لا عزاء إلا بتضخيم الذات!

سمير عادل

تضخيم الذات وتسويق صورة وهمية وخادعة ومبالغة جزء من هوية الخطاب السياسي والدعائي للتيار القومي والإسلامي واليسار الماركسي اللا اجتماعي في منطقتنا. وفي هذه الأوقات بالذات، فلا عزاء لهذا “الجمع المؤمن” الذي أصبح لا حول له ولا قوة غير تضخيم الذات، وفي ظل جرائم دولة إسرائيل الفاشية وقتل أكثر من ٤٠ ألف انسان نصفهم من الأطفال في غزة وتحويل قطاع غزة وجنوب لبنان الى مكان غير قابل للعيش، الى جانب تهجير أكثر من ٢ مليون إنسان في المنطقتين، ناهيك عن عدد الجرحى والذين يتضورون من الجوع ومآسي حرب الإبادة التي تقودها إسرائيل وبدعم الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما.

بعد انتصار دونالد ترامب وحزبه الجمهوري في انتخابات ٥ تشرين الثاني ٢٠٢٤ أي قبل أيام قليلة، تبنى الخطاب المعادي لإسرائيل وأمريكا وبغض النظر عن منابعه الايديولوجية أي ذاك “الجمع المؤمن”، بأن هزيمة بايدن -هاريس وحزبهما الديمقراطي أمام ترامب هو معاقبة لهما. هذا ما قالته حماس وما قاله المسؤولين في الجمهورية الإسلامية في إيران وما يردده المتموضعين في خندقهم، مثلما جاء في مقالين متتالين لرئيس تحرير جريدة “الراي اليوم” الالكترونية السيد عبد الباري عطوان. وكل واحد من أولئك عنون خطابه وحلل باتجاه الرياح التي وجهت شراع نتائج الانتخابات الامريكية.

وأكثر من ذلك يقول لنا السيد عطوان في مقاله الأول المعنون “هذا هو المُنتصر الأكبر والحقيقي في الانتخابات الأمريكيّة وليس ترامب” – مُعاقبة بايدن ووريثته كامالا هاريس، وحزبه الديمقراطيّ الدّاعم لحرب الإبادة، وإسقاطه في هذه الانتخابات، كلّها مُؤشّرات تُؤكّد بقوّةٍ ردّ الاعتبار للناخب العربيّ والإسلاميّ في أمريكا، الذي ظلّ مُهمَلًا ومُحتَقرًا في نظر الحزبين الرئيسيين (الحمار والفيل) ومُرشّحيهما في الانتخابات بشقّيها الرئاسيّ والتشريعيّ-

وفي الحقيقة ان هذا الكلام مخالفا للواقع ومحاولة جديدة لإدامة نفس إكسير نشر الأوهام وتعمية العيون في منطقتنا، وبالنتيجة السعي دائما في تضليل الرأي العام عن مكانة “الجمع المؤمن” الذي رفع شعار تحرير الامة العربية وفلسطين، منذ جمال عبد الناصر، وعندما كان الملقب بالعندليب عبد الحليم حافظ يغني لساعات طويلة بل ولأيام ولا يغادر الاستوديو في القاهرة أيام حرب حزيران ١٩٦٧ وهو ينشد الأغاني الوطنية لشحذ الهمم، وإذا به وبفرقته وكل العاملين معه يتفاجؤون عبر المذياع باجتياح إسرائيل كل سيناء واصبحت عشرات الالاف من الجنود اسرى في قبضة الجيش الإسرائيلي، ويعد عبد الناصر خطاب إعلان الهزيمة- فيلم حليم من بطولة أحمد زكي- انتاج عام ٢٠٠٦.

فخطابات “الجمع المؤمن” الذين يخرجون لنا عبر شاشات الفضائيات ويسطرون لنا المقالات، يتناسون أن من انتصر في الانتخابات هو من اعترف بالجولان السورية ارض إسرائيلية، وهو من تجرأ من دون كل رؤساء الولايات المتحدة الامريكية بنقل السفارة الأمريكية الى القدس، وهو من نظم صفقة القرن ورمى القضية الفلسطينية في غياهب المجهول. اذ يقول لنا عطوان- نشرح أكثر ونقول إنّ صُمود أهلنا في قطاع غزة، وتقديم أكثر من 43 ألف شهيد، واستمرارهم في رفض الاستسلام ودعم المُقاومة، هذا الصّمود هو الذي فرض نفسه على الانتخابات الأمريكيّة، ولعب دورًا كبيرًا في تحديد نتائجها وللمرّة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، تمامًا مِثل حرب فيتنام-. ويضيف لنا في مقاله الثاني – لنبدأ من الآخِر ونقول إنّ حركة المُقاومة الإسلاميّة الفِلسطينيّة “حماس” لعبت دورًا رئيسيًّا في هزيمة إدارة الرئيس جو بايدن ومُرشّحتها كامالا هاريس والحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة الأمريكيّة يوم الثلاثاء الماضي، ولهذا إقدام هذه الإدارة المهزومة على مُحاولةِ الثّأر من الحركة، والرّد على عِقابها لها، وخاصَّةً بتحريضِ الناخبين العرب والمُسلمين والأفارقة على عدم التّصويت للمُرشّحين الدّيمقراطيين، والخطوة الأولى في هذا الرّد، الضّغوط المُتصاعدة على دولة قطر بإغلاق مكتب الحركة في الدوحة، وإبعاد قيادة الخارج الموجودة فيها-.

ومع كل هذا فأن العرب والمسلمين لم يلعبوا الا جزءا هامشيا في الانتخابات الامريكية، الذين هم منقسمين الى تيارات سياسية مختلفة، منهم من ادلى بصوته لترامب لأنه امر بقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني في مطار بغداد عام ٢٠٢١ ، وهو الوحيد أي بتصور ذاك التيار بأن ترامب قادر على وضع الحد للنفوذ الإيراني في المنطقة. وتيار آخر هو محافظ ويميني معادي للإجهاض ومعادي للمثليين، وتيار اخر من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة ينتظرون من ترامب تخفيض الضرائب عليهم اسوة ببقية أصحاب الشركات الكبرى مثل الملياردير إيلون ماسك وغيره.

وماذا عن الولايات السبعة المتأرجحة، ولا يشكل العرب ولا المسلمين الى نسبة صغيرة او معدومة باستثناء ميشيغان الذين لا يتراوح عددهم فيها ٤٠٠ ألف شخص.

لقد انهزم الحزب الديمقراطي في هذه الانتخابات شر هزيمة على مستوى الرئاسة والشيوخ والنواب، وعلى مستوى الولايات المتأرجحة، وفي مقاطعة ميامي التابعة لولاية فلوريدا المعروفة بالغالبية اللاتينية وهي الأولى للحزب الديمقراطي منذ عقود، وهزمت هاريس وحزبها على مستوى المجمع الانتخابي، كما هزمت في المجمع الشعبي، بفارق اكثر من ٥ مليون شخص ، فأين هم العرب والمسلمين في هذه المعادلة السياسية!!

ان من هزم الحزب الديمقراطي ليست جرائم إسرائيل، ولا مواقف أدارة بايدن المتحيزة لحكومة اليمين الإسرائيلي، فالسياسة الخارجية الأمريكية ليس لها أي وقع على الناخب الأمريكي باستثناء اذا ما كان جنود المارينز يرسلون بالتوابيت الى ذويهم في أمريكا عبر المحيطات والبحار، مثلما حدث في احتلال فيتنام واحتلال العراق.

“إنه الاقتصاد يا غبي” وهو شعار حملة بيل كلينتون عام ١٩٩٢ الانتخابية أمام جورج دبليو بوش الاب، واستطاع الانتصار فيها ويصبح كلينتون رئيسا للولايات المتحدة الامريكية. إن ارتفاع مؤشرات التضخم وتكاليف المعيشة وأسعار الوقود والسلع والفائدة لعبت دورا محوريا في الهزيمة النكراء لإدارة بايدن-هاريس والحزب الديمقراطي، وقد أشار جميع استطلاعات الراي دون استثناء منذ تسمية هاريس مرشحا للحزب الديمقراطي للرئاسة بأن ترامب يتفوق على هاريس في القضايا الاقتصادية.

ما نريد ان نقوله يكفي تحميق الجماهير والرأي العام عموما، ويكفي نفخ الذات و تسويق انتصارات وهمية للتعويض عن تراجع “محور المقاومة والممانعة” الذي علق عليه الآمال، مثلما علق الامنيات على عبد الناصر وصدام حسين والقذافي وغيرهم في تحرير فلسطين والبوابة الشرقية، بينما كانت الزنازين والمعتقلات ودواليب التعذيب تعمل ليل نهار في طحن عظام المعارضين الذين قالوا كفى تضليلا باسم الامة العربية وتحرير فلسطين، والمطالبة بالحرية والمساواة والرفاه والكرامة الإنسانية.

إن من ينهي الظلم القومي على الفلسطينيين ويوقف حمامات الدم ويضع الحد لجرائم إسرائيل وداعميها، ليست نتائج الانتخابات الامريكية ولا ترامب ولا بايدن ولا عدو عدوي صديقي، ولا محور المقاومة والممانعة الذي أصبح عاريا أمام الجميع، وهو محور التمدد القومي الإيراني في المنطقة، انما هم القوى التقدمية من الطبقة العاملة والتحررين في صفوف طلبة الجامعات والمثقفين وكل الجماهير التحررية في العالم التي شكلت الجبهة الإنسانية العالمية ضد سياسة دولة إسرائيل الفاشية. إن القضية الفلسطينية أصبحت رغما على انف “الجمع المؤمن” هي جزء من الهوية الإنسانية للبشرية المتمدنة، فلا مجال للمزايدة عليها واحتكارها بانها “قضية العرب والمسلمين” وفرض كل أشكال القمع والاضطهاد تحت عنوانها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here