الدكتور فاضل حسن شريف
عن تفسير الميسر: قوله جل وعلا “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ” ﴿الأنبياء 35﴾ كل نفس ذائقة الموت لا محالة مهما عُمِّرت في الدنيا. وما وجودها في الحياة إلا ابتلاء بالتكاليف أمرًا ونهيًا، وبتقلب الأحوال خيرًا وشرًا، ثم المآل والمرجع بعد ذلك إلى الله وحده للحساب والجزاء. وجاء في تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله جل وعلا “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ” وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ” وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ” (الأنبياء 35) “كل نفس ذائقة الموت” في الدنيا، “ونبلوكم” نختبركم “بالشر والخير” كفقر وغنى وسقم وصحة “فتنة” مفعول له، أي لننظر أتصبرون وتشكرون أم لا “وإلينا ترجعون” فنجازيكم.
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله جل وعلا “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ” ﴿الأنبياء 35﴾ قوله: “أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ” ولم يقل: فهم خالدون والاستفهام للإنكار يفيد نفي قصر القلب كأنه قيل: إن قولهم: نتربص به ريب المنون كلام من يرى لنفسه خلودا أنت مزاحمه فيه فلومت لذهب بالخلود وقبض عليه وعاش عيشة خالدة طيبة ناعمة وليس كذلك بل كل نفس ذائقة الموت، والحياة الدنيا مبنية على الفتنة والامتحان، ولا معنى للفتنة الدائمة والامتحان الخالد بل يجب أن يرجعوا إلى ربهم فيجازيهم على ما امتحنهم وميزهم. قوله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ” ﴿الأنبياء 35﴾ لفظ النفس على ما يعطيه التأمل في موارد استعماله أصل معناه هو معنى ما أضيف إليه فنفس الشيء معناه الشيء ونفس الإنسان معناه هو الإنسان ونفس الحجر معناه هو الحجر فلو قطع عن الإضافة لم يكن له معنى محصل، وعلى هذا المعنى يستعمل للتأكيد اللفظي كقولنا: جاءني زيد نفسه أولإفادة معناه كقولنا: جاءني نفس زيد. وبهذا المعنى يطلق على كل شيء حتى عليه تعالى كما قال: “كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ” (الأنعام 12)، وقال: “ويحذركم الله نفسه” (آل عمران 28)، وقال: “تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ” (المائدة 116). ثم شاع استعمال لفظها في شخص الإنسان خاصة وهوالموجود المركب من روح وبدن فصار ذا معنى في نفسه وإن قطع عن الإضافة قال تعالى: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا” أي من شخص إنساني واحد، وقال: “مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” (المائدة 32)، أي من قتل إنسانا ومن أحيا إنسانا، وقد اجتمع المعنيان في قوله: “كل نفس تجادل عن نفسها” فالنفس الأولى بالمعنى الثاني والثانية بالمعنى الأول. ثم استعملوها في الروح الإنساني لما أن الحياة والعلم والقدرة التي بها قوام الإنسان قائمة بها ومنه قوله تعالى: “أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ” (الأنعام 93). ولم يطرد هذان الإطلاقان أعني الثاني والثالث في غير الإنسان كالنبات وسائر الحيوان إلا بحسب الاصطلاح العلمي فلا يقال للواحد من النبات والحيوان عرفا نفس ولا للمبدإ المدبر لجسمه نفس نعم ربما سميت الدم نفسا لأن للحياة توقفا عليها ومنه النفس السائلة. كذا لا يطلق النفس في اللغة بأحد الإطلاقين الثاني والثالث على الملك والجن وإن كان معتقدهم أن لهما حياة، ولم يرد استعمال النفس فيهما في القرآن أيضا وإن نطقت الآيات بأن للجن تكليفا كالإنسان وموتا وحشرا قال:” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات 56)، وقال في أمم الْقَوْلُ فِي “أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ” (الأحقاف 18)، وقال: “وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ”: (الأنعام 128)، هذا ما يتحصل من معنى النفس بحسب عرف اللغة. وأما الموت فهو فقد الحياة وآثارها من الشعور والإرادة عما من شأنه أن يتصف بها قال تعالى:” وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ:” (البقرة 28)، وقال في الأصنام:” أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ:” (النحل 21)، وأما أنه مفارقة النفس للبدن بانقطاع تعلقها التدبيري كما يعرفه الأبحاث العقلية أوأنه الانتقال من دار إلى دار كما في الحديث النبوي فهومعنى كشف عنه العقل أوالنقل غير ما استقر عليه الاستعمال ومن المعلوم أن الموت بالمعنى الذي ذكر إنما يتصف به الإنسان المركب من الروح والبدن باعتبار بدنه فهو الذي يتصف بفقدان الحياة بعد وجدانه وأما الروح فلم يرد في كلامه تعالى ما ينطق باتصافه بالموت كما لم يرد ذلك في الملك، وأما قوله:” كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ:” (القصص 88)، وقوله:” وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ:” (الزمر68) فسيجيء إن شاء الله أن الهلاك والصعق غير الموت وإن انطبقا عليه أحيانا.
ويستطرد العلامة السيد الطباطبائي في تفسيره للآية الأنبياء 35: فقد تبين مما قدمناه أولا: أن المراد بالنفس في قوله:” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ” الإنسان وهو الاستعمال الثاني من استعمالاتها الثلاث – دون الروح الإنساني إذ لم يعهد نسبة الموت إلى الروح في كلامه تعالى حتى تحمل عليه. وثانيا: أن الآية إنما تعم الإنسان لا غير كالملك والجن وسائر الحيوان وإن كان بعضها مما يتصف بالموت كالجن والحيوان، ومن القرينة على اختصاص الآية بالإنسان قوله قبله: “وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ” وقوله بعده: “ونبلوكم بالشر والخير فتنة” على ما سنوضحه. وقد ذكر جمع منهم أن المراد بالنفس في الآية الروح، وقد عرفت خلافه وأصر كثير منهم على عموم الآية لكل ذي حياة من الإنسان والملك والجن وسائر الحيوانات حتى النبات إن كان لها حياة حقيقة وقد عرفت ما فيه. ومن أعجب ما قيل في تقرير عموم الآية ما ذكره الإمام الرازي في التفسير الكبير، بعد ما قرر أن الآية عامة لكل ذي نفس: أن الآية مخصصة فإن له تعالى نفسا كما قال حكاية عن عيسى عليه السلام:(تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) مع أن الموت مستحيل عليه سبحانه، وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت. ثم قال: والعام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، وذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية أنها لا تموت. انتهى. وفيه أولا: أن النفس بالمعنى الذي تطلق عليه تعالى وعلى كل شيء هي النفس بالاستعمال الأول من الاستعمالات الثلاث التي قدمناها لا تستعمل إلا مضافة كما في الآية التي استشهد بها والتي في الآية مقطوعة عن الإضافة فهي غير مرادة بهذا المعنى في الآية قطعا فتبقى النفس بأحد المعنيين الآخرين وقد عرفت أن المعنى الثالث أيضا غير مراد فيبقى الثاني. وثانيا: أن نفيه الموت عن الجمادات ينافي قوله تعالى:”كنتم أمواتا فأحياكم” وقوله: “أموات غير أحياء” وغير ذلك. وثالثا: أن قوله: إن عموم الآية يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية خطأ فإن هذه مسائل عقلية يرام السلوك إليها من طريق البرهان، والبرهان حجة مفيدة لليقين فإن كانت الحجج التي أقاموها عليها كلها أو بعضها براهين كما ادعوها لم ينعقد من الآية في مقابلها ظهور والظهور حجة ظنية وكيف يتصور اجتماع العلم مع الظن بالخلاف، وإن لم تكن براهين لم تثبت المسائل ولا حاجة معه إلى ظن بالخلاف. ثم إن قوله:”كل نفس ذائقة الموت” كما هو تقرير وتثبيت لمضمون قوله قبلا: “وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ” إلخ، كذلك توطئة وتمهيد لقوله بعد”ونبلوكم بالشر والخير فتنة” أي ونمتحنكم بما تكرهونه من مرض وفقر ونحوه وما تريدونه من صحة وغنى ونحوهما امتحانا كأنه قيل: نحيي كلا منكم حياة محدودة مؤجلة ونمتحنكم فيها بالشر والخير امتحانا ثم إلى ربكم ترجعون فيقضي عليكم ولكم. وفيه إشارة إلى علة تحتم الموت لكل نفس حية، وهي أن حياة كل نفس حياة امتحانية ابتلائية، ومن المعلوم أن الامتحان أمر مقدمي ومن الضروري أن المقدمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد ومن الضروري أن وراء كل مقدمة ذا مقدمة وبعد كل امتحان موقف تتعين فيه نتيجته فلكل نفس حية موت محتوم ثم لها رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء.
جاء في موقع طريق الاسلام عن (18) أنبياء وصحابة دفنوا في بيت المقدس: داود عليه السلام الذي أسس مملكة عظيمة قائمة على التوحيد في بيت المقدس مات فيها ودفن فيها، وورثه سليمان عليه السلام الذي كان موته معجزة كبيرة، لأنه فضح ادعاء الجن علمهم بالغيب،”فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ” (سبأ 14). من المهم هنا التنبيه على أن أعيان قبور الأنبياء لا تثبت ولا تعلم، إلا قبر نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن نفرق بين المكان والبقعة والمدينة التي دفن فيها وعين القبر نفسه، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. زكريا ويحيى عليهما السلام يشتهر أنهما قتلا وتذكر روايات في ذلك، إلا أنه لم يثبت هذا بدليل صحيح، لكن لا شك في وفاتهما في الأرض المقدسة وعلى الغالب دفنا فيها.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط