فشل المنهج النقدي الشخصي والخيالي الذي تبناه والتر بيتر في إيجاد المقبولية
عرض كتاب “والتر بيتر وبدايات الدراسات الإنكليزية”
كيت هيكست
ترجمة: د. رمضان مهلهل
عندما قامت مدرسة كامبريدج والنقد الأمريكي الجديد في أوائل القرن العشرين بتحديد المنهج الجديد للأدب الإنكليزي، لم يكن هناك مكان لوالتر بيتر وأمثاله في “الأروقة النظيفة” والرؤية الأخلاقية القوية التي يحملها [ذلك الأدب]. وهذا مما يؤسف له. فقد تطلعوا بدلاً من ذلك إلى شخصيات مثل ماثيو أرنولد و ت. س. إليوت من أجل اتخاذ موقف سليم تجاه النقد الأدبي، وأصبح بيتر، على حد تعبير ماركوس وايت، “مؤسس منهج موازٍ، وهو نسخة من الأدب الإنكليزي لم يجرِ سَنّ مبادئها قط”. ويظهر هذا المنهج الشبحي كاحتمال مغرٍ في ختام كتاب “والتر بيتر وبدايات الدراسات الإنكليزية” (2023).
إن مجموعة المقالات هذه، الموسّعة والمحرّرة، تركز بشكل واضح على دور بيتر في إضفاء الطابع المؤسسي على الأدب الإنكليزي في الجامعات. ومع ذلك فإن المقدمة، والمقالات الأربع عشرة، والملحق، بالكاد تتطرق إلى هذا الشأن، لأن بيتر لم يكن له مثل هذا الدور، ولم يكن يطمح إليه أصلاً. فقد كان ضد قيام برنامج للأدب الإنكليزي في أكسفورد، وكتبَ إلى جريدة “بول مال غازيت” في العام 1889 قائلاً: “لا ينبغي لي أن أؤيد أية خطة لإدخال الأدب الإنكليزي ضمن الدراسات الجامعية”. مقدمة الكتاب، التي كتبها تشارلز مارتينديل وإليزابيث بريتيجون، تبذل جهداً كبيراً لتجنب هذا التصريح المحرج. ولكن هذا ليس ضرورياً. إذ لا يهم ما إذا كان بيتر، في لحظاته الأكثر تحفظاً، يريد إدخال الأدب الإنكليزي أم لا. والسؤال الأكثر إثارة للاهتمام هو: لماذا، عندما أصبح الأدب الإنكليزي مجالاً أكاديمياً راسخاً، لم يكن له رغبة كبيرة في ضمّه.
أما الفصول التالية، التي كتبها أكاديميون بارزون في هذا المجال، فتقدّم أسباباً ضمنية. إذ تناقش بيتر ككاتب مقالات ورؤيته المهملَة على الدوام – والتي كانت بمثابة انقلاب مرتجل متخفٍ تحت نبرات متواضعة – لنهضة في النثر غير القصصي. وكما يُظهر فصل كينيث دالي، كان بيتر واحداً من العديد من نقّاد الأدب في أواخر القرن التاسع عشر الذين اهتموا بأسلوب النثر غير القصصي وشكله، ومكانته في العالم. ومثله كمثل أرنولد، كان بيتر يكتب لمواكبة الظهور الشعبي للنثر من ظلال الشعر. ولكن مقالاته عن الأدب الإنكليزي والأوروبي تتخذ منهجاً فريداً لم يجعله [أي بيتر] محبوباً لدى مؤسسي الأدب الإنكليزي في الجامعات.
يأتي هذا الكتاب جزئياً من حقيقة مفادها أن انتقادات بيتر كانت عالمية في عصر يشوبه التعصب الوطني. وتسلط عدة فصول الضوء على كيفيةِ فهمِ بيتر لنفسه ضمن جينالوجيا الكتابة الرومانسية التي تبدأ بميشيل دي مونتين، وبليز باسكال، وتوماس براون، وتتطور عبر تشارلز لامب وغوستاف فلوبير. وبينما يركز الجزء الثاني من هذا الكتاب على مقالاته عن الكتّاب الإنكليز، فإن مجموعة الموضوعات النقدية التي تناولها رفضت، كما يوضح ستيفانو إيفانجليستا، “الذهنية الوطنية التي ارتبط بها صعود الأدب الإنكليزي في الجامعات”. ويشكل التركيز على حساسية بيتر العابرة للحدود الوطنية نقطة قوة في هذا الكتاب، على الرغم من الاتهام غير الموفّق في المقدمة بأن الأكاديميين البريطانيين في الأدب الإنكليزي اليوم – وهي فئة تضم معظم المساهمين – لديهم “شك كبير تجاه الجماليات” و”قد دعموا جزءاً من التداعيات المصاحبة لبريكست [خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي]، وهو الجهل باللغات الأجنبية”.
إن ما يؤكد مكانة بيتر في التاريخ النقدي ويهمّشه في مجال الأدب الإنكليزي ليس ما يقوله، بل كيف يقوله. ففي أحد الفصول يتتبع فيرغوس ماكغي كيف قام بيتر بتعقّب مونتين في تصور المقال باعتباره الشكل الجوهري للحداثة. فكتاباته عن الأدب، التي جُمعت في الغالب في كتاب “التقييمات، مع مقال عن الأسلوب” (1889)، تدمج السيرة الذاتية والتقييم الأدبي مع التأمل الفلسفي والخيال والإشارات النصية المتبادلة، على حد تعبيره، “بإحساس خيالي بالحقائق”. والنتيجة هي انشقاق واعٍ عن النقد الإنكليزي كما حدده أرنولد، الذي أعلن في العام 1865 بأن “وظيفة النقد هي رؤية الشيء كما هو في حد ذاته”. ورغم أن بيتر يتفق معه في كثير من الأمور، فإنه يبدأ دراساته في تاريخ عصر النهضة (1873) بمراجعة بالغة الأهمية: “الخطوة الأولى نحو رؤية موضوعٍ ما كما هو في الحقيقة، هي أن يدرك المرء انطباعه الشخصي كما هو في الحقيقة، وأن يميزه، وأن يدركه بوضوح”. ويحدد هذا البيان شروط منهجه في النقد الأدبي: فهو يتنازل عن غرور السلطة والموضوعية لصالح الذاتية والإبداع.
ويعبّر نثر بيتر الانطباعي عن حقائق غير مؤكدة، مليئة بالخيال والرغبة، ويشوبها التحفظ. ففي قصة غير موثوقة رواها كاتب السيرة الذاتية المثير للاهتمام ولكن غير الموثوق توماس رايت، سأل بيتر بعد أن ألقى محاضرة ما إذا كانوا قد استمعوا إليه. وجاء الرد من أوسكار وايلد: “لقد سمعناك”. وعند قراءة مقالات بيتر، نجد أنفسنا غالباً وكأننا نسترق السمع إليه. وسواء كان يكتب عن شكسبير أو بروسبر ميريميه، أو في مراجعات الكتب، حيث ظهر الكثير من أفضل أعماله لأول مرة، فإنه يكتب حوارات بإهاب نثريّ. إذ يبقى ذهنه يدور ويدور حول الأفكار المستوحاة من أصوات بعيدة، مقتبساً منها ومعبّراً عنها أثناء انغماسه في حيواتهم، ليشكّل قناعات يغامر بتقديمها على أنها اقتراحات.
لكن مقالاته لم تكن سهلة. فهي تتناول كتّاباً لا يعرفهم إلا قِلة من القراء اليوم بالعمق الذي يتوقعه بيتر، كما أنها مليئة بتفاصيل دقيقة أصبحت غامضة مع الوقت. وهناك صعوبات أخرى متأصلة في مفهومه الانطباعي للنقد. فجمله تعيد صياغة نفسها أثناء الكتابة أو تتردد وتتجزأ إلى فواصل. وقد رفض الناقد المعاصر دبليو. جَي. كورثوب المدرسة الرومانسية الجديدة بسبب ما أسماه دالي “الانشغال المنحرف بالأسلوب”. ربما يكون هذا الانشغال منحرفاً، لكنه بالنسبة لبيتر لم يكن مجرد انشغال سطحي. ويوضح كتاب “والتر بيتر وبدايات الدراسات الإنكليزية” كيف عبّر عن صدق أصيل – صدق رفض المواقف السلطوية التي تبناها أرنولد، إلى جانب الكلاسيكية الجديدة في القرن الثامن عشر التي فضّلها. ويشرح بيتر التفاصيل الدقيقة في كتاباته ومكانته كناقد أدبي في القرن التاسع عشر بصبر ومهارة.
مع ذلك، فإن عنوان الكتاب يؤكد على القضايا التي لم يجرِ تناولها بشكل كافٍ. نحن لا نكتشف أبداً كيف يرتبط مفهومه للنقد بالأدب الإنكليزي الجامعيّ. إنه غياب استفزازي. ويبدأ جون غيلوري كتاب “ممارسة النقد: مقالات في تنظيم الدراسات الأدبية” (2022) بالتمييز بين دراسة الأدب والطريقة التي جرت بها ممارسته في المؤسسات. لقد أصبحت “الممارسات” أمراً ضرورياً لبناء الأدب الإنكليزي كتخصص. بينما عمل ف. ر. ليفيز وغيره من العظماء على إضفاء الشرعية على الأدب الإنكليزي في الجامعات، فقد تمعّنوا في أنموذج أرنولد الموثوق للنقد. وبعد عقود من الزمان، تغيّر الكثير، لكن هذا لم يتغير. وفي ملحقه الآسِر، يقتبس ستيفن بان من كريستوفر ريكس في صفحات ملحق التايمز الأدبي TLS: “إصبع أرنولد الصغير يساوي يد بيتر بأكملها”. وهذا هو الحال بالطبع. إذ لم يكن بيتر ممارِساً؛ بل هو غير محترف، وبالتالي فإن الحدود الصحية للأدب الإنكليزي لا يمكن بناؤها أبداً على هذا النوع من النقد، ولم يسمح له التخصص إلاّ بمكان هامشي داخلها.
من المدهش أن نجد ريكس هو الخصم النقدي الرئيسيّ في كتاب “والتر بيتر وبدايات الدراسات الإنكليزية”، وذلك لأن وجهة نظره التي تعود إلى العام 1977 تقول الكثير عن نقد منتصف القرن العشرين بقدر ما تقول عن بيتر. إن أهمية النقد الأدبي الذي قدّمه بيتر في الجامعات تتغير. إذ لا نجدها في الانتقادات الجديدة للانتقادات القديمة. وفي حطام النظرية الرفيعة، ومع التراجع الكبير في المكانة الثقافية للأدب الإنكليزي داخل المؤسسات، والمشوب بالتشاؤم في أعقاب تقليص الوظائف، لم يعد بالإمكان الحفاظ على مظاهر السلطة التي افترضها النقد الجامعي في القرن العشرين. في الجامعات، نقوم بإعادة معايرة طبيعة تخصص الأدب الإنكليزي واستشراف مستقبله. وفي هذا الوضع الهش، تبدأ امكانيات التخصص الشبحي الذي اقترحه بيتر بالظهور والتحقق.
هناك موجة جديدة من النقد داخل الأوساط الأكاديمية تدرك، كما أدرك بيتر، بأن الذاتية والإبداع والانحراف هي عناصر أساسية في الكتابة غير القصصية. ومن بين هذه الأعمال، كتاب “حول عدم كونك شخصاً آخر” (2020) لأندرو هـ. ميلر وكتاب “التحول” لروبرت دوغلاس فيرهرست (2022)، اللذان يدمجان التحليلات الأدبية المجزأة مع الفلسفة في إطار من السيرة الذاتية أو شبه الذاتية، مع اليقين من أنهما يستطيعان التمييز بين انطباعاتهما الخاصة بشكل واضح. وفي عمل آخر بعنوان “نحن الطفيليين” (2023)، يكتب أ. ف. ماراكشيني: “إذا كنا سنمارس هذا النقد، فأنا أفكر مع نفسي، فمن الأفضل أن تأتي اللغة الجديدة بسرعة وبحيوية، لتزدهر في صدورنا … “. هذا ليس بيتر، لكنه جزء من جينالوجيا النقد الرومانسي كما تطور بعده [أي بيتر]. وسوف يفهم [بيتر] الحميمية المتعثرة [لهذا النقد] ويرى بأن تخصصه الشبحي قد يتحقق أخيراً في الأروقة المتصدّعة للأدب الإنكليزي الأكاديمي.
المصدر: ملحق التايمز الأدبي، 29 آذار، 2024.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط