صباح البغدادي
اليوم، وقبل شروق فجر يوم غد، يتعين على جميع فصائل وأحزاب المعارضة السورية، بمختلف توجهاتها السياسية والعقائدية والأيديولوجية أن تتخلى عن عقلية “المعارض المسلح” وأن تتبنى عقلية رجال بناء الدولة، ويجب أن يتركوا وراءهم هذه العقلية التي ألحقت بالبلاد دمارًا هائلًا، وليس العقلية فقط , ولكن جميع خلافاتهم التي قد تنشأ لسبب أو لأخر لكيفية إدارة الحكم والدولة حاليآ أو بعد أيام أو أسابيع , ولأن هذا ليس وقت الخلافات العقيمة , وإنما وقت إعادة التنمية , وكذلك بناء عقلية المواطن الذي ترسخت فيه عقود طويلة من الظلم والمهانة والاستعباد , وأن يتحولوا إلى كيفية التفكير في بناء دولة المؤسسات والقانون. يجب أن يبدأوا مرحلة جديدة قائمة على القيم الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة. هذا التحول في التفكير والسلوك هو ما سيقود الوطن إلى مرحلة بناء حقيقية، بعيدة عن الخيارات العسكرية و التقسيمية والطائفية والعرقية والمذهبية.
إن مختلف فصائل المعارضة مدعوة إلى اتخاذ خطوات جادة ورصينة لبناء دولة المؤسسات والقانون، التي لا تقوم على تقسيم الغنائم والامتيازات والمناصب والحصص الوظيفية ، بل على العدالة والشراكة بين جميع فئات المجتمع. يجب أن تكون العقليات السياسية أكثر نضجًا وأكثر قدرة على توحيد الجهود نحو بناء دولة مستقلة، حرة، عادلة، ومتسامحة، تقوم على أسس القانون والمساواة، وتضمن حقوق جميع المواطنين دون استثناء وإن اللحظة التاريخية التي يعيشها الشعب السوري اليوم هي لحظة فارقة في تاريخ البلاد والمنطقة بعد سنوات من الصراع الدموي والدمار الشامل، والحرب الأهلية وسنوات الضياع والتشرد ويواجه السوريون خيارًا مصيريًا: إما الاستمرار في فوضى الحرب والانقسام، أو تحويل المعاناة إلى فرصة لبناء دولة جديدة تقوم على أسس المؤسسات والقانون. في هذا السياق، يقع على عاتق المعارضة التي تستعد لاستلام الحكم وزمام المبادرة مسؤولية عظيمة، تتمثل في تحويل عقلية “المعارض المسلح” إلى عقلية “بناء الدولة”. يجب على المعارضة أن تترك وراءها كل نزعة انتقامية أو طائفية، وأن تتبنى منهجًا سياسيًا عقلانيًا يستند إلى مبدأ وحدة الوطن والمواطن ويمكن أن نلخص التحديات لمستقبل فجر سوريا الجديد بالنقاط التالية:.
1) تشكيل النظام السياسي الجديد وإعادة صياغة الدستور:
أحد أكبر التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية في المرحلة القادمة, هو كيفية إعادة تشكيل النظام السياسي بطريقة عادلة وشاملة حيث تقتضي هذه المرحلة المضطربة على إيجاد إطار سياسي يضمن تمثيل جميع شرائح المجتمع السوري ومن خلال معارضة معتدلة، إلى فصائل إسلامية، إلى الأكراد وغيرهم. وسيكون هناك تحدي كبير في إيجاد توافق بين القوى السياسية التي شاركت في الإطاحة بنظام الأسد، بما في ذلك المعارضة المعتدلة والفصائل المسلحة، بالإضافة إلى الأكراد الذين يمثّلهم “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والأخير يجب أن تعي جيدآ أن نغمة الانفصال التي يتم ترديدها من خلال القيادات الكردية ستجر عليهم الخيبات والضربات من قبل الأتراك ولذا يجب أن تعرف هذه القيادات الكردية أن مشروعهم مع ضمان وحدة الأراضي السورية لا من خلال النزعة الانفصالية. إن صياغة دستور جديد سيكون حجر الزاوية في هذه العملية. ويجب أن يتضمن هذا الدستور المبادئ الأساسية مثل: حقوق الإنسان، فصل السلطات، حرية التعبير، استقلال القضاء، والمساواة أمام القانون. من المهم أن يعكس الدستور الجديد التنوع العرقي والديني في سوريا ويشمل جميع المكونات الاجتماعية والطائفية. كما يجب أن يكون قابلاً للتعديل والتطوير وفقًا لمتطلبات المجتمع السوري في المستقبل، وفيما يتعلق بالانتخابات، سيكون من الضروري أن يتم تنظيم انتخابات نزيهة وشفافة، وفقًا للمعايير الدولية، تحت إشراف ومساعدة من المجتمع الدولي وهذا يتطلب ضمانات لعدم تأثير أي جهة خارجية أو داخلية في نتائج الانتخابات، وهو ما يمكن أن يتم من خلال إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ذات الصلة.
2) إعادة بناء المؤسسات والوزارات والهيئات الحكومية:
تحتاج الحكومة المنتخبة إلى مواجهة تحديات ضخمة في إعادة بناء جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية. سيكون من الضروري إرساء أساسات حكم رشيد قائم على الشفافية، العدالة، والمساءلة. أحد التحديات الأساسية في هذه المرحلة هو كيفية تشكيل مؤسسات حكومية مستقلة ونزيهة، وإصلاح قانون “الجهاز المركزي للرقابة المالية” لمكافحة الفساد المالي والإداري الذي كان مستشريًا في المؤسسات السابقة. إعادة هيكلة الأجهزة الحكومية وتأسيس هيئات مستقلة لمكافحة الفساد ستكون أساسية لبناء دولة قانون حقيقية.
3) تأثير القوى الإقليمية والدولية:
سوريا ستكون ميدانًا لتنافس القوى الإقليمية والدولية مثل تركيا، إيران، روسيا، والولايات المتحدة، وهو ما يفرض تحديات إضافية على الحكومة الجديدة. يجب أن تكون الحكومة السورية المنتخبة قادرة على فرض سيادتها على أراضيها، والتفاوض مع القوى الخارجية حول دورها المستقبلي. وكما يجب أن يتم التوصل إلى حلول بشأن الوجود العسكري التركي والأمريكي، وكذلك كيفية أنهاء التعامل مع ما تبقى من التواجد الإيراني والعمل على أنهائه نهائيآ من الأراضي السورية وحتى قطع العلاقات الدبلوماسية لان إيران سوف تضمر الشر للحكومة السورية الوليدة وستعمل بكل الوسائل والسبل على إعاقة أي تقدم لسوريا المستقبل انتقاما منها على ما وصل أليها مشروعها الطائفي إلى نهايته الحتمية.
4) التوازن الطائفي والسياسي:
سوريا هي دولة متعددة الأعراق والطوائف والمذاهب، حيث تتواجد مجتمعات كردية، سنية، شيعية، علوية، ومسيحية. وهذا التنوع يتطلب تشكيل هيئات للحوار بين الطوائف ورجال الدين لتجنب الفتنة الطائفية. سيكون من الضروري إيجاد صيغة توافقية لضمان حقوق الجميع ومنع تفشي النزاعات الطائفية. من خلال تشريعات عادلة وغير منحازة، يمكن ضمان التعايش السلمي بين جميع فئات المجتمع دون تمييز.
5) إعادة بناء البنية التحتية:
الحرب دمرت البنية التحتية في سوريا بشكل غير مسبوق. من المدارس والمستشفيات إلى الطرق والكهرباء والمياه، يتطلب الأمر استثمارات ضخمة من أجل إعادة بناء ما تم تدميره. وستكون هناك حاجة ماسة إلى دعم المجتمع الدولي في هذا المجال. سيكون من الضروري جذب استثمارات أجنبية وإشراك الشركات الدولية في عمليات إعادة الإعمار، مع ضمان استغلال الأموال بطريقة شفافة وغير فاسدة. لكن إعادة الإعمار ليست مقتصرة على البنية التحتية فقط، بل يجب أن تشمل أيضًا إعادة بناء المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية. على الحكومة أن تضع خططًا لتطوير التعليم والرعاية الصحية، وضمان توفير الخدمات الأساسية لجميع المواطنين، سواء كانوا في المناطق الحضرية أو الريفية. وإصلاح قانون “الجهاز المركزي للرقابة المالية” لمكافحة الفساد المالي والإداري الذي كان مستشريًا في المؤسسات السابقة وإعادة هيكلة الأجهزة الحكومية وتأسيس هيئات مستقلة لمكافحة الفساد ستكون أساسية لبناء دولة قانون حقيقية.
6) مكافحة البطالة والفقر:
بعد سنوات من الحرب الأهلية، يعاني السوريون من معدلات بطالة وفقر مرتفعة، وهذا يشكل تحديًا كبيرًا للحكومة القادمة. يتطلب الأمر وضع استراتيجيات لتوفير فرص عمل وتحسين مستوى المعيشة من خلال المشاريع التنموية الكبرى وإعادة إعمار البنية التحتية. سيكون أيضًا من المهم التحكم في الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، التي ستكون أساسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
7) الاستفادة من السوريين في الخارج:
هناك فرصة كبيرة للاستفادة من المهنيين السوريين في الخارج، مثل العلماء والمبدعين والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات وأخصائيين بحوث الذكاء الاصطناعي للمساهمة في إعادة بناء البلاد من التخلف العلمي والتقني الذي أصابها طوال العقود الماضية والعزلة الدولية نتيجة فرض العقوبات الاقتصادية والدولية. يجب أن تعمل الحكومة بالسرعة الممكنة على إنشاء برامج لإعادة استقطاب هذه الكفاءات من خلال تقديم الحوافز المناسبة. لقد دمرت الحرب الأهلية النظام التعليمي بشكل غير مسبوق. فقد توقفت المدارس والجامعات عن العمل، وفقد جيل كامل من الشباب فرص التعليم. ومن أجل إعادة البناء على وفق الأسس العلمية التقنية المدروسة، وأن يتم التركيز بشكل خاص على إصلاح النظام البرامج التعليمي وتطوير المناهج الدراسية بمختلف المراحل الدراسية وإدخال برمجة الذكاء الاصطناعي لتطوير برامج تعليمية متقدمة، بالتعاون مع المؤسسات الدولية ذات الصلة، لاستعادة مستوى التعليم المتقدم في جميع المستويات والمراحل الدراسية وإعادة هيكلية المعاهد والجامعات والكليات وبما يتناسب والتطور البحث العلمي والتقني.
8) استعادة الأموال المنهوبة:
من الضروري أن تبدأ الحكومة المنتخبة في إنشاء هيئة قانونية مستقلة لإعادة الأموال المنهوبة من المسؤولين السابقين، وتجميد جميع الأرصدة والممتلكات المنقولة وغير المنقولة سواء في الداخل أو الخارج وخاصة الأموال تلك التي تم تهريبها إلى الخارج وأن يتم التعاون مع المجتمع الدولي في هذا المجال لإصدار قوانين تساعد في استعادة هذه الأموال واستخدامها في مشاريع إعادة الإعمار والتنمية.
9) تعامل الحكومة الانتقالية مع قضايا الإرهاب والفصائل المسلحة:
سيكون متعدد الجوانب ويشمل الأمن والعسكرية والمصالحة السياسية ولكن وبالنظر إلى تعقيدات الوضع حاليآ وعدم وضوح الرؤية من المحتمل أن يتطلب الأمر مزيجًا من الحلول العسكرية والإنسانية والسياسية لضمان استقرار البلاد واحتواء التهديدات الإرهابية المحتملة والتي قد تنتج من تنظيم “داعش” أو حتى من بعض الفصائل المسلحة التي تريد أن تنشق عن عصا طاعة الوحدة الوطنية والتعامل بما في ذلك عمليات نزع السلاح الفصائل وتسليمها للجيش والقوى الأمنية وحسب الاختصاص ومن خلال المصالحة الوطنية، والدمج في القوات المسلحة، ولكن قد يكون التحدي الأكبر من خلال كيفية ضمان استقرار الأمن في البلاد وتفكيك الفصائل المسلحة التي تسعى بعضها لضمان مكانتها في المشهد السياسي.
10) الحكومة الإيرانية ومن خلفهم المتشددين من رجال الدين والمتطرفين من قيادات الحرس الثوري الإيراني وبمساندة من بعض أحزاب وفصائل الحشد الشعبي لن يغفروا أبدآ للسوريين أنهاء حلم إمبراطورية ” الهلال الشيعي” والوصل الى سواحل البحر الأبيض المتوسط وبعد أن تم صرف مئات المليارات من الدولارات على هذا الحلم الذي أزيل بين ليلة وضحاها , لذا فسيكون هناك لدى هؤلاء المتطرفين عدة سيناريوات إرهابية للعمل على زعزعة استقرار سوريا الجديدة ومن أهمها إعادة إحياء التنظيمات المتطرفة الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش والعمل بكل جهدهم على إطلاق سراحهم من السجون العراقية أو حتى العمل على تهريبهم كما حدث في الماضي مع مقاتلين وقيادات تنظيم القاعدة عندما تم تهريبهم من خلال مساندة الحرس الثوري ودعمهم لوجستيا في عملية سميت في حينها ” هدم الأسوار” في كل من سجن أبو غريب وسجن الحوت في التاجي … لذا لا نستبعد أن يتم تزويد هؤلاء القيادات والمقاتلين بكافة الأسلحة والعتاد وحتى تزويدهم بالطيران المسير الموجه وتدريبهم من جديد من خلال إنشاء معسكرات في الصحراء الغربية العراقية والبادية السورية وبالقرب من الحدود المشتركة بين الأردن وسوريا والعراق والعمل على إعادة تثقيفهم من خلال إقناعهم لأخذ حصتهم من كعكة الحكم والامتيازات والمناصب وإلا بالتفجيرات الإرهابية من خلال السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة البشرية سيكون صداها واسع في العاصمة دمشق وفي الأسواق المكتظة بالباعة والمتسوقين وتشمل بقية المحافظات والمدن السورية أو حتى القيام بتفجيرات مفتعلة من خلال استهداف مرقد السيدة زينب (ع) وكما حدث بالضبط من استهداف مرقد الأمام العسكري (ع) في سامراء وكانت الشرارة لبدأ الحرب الأهلية العراقية وكذلك لغرض إرسال رسالة خارجية إلى المجتمع الدولي لتأليبهم على الحكومة السورية الجديدة , مفادها بأن الأقليات والطوائف من المذاهب الأخرى يتعرضون إلى الاضطهاد والقتل والتفجيرات مما ينعكس سلبا على الوضع السوري الجديد … لذا على جميع قيادات السياسية والأمنية والعسكرية أتخاذ الإجراءات اللازمة والكفيلة لمنع حدوث مثل تلك التفجيرات والعمل على وأدها في مهدها و مطاردة وتعقب جميع الفصائل والتنظيمات الإرهابية التي سوف تنشأ أو يتم إنشاؤها حاليآ لغرض زعزعة الوضع السياسي الداخلي السوري.
وأخيرآ وليس آخرآ نحو سوريا ديمقراطية لمستقبل أفضل:
إعادة الأعمار والبناء والتنمية ليست مهمة سهلة، ولكنها في نفس الوقت ليست مستحيلة أيضًا. من خلال العمل الجاد والمتناغم بين جميع القوى الوطنية، ودعم المجتمع الدولي، ومنظمات الأمم المتحدة، يمكن تحقيق بناء دولة قانون قوية تستوعب جميع فئات الشعب وتضمن حقوقهم وحرياتهم. إذا كانت سوريا قادرة على تطبيق العدالة الاجتماعية، وضمان حقوق الإنسان، وتقديم الحلول السياسية التي تضع مصلحة الجميع فوق أي مصلحة أخرى، فإنها ستتمكن من تجاوز الصعوبات وتحقيق الاستقرار على المدى القصير والطويل، وان إعادة البناء ليست مجرد عملية تكتسب من الناحية التقنية فحسب، بل هي أيضًا تحدي سياسي واجتماعي واقتصادي يتطلب إجماعًا وطنيًا واسعًا ويتم ذلك فقط من خلال الوحدة والعدالة الاجتماعية بين مختلف أطياف وأعراق ومذاهب وتوجهات المجتمع.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط