مسرح المقامات.. الجاحظ – الحريري – الواسطي

[مسرح المقامات.. الجاحظ – الحريري- الواسطي.]

شاكر حمد

– هذا هو عنوان كتابي الجديد في معرض العراق الدولي للكتاب الذي تُقيمه مؤسسة المدى للفترة من 4- 14 من هذا الشهر كانون الأول – 2024-

عن دار سطور للنشر والتوزيع في بغداد , صدر كتابي بالعنوان أعلاه [ مسرح المقامات.. الجاحظ – الحريري- الواسطي] جزآن في مُجلَّد واحد وطبعة أنيقة, وبواقع (495) صفحة, بضمنها ( 141)* صورة ملوَّنة من منمنمات الفنان العراقي يحيى الواسطي التي رسمها لمقامات الحريري. *[الأصل أن مجموع لوحات الواسطي (96) لوحة لكن ضرورة البحث إقتضت تكرار نشر عدد منها]

يتكون الجزء الأول من تمهيد و ثلاثة فصول:- يُعرِّف التمهيد بمؤلف المقامات وعناوين المقامات وتسلسلها كما وردت بترقيم الحريري وخط الواسطي, وبالأسماء والتعاريف الممهدة للبحث. إضافةً إلى التعريف بخطة المؤلف ومنهج البحث حيث (يعتمد البحث على تحليل نصوص المقامات ويتنقَّل في عناصرها المسرحية, من الشخصيات إلى الأدوار فالأزياء فالخطاب والتمثيل وغيرها. وفي مُعظم المقامات ينحصر السرد والوصف للجزئيات في مطالع المقامات وإفتتاحياتها, أو كشف الأسرار في خواتيمها وكشف الشخصية المحورية فيها, شخصية أبي زيد السروجي ومن معه من الشخصيات المُساعدة, وكل مقطع من النص يحتمل أكثر من دلالة وإشارة؛ فهو يصف الحالة الجسمانية والنفسية والإجتماعية للشخصية… وفي نفس المقطع وصف لحركات الشخص – الممثل.) وتسري هذه التحليلات على الشخصية الثانية, شخصية الحارث بن همَّام. يُشير المهاد أيضاً إلى مصادر البحث ومراجعه وشروح المقامات ويعتمد إثنين منها: شرح أبي العبَّاس القيسي الشريشي وشرح عيسى سابا, بشكل عام إضافة إلى شروح أُخرى.

ومن بين مصادر البحث نذكر:

– مقامات الحريري.

– (مقامات الهمذاني) شرح وتعليق محمد عبدة

– نوادرأبي علي القالي في كتابه (الأمالي).

– مقامات إبن دريد كما وردت في (الأمالي).

– (الواسطي رساماً وخطاطاً ومُزخرفاً) للدكتور عيسى سلمان.. بحث في منمنمات الواسطي.

– كتب الجاحظ (البيان والتبيين, البخلاء, الحيوان, رسائل الجاحظ وغيرها..) مع مُلحق عن الشخصيات التي بنى عليها الجاحظ كتاب البخلاء للباحث وشارح الكتاب طه الحاجري.

– (الرسالة البغدادية) لأبي حيان التوحيدي والمسماة (حكاية أبي القاسم البغدادي) شرح وتحقيق عبود الشالجي.

– إضافة إلى مراجع أخرى لاتقل أهميَّةً عمّا ورد يُلاقيها القارئ في فصول الكتاب.

يأتي الفصل الأول بعنوان ( مدخل وإضاءات)؛ يتناول هذا الفصل آراء نُقّاد المسرح العالمي حول مكانة المقامات؛ بوصفها مسارح عربية من طراز خاص أنتجته البيئة الثقافية العربية منذ عصور ما قبل الإسلام وصولاً إلى القرن الرابع الهجري. يقول الحريري في مقدمة مقاماته “.. وبعد فإنه جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحُهُ وخبت مصابيحه ذكر المقامات التي إبتدعها بديع الزمان وعلاَّمة همذان, رحمه الله تعالى, وعزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها, وإلى عيسى بن هشام روايتها, وكلاهما مجهولٌ لايُعرف, ونكرةٌ لا تُتعرَّف, فأشار من إشارته حُكم وطاعته غُنُم, إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلوَ البديع, وإن لم يُدرك الضالع شأو الضليع..”. يقول أبو العبَّاس القيسي الشريشي في مقدمته لكتابه شرح مقامات الحريري ( لم يبلغ كتاب من كتب الأدب مابلغته هذه المقامات – التي أبدع إنشاءها الأُستاذ الرئيس أبو محمد القاسم بن علي الحريري – من نباهة الذكر وبُعد الصيت, وإستطارة الشهرة, فإنه لم تكد تصدر منا النسخة الأولى في بغداد حتى أقبل الورَّاقون على كتابتها, والعلماء على قراءتها عليه من شتّى الجهات؛ ذكروا أن الحريري وقَّع بخطهِ في شهور سنة أربع عشرة وخمسمائة على سبعمائة نسخة… وكان ذلك قبل وفاته بسنتين… في هذا التأريخ سنة 514هجرية/1120ميلادية قرأ المُسمى جابر بن هبة الله المقامات بحضوره, وإرتكب تصحيفاً, راق هذا التصحيف للحريري كثيراً, غير أنه لم يكن بإمكانه الإحتفاظ به, لأنه كما قال, كتبَ خطَّه إلى هذا اليوم على سبعمائة إجازة.) – الشريشي وعبد الفتّاح كليطو- المقامات-

تقول جميع المصادر أن شكل المقامة تنامى وتطوَّر في البيئة العربية منذ العصور القديمة, لذلك دار بحثُنا أولاً في الجذور الإجتماعية التي نمت فيها التقاليد المسرحية عند العراقيين القدماء, في العروض الشعبية والطقوس الوثنية والأعياد وما يُرافقها من فعّاليات مسرحية كالأزياء والتمثيل والأصباغ وحفظ النصوص. ويُشير هذا الفصل إلى إنتقال المقامات إلى الأعمال التلفازية المُعاصرة. عام 1972قدم التلفزيون السعودي دراما عربية من مقامات الحريري, بطولة مروان حداد وعبد المجيد مجذوب وزكريا المصري وصبحي عيط (المصدر: محمود شاهين – موقع ثقافات – عن البيان الأماراتية). عام 1975قدَّم الفنان المسرحي العراقي قاسم محمد (1936-2009) مسرحيةً عن قصص ومضمون مقامات الحريري بعنوان ( طال حزني وسروري بين مقامات الحريري.) – المصدر نفسه. يُغطي الفصل الأول أنماط المسارح الشعبية المعروفة في البلدان العربية وأسماءها وتقاليدها وجمهورها في كل بلد عربي, مع سعينا إلى مقاربة تلك المسارح الفطريَّة مع مسارح المقامات. في جانب من هذا الفصل يتعرَّف القارئ على رسام المقامات يحيى الواسطي وأهميَّة تصاويرة لهذه المخطوط بوصفها شروحاً توضيحيَّة للفعّاليات المسرحية ومُلحقاتها, مع الإشارة إلى الصورة والتعليق المُرفق بها. ولا يفوتنا أن نستطرد في الحديث عن خصائص فن الواسطي ومميزاته التي ينفرد بها عن غيرها من الرسوم التلفيقية التي تُحشر مع المقامات, وقد تمَّ تأشير تلك الحالات.

وضع الحريري, في مقدمتهِ لمقاماتهِ, ما يمكن إعتباره منهجاً في التأليف؛ فالإعتراف أولاً بمنهج الهمذاني, وثانياً في خطتهِ الخاصَّة في بناء المقامة على فكرة أوليَّة؛ بيت من الشعر أو بيتين كما يقول ” أسستُ عليهما” آو التضمين ” وآخرين توأمين ضمَّنتهما خواتيم المقامة..” وهذه الأبيات الأربعة إستعارها الحريري لبناء مقامتين. أمَّا باقي المقامات تزدهر لاقصائد الطوال وكل ما فيها من الشعر يعود للحريري. هناك مبدأ التأليف الذي ساد في القرن الرابع الهجري ومرجعيته الجاحظ؛ وهو سرد النوادر بصيغة ” المُضحك المُبكي ” أي الكوميديا السوداء. في القرنين الثالث والرابع الهجريين تبلورت أشكال حكائية وسرديات بعناصر جديدة, أنضجتها التقاليد المدينية في ظروف إجتماعية وإقتصادية شديدة التناقضات. أصبحت أدبيات الرسائل لاتستوعب تلك التطوُّرات؛ ليظهر شكل جديد يقوم على التشخيص وتجسيد شخصية راوي الحكاية وإعادة نسجها بالشخصية المسرحية وستتوالى التجارب الشعبية في الميادين العامَّة, وصولاً إلى فن خيال الظل.

يقول الدكتور علي الراعي ( إن فن خيال الظل من إبتكار وصناعة إبن دانيال وبعدها بدايات العروض المسرحية الشعبية..( أقول هذا وفي ذهني أمران؛ أولهما أن المسرح العربي كان قد شهد قبل إبن دانيال مُحاولات للإنولاد وذلك في بعض مقامات بديع الزمان الهمذاني والحريري. وسواءاً إعتبرنا هذه المحاولات قد إنتهت إلى الإجهاض, كما يذهب بعض الباحثين, أو أن الدراما التي نشأت عنها هي نصف دراما ونصف المقامة, قد كانت مسرحاً فعلاً, لم يمنعه من النمو والإزدهار, إلاَّ أن مبدأ التشخيص عن طريق البشر كان محظوراً من أصله… فالواقع الذي لاشك فيه هو أن إبن دانيال قد أخذ ماتكوَّن في حضن المقامة من دراما..) – علي الراعي: المسرح في الوطن العربي.-

نُقارب, هنا, بين مسارح المقامات والمسارح الشعبية كمسرح الشارع ومسرح المقهى ومسرح المقهورين ومسرح القسوة ومسرح بريشت ومسرح ستانسلافسكي, ومسرح العبث والمسرح السريالي ومسرح الصورة (تجربة الفنان صلاح القصب),

والمسارح الأكثر تطرُّفاً في العروض كمشاركة الجمهور وإلغاء الديكور والشخصيات والأزياء والأقنعة وغيرها.[ أصبحت هذه العناصر من الأنظمة البائدة منذ زمنٍ بعيد.]. وهنا نزعم أن الهمذاني والحريري, سبقا هذه المسارح العالمية لا بتوظيف كافة العناصر الحركية والمرئية والتعبيرية التي إشتغلت عليها المسارح التي ذكرناها, بل في تأسيس نوع مسرحي يستمد أشكاله من البيئة العربية ومناخها وحكاياتها وخرافاتها وصراعاتها الإجتماعية وفنونها الأدبية والتشكيلية والشعرية. ولأول مرَّة يظهر المستمع والقارئ والمروي له ظهوراً شخصياً, ديالكتيكياً, في سرديات الجاحظ ومن تلاه من كُتّاب الرسائل والنوادر, وصولاً إلى مقامات إبن دريد والهمذاني والحريري وأبي حيَّان التوحيدي.

ومن شواهد هذا الرأي أن العديد من المؤلفين والمُخرجيين المسرحيين, راحوا يبحثون في التأريخ الشرقي, وتحديداً العربي والإسلامي, لإنتاج أنواع جديدة مُتوافقة مع روح العصر. ومن هذا المنطلق نرى أن إعادة تمثيل المقامات ممكناً في المسارح السريالية على سبيل المثال. سيجد القارئ رحلة لاتخلو من عثرات ومتاعب, في هذا البحث, وأزعم أن رحلتي كانت قريبة الشبه برحلة الحارث بن همَّام راوي المقامات.

يرى الباحثون في أُصول المسرح العربي أن ( في المُساجلات الشعريّة [ وهو تقليد في المسابقات الشعريَّة قبل الأسلام وبعده] نوعاً من أنواع المسرح. وذكروا القصاص والحكواتي الذي كان يجلس وحوله مستمعون…يحكي حكاية الأشخاص جميعاً في الرواية أو الملحمة, ويُحاول أن يُبدِّل في ملامحه كثيراً لكي تتوافق مع الشخصية التي يتقمصها.) – غسان غنيم – بتصرُّف.

وترى الباحثة السوفيتية تمارا بوتستيفا في كتابها (ألف عام على المسرح العربي ) (أن الحكواتي ظاهرة حكائية معروفة في جميع البلدان العربية بتسميات مُختلفة..). يتناول بحثنا هذا النمط من الشخصيات الشعبية وإمتداد تقاليده إلى المقامات, ليشمل التقاليد المسرحية, الإحتفالية, في القرون الوسطى وما قبلها, وأوضحها تقاليد العروض البابلية كإحتفالات عيد (الأكيتو) وهي عبارة عن طقوس جماهيرية مسرحية تستمر لإثني عشر يوماً, وتُستخدم فها الأزياء والمكياج والأقنعة والقدرات الخطابية والشعرية للممثلين. وردت هذه الفعَّاليات في (أُسطورة الخلق البابلي وقد جاءت فيما يربو على ألف بيت في سبعة ألواح – ترجمها العلاَّمة الآثاري طه باقر إلى جانب ترجمة أُخرى.) – مقال: الحكيم البابلي – الحوار المُتمدن.

– الفصل الثاني بعنوان ( أصل المقامات.. جذور المسرح العربي.. من الجاحظ إلى الحريري)؛ غطَّى البحث في هذا الفصل مسارات الخطاب المسرحي عند الجاحظ في كتبه ورسائله وتطرَّق إلى الأنماط السردية التي تلتها؛ ومنها نوادر أبي علي القالي صاحب (الأمالي) ومقامات إبن دريد وما يُعتقد بأسبقيتها على مقامات الهمذاني والحريري. ويُسهب البحث في ذكر مرويات الجاحظ ورسائله حول الشخصيات المسرحية النمطية ذات التقاليد الشعبية والعادات والحيَّل التي تتطلب أفعالاً تمثيلية ومنها ( حيَّل المُكدين) وحيَّل اللصوص والشطَّار والعيّارين وأصنافهم وأسماء هذه الجماعات وأساليبها, إضافةً إلى ذلك يتطرق الفصل إلى الحكايات العربية ونسيجها الخرافي وإتِّصالها بما سيظهر بصيغة السرد الميتافيزيقي العربي. يتطرق البحث إلى الجلسات الليلية وجمهور المجالس وتلك المجموعات المُثقَّفة التي تجتمع في مسجد البصرة, الذين أطلق عليهم الجاحظ إسم (المسجديين) ومُحاوراتهم الفكرية وموضوعاتهم التي تتناول مُختلف الموضوعات ولا تخلو من الفكاهة والنادرة, مع ذكر أسماء الأعلام الرائدة في هذه المجالس كالحسن البصري ومُعاصرية وتلامذته. وتنعكس هذه الجلسات على مُحاججات المقامات عند الهمذاني وإنتقالها إلى الحريري. يتضمن هذا الفصل مُقاربات بين الحريري والهمذاني وأبي حيان التوحيدي في مقامته الطويلة المسماة (الرسالة البغدادية). ويشمل البحث مباني المقامات وهياكلها وموضوعاتها والخصائص المشتركة التي أنتجتها السردية العربية في فترة إزدهار التدوين ورسوخ الحكي العربي ليصبح في مُتناول طبقات القرَّاء وتباين مستوياتهم الثقافية والإجتماعية.

تناول البحث شخصيات الجاحظ التي بنى عليها كتابه (البخلاء) من أمثال سهل إبن هارون ورسالته في تعظيم البخل, وتليها رسالة إبن التوأم التي ردَّ فيها على حجج بن هارون بقوَّة, وفي التعارض موقفان مُقنعان ومتوازنان بالمنطق العقلي وبالأمثال. ومن قراءة المقامات نكتشف تسرُّب تلك المواقف وحواراتها الجدلية إلى موضوعات المقامات مع التشكيلات المسرحية للأبنية والشخصيات وما يتطلبه التركيب المسرحي من أزياء ومكياج وتلميحات واضحة عن الديكورات للدلالة عن المكان والزمان وطبيعة الحدث في المقامة.

على غرار مجالس الأدب عرفت الثقافة الشعبية مجالس اللهو والطرب والغناء بمصاحبة الآلات الموسيقية كالطبل والعود وغيرها. ولتلك الأهواء الشعبية جذور تمتد إلى عصور ما قبل الإسلام. ( كان العربي يجد متعةً في الغناء إذا كان من أثرياء القوم وسادتهم حيث يستمع لقينتهِ أو قيانهِ, أو حين يؤم أحد هذه الحوانيت الكثيرة المُنبثَّة في المُدن والقرى, بل في البادية نفسها حيث كانت تُعد مجالس الغناء وأنواعه إعداداً, فتُقدم الخمرة وتُنشر الأزهار والورود وتُغرِّد القيان.)- ناصر الدين الأسد- عن مصطفى بيطام: الغناء وأنواعه عند العرب قبل الإسلام- بتصرُّف – إن التطرُّق لهذه التقاليد وجذورها يُفسِّر لنا المناخ الإجتماعي الذي نشأت فيه التقاليد المسرحية؛ إذ لابد أن أن تكون هناك فعّاليات خطابية وأشخاص يُقدِّمون العروض, وممثلين وممثلات وفعّاليات رقص إلى جانب الغناء. يخوض البحث في تلك الأهواء والعادات والتقاليد وأماكن إنتشارها ويستند إلى المصادر الموثوقة ومن بينها رسائل الجاحظ (رسالة القيان, ورسالة التربيع والتدوير) تطرقنا هنا إلى خصائص أُسلوب الجاحظ في النقد والتعرية والتهكّم؛ فهو أقرب إلى التصوير الساخر, الكوميدي, وأحياناً يتطرَّف الجاحظ في الكوميديا إلى حد الكوميديا السوداء وقد أشار هو إلى ذلك في مقدمة كتابه الحيوان وفي مقدمة البخلاء. وهكذا نرى إن إنشاء المقامات (في شكلها الفني) بدأ من تلك التقاليد. فالشكل الفني ظاهرة فوقية تطوَّرت مع تطوّر العلاقات الإجتماعية والإقتصادية والثقافية في المجتمع العربي, قبل الإسلام وما بعده, ليتبلوَّر شكلها الفني في القرن الثالث الهجري بصيغة الرسائل بمواكبة تقاليد مسرحية صغيرة؛ تمثيل وسكر وعربدة ورقص في بيوت الوزراء كبيت الوزير المهلبي مثالاً, أو مسارح صغيرة مكشوفة لجمهور محدود العدد. وأخيراً مسارح إفتراضية (مسارح المقامات) في القرن الرابع الهجري.

نزعم أن الجاحظ يشتغل بأداتين من أدوات التوصيل والتعبير في كتابه (البخلاء):

– السرد؛ التحليل الديالكتيكي للأفكار الفلسفية والتأريخية والإجتماعية.

– الوصف؛ التصويري المجهري للوجوه والأيدي وقراءة الأحوال النفسية للشخصيات.

ظهر في عصر الجاحظ تدوين (المُضحك) والنوادر والقصص الخرافية الشائعة عند العرب إضافةً إلى أشعار المجون وحتى السُخف والإنحطاط. نضيف أمر آخر أن الصوَّر التي أرفقناها بين الصفحات تَوَخينا فيها الدلالة المسرحية؛ فهي تُعبِّر عن مشاهد مسرحية [سلسلة رسوم للحدث الواح] إنتقاها الواسطي, رسّام المقامات, لتُعبِّر عن مضمون الحكاية الكوميدية في المقامة؛ تصوير حيلة تخدير الضيوف بالبنج (المقامة الواسطية)؛ وحيلة تجبير الساعد التي مرَّت على الدفّانين (المقامة الساويّة).

سيُلاقي القارئ تلك التفاصيل التصويرية و من خلالها يتعرَّف على الأزياء الشائعة في ذلك الزمن وعلى طُرز البناء والحياة اليومية للسكّان وأنواع الخيام ومناشئ صناعتها, وعلى تقاليد الأسفار والرحلات البريّة والنهريّة والبحريَّة.

– الفصل الثالث من الجزء الأول بعنوان ( السمات المسرحية في مقامات الحريري, من الهمذاني إلى الحريري)؛ ينتقل مسار البحث في هذا الفصل للمقاربة بين مقامات الهمذاني ومقامات الحريري وبالصيغة التي تسمح بها مساحة الفصل من البحث, حيث يطرح ويُفصِّل أهم العناصر التي يُشترط توفرها في النص لكي يكون نصَّا مسرحياً وأهمُّها:

– الموضوع القائم على عقدة مركزية.

– الشخصية القادرة على التحوُّل من دور إلى دور مُناقض.

– الصراع والحوار.

– الصعود التدرجي للأزمة وبلوغ قمتها؛ ثم الهبوط التدرجي إلى نهايتها.

– إعتماد النص على الحوار, فعلى المسرح شخصيات تتكلم بأصوات مسموعة من قِبل الجمهور.

– عدد الشخصيات المُناسب ومستوياتها الوظيفية؛ شخصية رئيسية تؤدى الفعل الدرامي بالخطاب, والتحكُّم بالصوت, والحركة التي يؤديها جسم الممثل الذي تتوفر فيه المرونة العاطفية سواءاً كان العرض كوميدياً أو تراجيدياً, فالتعبير على المسرح يتم أولاً بالجسد المرئي وبالزى الذي يرتديه الممثل ثمَّ الحوار؛ والحوار بدون مُطاوعة الأجسام لن يكون حواراً مسرحياً. هناك أيضاً الشخصيات الثانوية. نرى إن جميع هذه الشروط, ومُلحقاتها وأدواتها المُساعدة, توافرت في المقامات بشهادة نُقَّاد وأساتذة المسرح العربي والعالمي الذين مرَّ ذكرهم . في الوقت الذي نسترسل في تحليل نصوص المقامات على وفق إشتراطات وقواعد الأعمال الدرامية, نواصل مقاربتها مع مرجعياتها الحكائية العربية والأفكار (الحوافز) التي إنبثقت عنها فكرة المقامة لتنتقل من حكاية خبريّة أو نادرة جاحظية (نسبةً إلى الجاحظ) لتصبح نصَّاً مسرحياً.

تنوَّعت الموضوعات في الخمسين مقامة؛ من فكرية, وعظية, وفقهية, وإجتماعية إلى موضوعات جنسية تدور في المحاكم أطلقنا عليها عنوان مقامات (الأحوال الشخصية), وفي أغلب المقامات نستشعر النقد الجارح للسلطة وقوانين الدولة وطرائق الحكم, الأمر الذي يعكس فلسفة الحريري ومواقفه الفكرية التي بثَّها في ثنايا نصوص المقامات. فهو يعرض لنا أنماطاً من الشخصيات (بشخصية واحدة) تُعاني الفقر والجوع والبرد والتشرّد, وتلجأ إلى سلوك وسائل الكدية والإحتيال والشطارة واللصوصية وغيرذلك للبقاء في الحياة.

وهناك مقامات تعليمية وأخرى لإمتحان (الألمعية) كالحزورات التي تتناول اللغة ورموزها وطرائق الكتابة من طراز الفانتازيا اللغوية. من أمثلتها ما نجده في المقامة السابعة عشرة المسماة المقامة (القهقرية) وفيها يؤلف أبو زيد رسالة تُقرأ كلماتها من آخرها إلى أولها, كما تُقرأ من أولها إلى آخرها.. فهي ذات وجهين وإن شئت قرأتها كما تُقرأ الصحف والرسائل من اليمين إلى اليسار, وإن شئت عكستها فقرأتها من اليسار إلى اليمين. وهي مجموعة من الحِكم أخرجها في مائة مسألة على هذا النحو ” الإنسان صنيعة الإحسان” فأنت تستطيع أن تقرأ هذه العبارة ” الإحسان صنيعة الإنسان”.. وهكذا بقيّة الرسالة؛ يقول شوقي ضيف في كتابه (المقامة) ( قد لانُعجب نحن الآن من هذه الشعوذة, ولكنها كانت تُعدُّ غايةً بعيدةً عندهم في الإبداع الفني, وكان الحريري يعرض عليهم منه ما يدلُّ على تفوقه وإجادتهِ وإنّه يُعدُّ من أمهر اللاّعبين وأكثرهم تجربةً وحنكةً.). ونجده في المقامة السادسة والعشرين “الرقطاء” يؤلف رسالة يُراعي فيها أن تتوالى حروفها بين الإعجام والإهمال؛ كلمة منقوطة تليها كلمة غير منقوطة. وعلى هذا النسق يُلقي أبو زيد خطبة في المقامة الثامنة والعشرين ” السمرقنديّة” وكل كلماتها غير منقوطة.

ويُختتم الفصل بتحليل المشاهد المسرحية في المقامة (الشعرية) للحريري. وينتهي الجزء الأول مُسنَداً بالمصادر وأهمُّها اللوحات الفنية الشارحة للأحداث والتي تختصر الشروحات والتفاصيل الوصفيَّة.

الجزء الثاني

راعينا في هذا الجزء أن نُركِّز على الخصائص المسرحية وعناصرها الأساسية في مقامات الحريري ويتناول الفصل الأول من الجزء الثاني شخصية إبي زيد السروجي بعنوان ( أبو زيد السروجيي: الشخص/ الشخصية/ الممثل) يتناول هذا الفصل ظهور هذه الشخصية وجذورها الإجتماعية وحقيقة وجودها من زيفها. ثم يتناول الأدوار التمثيلية التي أدّاها وهي: دور الفقير المكدي ودور المُشرَّد ودور المُحتال واللص ومن ثم دور الخطيب البليغ وحلاَّل المُعضلات وكاتب الأحراز والتعاويذ.. وأخيراً التائب والنادم. وفي جميع تلك الأدوار يستخدم الوسائل المُساعدة للممثل وفي عدد منها يصطحب ممثل أو ممثلة ثانوية.

تتداخل شخصية أبي زيد السروجي , الإنسانية, مع شخصية الممثل الهرم وهو يُدرِّب إبنه؛ يوصيه بمواصلة مهنة الكدية في المقامة التاسعة والأربعين” المقامة الساسانية” وفي الوصيَّة نلمس المضمون الناقد للعلاقات الإجتماعية وجميع المِهن بإستثتناء مِهنة الكدية “…إذ كانت المتجر الذي لايبورُ. والمنهل الذي لايغورُ وأهلها [المُكدين] أنديتهم مُنزَّهة. وقلوبهم مُرفَّهة. وطُعمهم مُعجَّلة. وأوقاتهم غُرٌ مُحجَّلة. أينما سقطوا لقطوا. وحيثما إنخرطوا خرطوا..” ويُقدِّم له الطرق والأساليب التي عليه إتِّباعها وهي عبارة عن دروس تعليمية للممثل كدروس ستانسلافسكي في كتابه ( تدريب الممثل). يطلب أبو زيد من إبنه أن يمتلك المواهب التي تجعل الشخص ممثلاً وأهمُّها:

– المواهب الجسدية ( لغة الجسد)

– لُغة الوجه والأطراف.

– ثقافة الإحتيال.

– ضبط التوقيتات, وقراءة فاعلية الزمن.

– قوَّة الإرادة.

– سرعة التحوُّل في المواقف ( من الكبرياء إلى التذلل مثلاً.).

جرى الحريري في هذه الوصية على سياق وصايا الملوك والسلاطين وأبنائِهم, بصيغة الكوميديا السوداء.

لم تكن هذه الوصية الأثر الوحيد من الوصايا التي تناولها هذا البحث؛ فهناك وصايا اللصوص ووصايا المُتطفلين وغيرها, كوصيَّة خالد بن يزيد المُكدي (خالويه) لإبنهِ, ووصيَّة عثمان الحلاَّق لأحد أتباعه في التطفُّل. يستطرد هذا الفصل في تحليل الشخصيات المسرحية وأبعادها ولا ننسى أن مقاطع النصوص تُرافقها التصاوير التي تشرح الحوادث الدرامية فيها, ولذلك يُختتم هذا الفصل بفقرة عنوانها (وجهة نظر رسام المقامات) وهو الرسام يحيى الواسطي. فقد يتوقف الواسطي أمام حادثة محوَرية في المقامة فيرسمها من زوايا مُختلفة؛ على سبيل المثال نُشاهد أربعة تصاوير للمقامة “الساوية” وفيها تكوين بانورامي لمشهد الدفن؛ وصف فيه الجانب الإجتماعي وتقاليد الدفن في المقابر, ورسم بعض الأشجار في المقبرة ومشاركة النساء في البكاء واللطم ويظهر فيه السروجي يُشارك الرجال في دفن الميِّت. وتصويرة ثانية لهذا الموقف من زاويةٍ أخرى, تليها تصويرة لأبي زيد يقف على ربوة, وقد جبَّر ساعده مكراً, ويُلقي خطبته التي إحتال بها على المجموعة ونال عطاءَهم وإنصرف, فنرى التصويرة المُلحقة تُصوِّره بهذا المشهد. تليها تصويرة لأبي زيد حاملاً المسروقات, وتصويرة رابعة تُظهر الحارث يُلاحق أبي زيد ويكشف حيلته.

وعلى هذا السياق من الرسوم التفصيلية نجده في عدد آخر من المقامات؛ كالواسطية والكرجية والعمانية والفراتية والبرقعيدية والطيبية وغيرها..

– الفصل الثاني من الجزء الثاني بعنوان (الحارث بن همَّام الشخصية الموازية.. والشخصيات الثانوية) يتناول هذا الفصل دور الشخصية الثانية؛ شخصية رئيسية وليست ثانوية. فالحارث بن همَّام راوي حكايات من الدرجة الثانية (دور شهرزاد في الليالي), وفي نفس الوقت هو الممثل المسرحي المُشارك في الأدوار, والمُساعد في إنجاح الخطط والمقالب التي يصطنعها السروجي, ويمكن إعتباره مُخرجاً مسرحياً لمسارح الفضاء المفتوح, بحكم الدقَّة التصويرية التي يُرينا من خلالها التفاصيل وغاياتها, وبشكل خاص حين يُسلُّط الضوء على الممثل الأول وحين يفتتح المشاهد وحين يُقرر غلقها. تبنَّى الحارث مجموعة من الأدوار أهمُّها:

– دور الراوي المُبلِّغ بالرواية.

– دور المروي له؛ حيث يحتل الحارث مكاناً بين المجموعات التي تتلقى الرواية وتُشاهد العرض.

– دور المُشارك في صناعة الحيلة أوكشفها. لكنه لايُمثِّل شخصيًّة ضدَّية أو مُعادية؛ بل يتناصف الغربة والتشرُّد والفقر مع أبي زيد.

– دور(المؤلف الضمني)؛ في المُحاورات وحفظ الرسائل والخطب والمسائل الفقهيَّة عن ظهر قلب. فهو حامل أفكار وفلسفة المؤلف الأول. مع ذلك لابد من الإشارة إلى أن هذا الدور موَّزع على جميع الشخصيات.

– دور المُصوّر للمشاهد والأحداثيات؛ فرسائله النقلية ذات طابع بصَري, حسِّي, وكأنه حامل الكاميرة؛ يتنقل في المشاهد من التصوير البانورامي الشامل لتغطية المناظر والمجموعات البشرية, إلى تقريب العدسة من الوجوه والأيدي والأزياء وتصوير الحالات النفسية والجوانب الإجتماعية للشخصية وفي الظروف الزمانية والمكانية التي تسبق ظهور الشخصيَّة.

– دور المُخرج الضمني للعرض المسرحي؛ بيده التحكُّم بالزمن وترتيب المشهد والبداية والنهاية لكل عرض. والأهمُّ من كل ذلك أدواره التمثيلية, حيث يلجأ إلى التقنُّع والتخفّي مثال ذلك قوله ” فأولجت إلى الدسكرة [الحانة] في هيئةٍ مُنكرة.” وكان يتتبع خُطى السروجي ليكشف حيلته التي مررها على المسافرين في المقامة الثانية عشرة ” الدمشقيّة” فيجده مُنزوياً في حانةٍ للخمر, يشرب ويُنادم ويُغازل. ويتكرر مشهد التتبع والتخفي في المقامة الأولى ” الصنعانية” بعد الموعظة التي ألقاها السروجي في المقبرة, يقول الحارث ” تتبعته من حيث لا يراني..” ودلالة ذلك أن الحارث كان مُتنكراً ويتباطأ في تتبعه لأبي زيد.

وحالات التمثيل التي يؤديها الحارث بن همَّام تسري على جميع المقامات بإسثناء المقامة ما قبل الأخيرة ” الساسانية” التي يرويها الحارث عن وصيَّة أبي زيد لإبنهِ, وقد خلت من التمثيل المُباشر للشخصيات.

– دور الوسيط بين الحريري مؤلف المقامات, الذي خصَّه في المقدمة بقوله ” أسندت روايتها للحارث بن همَّام..” وبين الشخص المُكلَّف بإداء الأدوار وهو السروجي؛ وبين باقي الشخصيات الثانوية والمُساعدة. وأهم وساطات الحارث وساطته مع الجمهور الداخلي في المقامة والجمهور الخارجي الذي يتلقى الرواية في أزمنةٍ مُتباعدة.

إضافةً إلى دور الحارث, نُطالع في هذا الفصل أدوار الشخصيات الثانوية مثل القضاة والولاة والنساء والأبناء والشخصيات العابرة وجميعها مُشاركة في أحداث مسرحية. يُلقي هذا الفصل الأضواء على موضوعات المقامات من خلال أدوار الشخصيات الثانوية؛ ويمكن تمييز دورين أساسيين هنا:- دور المرأة في حالات مُختلفة, كحالات الخلافات الزوجية وفيها يبلغ الصراع الدرامي قمّته؛ في هذه الصراعات تُثار المُشلات ذات الطبيعة الجنسية إلى حد التطرُّف. و دور المرأة المُكدية, يؤدي هذا الدور أبو زيد شخصيّاً مع التنكر المطلوب للدور في المقامة ” البغدادية”.

– دور الأبن (الممثل المساعد) في عدد من المقامات؛ يتناولها البحث تفصيلاً, في المواقف التي تتطلّب شخصاً مُساعداً كالسرقة في المقامة ” الواسطية” وحيلة بيع وشراء الغلمان. الأهمُّ في هذه الشخصيات إمتلاكها البلاغة اللغوية والحجج المُضادة المُقنعة.. مثالها المُناظرة التي جرت في المقامة الخامسة عشرة ” الشعرية “. بعد أن يستعرض الحارث رحلته إلى أرض ” وعوراً لم تدمثها الخطى ولا إهتدت إليها القطا حتى وردت حمى الخلافة. فإذا فرسانٌ متتالون, ورجالٌ مُنثالون, [الوصف الأجمل نُشاهده في لوحات الواسطي لهذه المقامة] وشيخٌ طويل اللسان قصير الطيلسان, قد لبب فتىً جديد الشباب خَلقَ الجلباب؛ فركضت في إثر النظَّارة؛ حتى وافينا باب الإمارة..” يقول الشيخ [ السروجي] أن الفتى سرق قصيدته فيسأل الوالي ” وهل حين سرَقَ؛ سلخَ أم مسخَ أم نسخَ؟ [ سلخَ: أخذ المعنى/ مسخَ: قلبَ الكلام وغيَّره/ نسخَ: نقله بعينهِ] – الشرح لأبي العباس الشريشي للمقامة. يقول الشيخ أن قصيدته سداسية من بحر الكامل [مُتفاعلن]. حذف منها الشاعر الشاب تفعيلتين وغيَّر القافية وأبقى على المعنى. تطول المناظرة ولها إنعطافات أخرى درسناها في البحث وللإطِّلاع ننشر مطلَعَي القصيدتين.[ السداسية: ياخاطب الدنيا الدنية إنها شرك الردى وقرارة الأكدار.] [الرباعية:يا خاطب الدنيا الدنية أنها شركُ الردى.]

– خصصنا الفصل الثالث لدراسة العوامل المؤطرة للأحداث كالزمان والمكان والفضاء بعنوان (مسارح الطبيعة.. المكان, الفضاء, الزمان). ومن خلال إستعراض نصوص المقامات وتحليلها نستند إلى الشروح التي توفرها لنا التصاوير التي رسمها الواسطي لمخطوطة المقامات والتي سمّيَت (حريري شيفر) نسبةً إلى شيفر مالكها والمُتبرع بها للمكتبة الوطنية في باريس. نتلقى حالات الفضاء والزمان والمكان من إفتتاحيات المقامات برواية الحارث بن همَّام؛ بوصفه للمشاهد البانورامية أولاً التي تسبق الرحلة إلى المكان الذي تجري فيه الوقائع, ويمكن تصنيفها إلى:

– مشاهد وصفية للزمان والمكان والفضاء.

– مشاهد تصويرية للطبيعة والمناظر الخارجية, يُثبِّت فيها الراوي غرائبية الأماكن ومُعاناته في الوصول إليها.

– مشاهد تأملية, نفسية, تصف العلاقة بين الشخصيات والفضاء الذي يتغلغل فيها؛ إن كان فضاءاً طبيعياً, أو إجتماعياً, أو نفسياً كالذي يُعانيه الحارث في إعتكافه داخل غرفةٍ لأمرٍ ما.

– مشاهد ترحالٍ وأسفار. ونعرض مقاطع من إفتتاحية المقامة ” العُمانية ” لتداخل عناصر الفضاء والزمان والمكان فيها..يقول الحارث بن همّام ” لهجتُ مُذ إخضرَّ إزاري, وبقُلَ عذاري, بأن أجوب البراري, على ظهور المهاري.. فلمّا مللت الإصحار[السفر في الصحراء], وقد سنحَ لي أربُ بصُحار [ إسم مدينة في عُمان], مِلتُ إلى إجتياز التيار, وإختيار الفلك السيّار..” ويُصادف سفينةٍ على وشك الإبحار نحو الجنوب ويركب مع سفّانتها وتسير في طقسٍ هادئ,” ولم نزل نسير والبحرُ رهوٌ, والجوُّ صحوٌ, والعيش صفو, والزمان لهو.. إلى أن عصفت ريح الجنوب, وعسفت الخنوب.. وجاء الموج من كل مكان.. فمِلنا لهذا الحدث السائر, إلى إحدى الجزائر, لنُريح ونستريح, ريثما تواني الرَّيح..”. وفي الجزيرة يواجهون فضاءاً نفسياً كئيباً على وجوه سكان الجزيرة, بسبب تعرُّض زوجة السلطان لمخاضٍ عسير, فينبري السروجي لحل العقدة وإنقاذ المرأة والمولود, مثلما أنقذ ركاب السفينة من العاصفة بواسطة الحرز. ونستقرئ في المقامة ثلاثة أصناف للفضاء :

– فضاء البحر في حالتي الهدوء والعاصفة.

– فضاء الجزيرة وعزلتها عن العالم.

– الفضاء النفسي في تأزيم العُقد ومن ثمَّ حلّها.

يهتمُّ الحريري بتشخيص حالات الزمان والمكان, بنفس الدقَّة التصويرية التي يُسبغها على الشخصيات نفسها. في الأماكن المجهولة يُصوّر لنا الحارث بُعد المسافات وإنعكاس الرحلة الطويلة على الوضع النفسي وحالة الإغتراب التي يعيشها..في مُستهل المقامة ” البكرية ” يقول الحارث بن همَّام ” هفا بي البين المُطوِّح, والسير المُبرِّح, إلى أرضٍ يضلُّ بها الخريِّت [ الدليل] وتفرق فيها المصاليت [ الشجعان].” [ إحتفت هذه المقامة بأجمل تصويرة رسمها الواسطي؛ أظهر فيها منظراً شاملاً للقرية والحياة التي تدور فيها.]. يقول الحارث في المقامة ” الشتوية ” ” عشوتُ في ليلةٍ داجية الظُّلَم, فاحمةِ اللِّمم, إلى نارٍ تُضرمُ على علم, وتُخبرُ عن كَرَم, وكانت ليلةً جوُّها مقرور, وجيبها مزرور, ونجمها مغموم, وغيمها مركوم, وأنا فيها أصرَدُ من عين الحرباء, والعنز الجرباء.”.

دارت أحداث المقامات في أماكن مُتباعدة جُغرافياً في آفاق العالم الإسلامي؛ مدن نائية وقرى وأرياف وصحاري وجُزر؛ أماكن مفتوحة, كالمنتديات البريَّة, وأماكن للمشردين وشذّاذ الآفاق كالخانات والخيَّم وغيرها, وأماكن ضيِّقة كالغرف, وأماكن محددة المساحة بالأشبار, كالسفينة وظهر الجمل.. أي المكان المسمى (الحيِّز) [ يبحث هذا الفصل في تلك الجغرافية المكانية وأبعادها وعلاقاتها بالأحداث والأفعال الدرامية وأوضاع الشخصيات, مع الأسانيد التصويرية التي توفرها رسوم الواسطي.]

كل مكان ينطوي على تمهيدات للآتي من التطورات. أماكن أليفة وأماكن عدائية؛ غاية الحريري تثبيت الشعور بالغربة؛ الإغتراب أهمُّ المحاور في المقامات, حيث تدور الصراعات النفسيّة. إضافة إلى المكان نتلقى الأحوال الزمانية. الزمن التأريخي والزمن اليومي والزمن النفسي. نتعرَّف على البؤرة الزمنية من خلال تمهيد الراوي بتعيين الوقت والمناسبة والظرف الزمني الشامل بالتصريح أو التلميح أو الإشارة كقول الراوي ” أويت في بعض الفترات..” أو ” عام هياطٍ ومياط..” أو ” أمحل العراق ذات العُوَيم لإخلاف أنواء الغيم..” يشمل البحث هنا حالات الزمن الحكائي وزمن الكاتب والكتابة وزمن الشخصية وزمن الحكاية. فيما يخص زمن الكتابة وجدنا أن نسخة باريس (حريري شيفر) بخط وتزويق الواسطي, تبتعد عن زمن كتابة أول نسخة بخط الحريري بمدة زمنية تزيد على القرن ونصف القرن. ولهذه الفجوة الزمنية أهمية بالغة في التحقيق والدراسة. [ لم نتوقف عند هذه النقطة لإبتعادها عن إشتغالات البحث الحالي].

في سطر واحد يُغطي السارد ظرفاً زمنياً شاملاً, موضوعياً أو ذاتياً, من ذلك ما نقرأُه في مفتتح المقامة ” التبريزية” ” أزمعتُ الشخوص من تبريز, حين نَبتْ بالذَّليل والعزيز, وخَلتْ من المُجير والمُجيز..”.وتتشابه إفتتاحيتها مع إفتتاحية ” البرقعيدية” ” أزمعت الشخوص من برقعيد فشِمتُ برق عيد. فكرهت الرحلة عن المدينة. حتى أشهَدُ فيها يوم الزينة.” [ ولهذه المقامة رسم الواسطي أجمل منمنمة تُصوُّر الإستعدادات لرؤية الهلال حيث يصطف الفرسان حاملين الرايات وعليها الكتابات والحواشي المُذهبَة. وقد أصبحت هذه المنمنمة شعاراً للعديد من المهرجانات والمؤتمرات والندوات.].

هناك إشارات عن التوقيتات في المقامة؛ أحداث تدور في الليل؛ مع حلات الطقس وتقلبات الأنواء. يُتابع السارد تطوُّر الحدث مع سريان الوقت. كقوله ” إلى أن بلغ الليل غايته, ورفع الفجر رايته.”. في التفاصيل السردية والأوصاف نُطالع حالات الزمن الثلاث؛ الماضي والحاضر والمستقبل. أمّا دلالات الزمن في العلامات والإشارات [ الصيغة التعبيرية في المسرح] فتُعبِّر عنه أزياء الشخصيات وما يُرافقها من وسائل مُساعدة. وتدل عليه المظاهر الشاخصة كالعمائم والقلانس والطيالس وطُرز البناء وأساليب الكلام وتقاليد الأكل والضيافة والولائم والإحتفالات. وتُمثِّل الإكسسوارات ومؤثثات المكان أفضل الوسائل, وتأتي في المقامات بصيغة التلميح والإشارة. فقد ترد الإشارة إلى خصائص المكان دون ذكرها؛ فمن خلال وصف أهبة الإستعداد في المسجد ومهابة الخطيب والطقس الإعتباري الذي يسبق صعوده المنبر, نستدل على مهابة المسجد ومبناه الراقي, المُزجج؛ الذي يُجسِّد مكانة السلطة الدينية- السياسية. وأخيراً نقول أن أُسلوب الحريري يقوم على التصريح بالكلمة العربية المكثَّفة, وقد تكون ذات دلالتين لغرض من أغراض المقامة. الإختزال والكثافة أمران قريبان من التجريد؛ وكأن الحريري يضع الخطوط الأولية لعملهِ تاركاً تنفيذها على المسرح الإفتراضي لمُخرج العمل الإحتمالي, المستقبلي.

شاكر حمد
– فنان تشكيلي وكاتب –

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here