتساب كفاءة الترجمة وتقييمها) لعام 2005، باعتبارها عنصرا حيويا في كفاءة الترجمة الشاملة. ومن العناصر التي تشتمل عليها الكفاءة التقنية حسب النموذج العناصر الآتية:
1- استخدام أدوات الترجمة Utilization of translation tools : يجب أن يكون المترجمون ماهرين في استخدام الأدوات المختلفة، وخاصة أدوات الترجمة بمساعدة الكمبيوتر (Computer Assisted Tools-CAT). تتضمن هذه الأدوات ميزات مثل ذاكرة الترجمة وقواعد بيانات المصطلحات ووظائف ضمان الجودة. يتيح إتقان هذه التقنيات للمترجمين تعزيز إنتاجيتهم والحفاظ على الاتساقconsistency عبر الترجمات.
2- تنسيق المستندات وتمحيلها Formatting and localizing documents: يعد فهم كيفية تنسيق المستندات وتمحيل المحتوى وفقًا للمتطلبات الثقافية والتقنية للجمهور المستهدف أمرا بالغ الأهمية. يتضمن ذلك تعديل التخطيطات، وضمان استخدام المصطلحات المناسبة، وتكييف أي مراجع ثقافية قد لا تترجم مباشرة.
3- مراقبة وضمان الجودة Quality Control and Assurance : تتضمن الكفاءة التقنية تنفيذ استراتيجيات للتحقق من جودة الترجمات، والتي قد تشمل التدقيق اللغوي والتحرير واستخدام البرامج للتحقق من الاتساق.
واخيرا فقد انتهى الحديث عن الكفاءات بحسب المخطط الذي وضعناه في بداية الموضوع لكن هناك من يتحدث عن كفاءات وعناصر أخرى، فبحسب كيرستن مالماكر يصف روجر تي بيل في كتابه “Translation and Translating: Theory and Practice” 1991كفاءة المترجم بأنها تضم مجموعة ضخمة من العناصر: معرفة اللغة الهدف، معرفة نوع النص، معرفة لغة المصدر، معرفة مجال الموضوع (العالم الحقيقي)، المعرفة التقابلية، ثم مهارات فك التشفير decoding والتشفير encoding والتي تم تلخيصها على أنها كفاءة تواصلية” (تغطي القواعد وعلم اللغة الاجتماعي والخطاب). ويقدم حاتم وميسون في كتابهما “The Translator as Communicator” (1997، 204-206)، بالاستناد إلى باخمان (1990)، كفاءة تقليدية مكونة من ثلاثة أجزاء موروثة من اللغويات هي (معالجة النص المصدر، النقل، معالجة النص الهدف) ثم يسميان مجموعة من المهارات لكل من تلك العناصر الثلاثة. ويضيف هيوسون (1995) شيئا يسمى “العناصر الثقافية والمهنية” (108)، حيث يشير الجزء “المهني” إلى “المكافأة […] الوصول إلى القواميس وبنوك البيانات المناسبة واستخدامها، والوصول إلى المواد المكافئة في اللغة الثانية، المعرفة العملية بمعالجات الكلمات والأمور الطرفية وما إلى ذلك (المرجع نفسه). ويصر مايورال (2001، 109) على عناصر تشمل “الفطرة السليمة (قبل كل شيء)، والفضول، والقدرة على التواصل، والقدرة على النقد الذاتي، والدقة، والقدرة على التركيب، وما إلى ذلك”. ونجد اهتمامًا جديا بضروريات العالم الحقيقي المتمثلة في سرعات الكتابة الجيدة، ومجموعات المناقشة عبر الإنترنت، والعمل مع جهاز كمبيوتر في غرفة بدرجة حرارة مناسبة عند دوغلاس روبنسون في كتابه “Becoming a Translator” (1997).
Read our Privacy Policy by clicking here