بقلم ضياء الخليلي
مجتمعنا بين تقبل الغريب وتمجيده ورفض القريب وتسقيطه
من الطبيعي لايُعرف الإنسان إلا من خلال اختلاطه بالمجتمع لكن في الاختلاط كما تظهر مميزات الإنسان الإيجابية وقدراته تظهر أمور يعتبرها المجتمع سلبيات كأن تكون عاهة خلقية او تصرف وسلوك غير محبب عند البعض او مهنة يستحقرها الآخرون وهذه التي يعتبرونها السلبيات لاتظهر في الشخص المحتجب عن الناس او الغريب الذي لايعرفونه لذا تكون درجة تقبّله اكثر في المجتمع عند المفاضلة بينه وبين الناشط في المجتمع اضافة إلى ان آفة الغيرة يمارسها المجتمع مع الشخص الذي يعيش معهم وليس المحتجب او الغريب عنهم فعندما يكون بيننا شخص يجالسنا يأكل معنا يتناقش معنا ويحاورنا نعتبر مستواه مثلنا فعندما يطور قدراته و يتسلم منصباً قيادياً ديني او سياسي او مهمة إرشادية تدب الغيرة بيننا ونرفضه لماذا هو لهذا المنصب وهذه المهمة وليس احدنا وهو لايفرق عنا ونبدأ من المؤكد عرض مانعتقد انها عيوب عنده وهذا الامر ينشط في المجتمعات المريضة البعيدة عن التحضر والأقرب للبداوة فرسول الله لم يتقبله مجتمعه البدوي لانه يعيش كأي انسان بسيط يخالطهم ويأكل معهم ويمشي في أسواقهم واعتراضهم كان ليس على الرسالة بل على شخص الرسول لماذا محمد (ص) ( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) فمن الطبيعي ان الشخص المختلط بالمجتمع يأكل معهم ويمشي في أسواقهم فهم لايريدون هكذا شخص هم يريدون شخص كهنوتي لايمارس ما يمارسون ولايعيش كما يعيشون كما انهم لايتقبلون شخصا يعمل كما يعمل البسطاء حيث كان الرسول يرعى الغنم لذا قالوا
(لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِن القريتين عظيم )
فهم يتقبلون الإسلام لو جاء به زعيم من قريش او ثقيف ولايتقبلونه من شخص يرعى الغنم ويأكل الطعام ويمشي في
الاسواق وحتى بعد تقبّله على مضض كانوا لايعظمون من شأنه بل ينادونه يا محمد ويدخلون عليه دون استأذان حتى انزل الله ايات في آداب التعامل مع الرسول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ۚ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
( رَّحِيمٌ )
والاية التالية كذلك
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ
وآيات اخرى في عدم ايذاء الرسول في حياته او بعد مماته
هذه الحالة التاريخية في عدم تقبل المجتمع من يعيش بين صفوفه وتفضيل المحتجب او الغريب رأيناها في التاريخ العراقي الحديث كذلك فعندما ثار العراقيون على الإنكليز واخرجوهم بثورة العشرين المباركة صار القرار وطني عراقي لكن الغيرة والحسد جعلتهم لم يقتنعوا بشخصية عراقية ليجعلوه ملكاً عليهم فاستوردوا ملكاً من خارج الحدود وجاؤوا بالملك فيصل ليجعلوه ملكاً عليهم حيث ارسل مجموعة من وجهاء العراق رسالة للشريف حسين يطلبون منه ان يرسل ولده فيصل ليكون ملكاً عليهم في حالة ذل امام الغريب فهم يتقبلون شخصا مجهولا ليس منهم ولايتقبلون احدا من بينهم ونحن عشنا في ايام حكم البعث والطاغية كان المحافظ والمدير العام القادم من تكريت والرمادي والموصل يتزلف له الناس ويخدمونه واذا كان هناك مديراً عاماً من مدينتهم رغم قلتهم لان نظام الحكم طائفي ولايعطي منصباً لاهل الوسط والجنوب لكن إذا وجد هكذا شخص يتعامل معه الناس بالاستخفاف وعدم الاهتمام لانه ابن مدينتهم ويعرفونه إلا إذا كان رفيقاً حزبيا كانوا يتملقون له وهو يسحقهم .
واليوم بعد التغيير في العراق نفس الطباع فالسياسي الصالح الذي يخرج من مدينته ويستلم منصبا تنقم عليه مدينته اكثر من الآخرين ويساوونه بالسياسي الفاسد فتراهم يستقبلون السياسي الذي هو من خارج مدينتهم بالأهازيج بينما الذي منهم يزدرون منه ويظهرون عيوبه وحتى من عاش في الخارج بقت طباع الغيرة والحسد مترسخة فيهم ولم يكتسبوا من الاوربيين شيء فتراه يلعن سياسيا عاش معهم لكنهم يستقبلون سفيراً او قنصلاً غريب عنهم ويقرأون بحضرته الشعر ويقيمون الولائم على شرفه ويمتدحونه ويضفون عليه الالقاب سعادة وسيادة ومعالي فالاثنين ينتمون لاحزاب تمقتونها فلماذا الكيل بمكيالين وحتى لو تقبلوا السياسي الذي عاش معهم فأفضل لقب ينادونه حجي فلان او ابو فلان في حين ان السفير الذي يشغل منصبا اقل ينادونه بالأستاذ وسعادة السفير او سيادة السفير
هذا الامر ليس فقط في الساحة السياسية فهو موجود في الساحة الدينية فترى ابن البلد غير مقبول ان يصبح مرجعا حتى لو امتلك علم الائمة في حين ان المجتمع يتقبل مرجعا من بلاد بعيدة فالذي يعيش معهم يظهرون عيوبه كان كذا في طفولته وكان والده كذا لانهم يعرفون عائلته بينما الغريب ينظرون اليه بقداسة لانهم يجهلونه وبعض الفقهاء الذين يختلطون بالمجتمع يعيبون عليهم ركاكة اسلوبهم الخطابي وهم لاينظرون لمؤلفاته في حين ان الفقيه المحتجب قد يكون اكثر تعثر وركاكة في خطابه وقد كان موسى عليه السلام غير طليق اللسان لذا طلب من ربه ان يؤازره باخيه هارون لانه كان طليق اللسان ولو كان الامر بطلاقة اللسان لاختار الله هارون ويعيبون على آخر انه فقيه ذو عاهة رغم فصاحته وبلاغته وهذا لايناسب كاريزما المرجعية ان لديه عاهة وكأننا في عرض ملك جمال الشيعة وليس مرجعا للشيعةهذا الأمر سببه الغيرة لان هذا الفقيه اختلط بالمجتمع وصار جزءً منهم فهم لايقتنعون ان يتزعمهم دينياً بل يجب ان يبقى مساوٍ لهم
وحتى الانتساب العشائري للفقيه كان يسبب الغيرة في المجتمع لماذا إبن هذه العشيرة وليس غيرها لذا انتبه بعض العلماء قبل إعلان مرجعيتهم واخفوا انتسابهم لهذه العشيرة او تلك تفادياً للأمر حتى يتقبلهم كل المجتمع فلو عرفوا انه من تلك العشيرة قد لا يتقبله ابناء العشائر الاخرى مرجعا لهم.
لذا تكنّوا بأسماء اجدادهم او مؤلفاتهم كي يتقبلهم عموم المجتمع
تقبل الغريب ورفض القريب تراه حتى في خطباء المنبر الحسيني فمن يعيش معنا ويجالسنا من الخطباء لانقتنع به ونظهر بعض تصرفاته انه يأكل هكذا ويتحدث بهذا الأسلوب وينُكت معنا ويلعب معنا الكرة ويسهر معنا وكأن الجلوس مع الآخرين والسهر معهم سُبّة وكأن لعب الكرة سُبّة
فتراهم حتى كلمة شيخ يستعظمونها بحقّه بينما من لايعرفونه والغريب عنهم يعظّمونه ويظهرون اعجابهم به وإن كان مستواه الخطابي إقل من الذي يعيش معهم ويجالسهم وهذا الأمر ينطبق على باقي النخب من كتاب وباحثين وشعراء فمن يجالس الآخرين ويخالطهم يستنقصون قدره وثقافته ومن يحتجب عنهم يعظمونه وإن كان فقيراً في علمه وثقافته ومن كان غريبا يقدرونه ومن كان ابن مدينتهم يهملونه وكلنا يعرف ان السياب كان بائساً في مدينته والجواهري كان طريداً منبوذاً في بيئته