آيات قرآنية عن الموت (ح 61) (وجاءت سكرة الموت بالحق)

الدكتور فاضل حسن شريف

هذه الحلقات هدية الى روح السيدة فيروز صادق فيلي رحمها الله وأسكنها فسيح جناته زوجــــة السيد أنور عبد الرحمن رئيس تحرير صحيفة صوت العراق.

عن تفسير الميسر: قوله جل وعلا “وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ” ﴿ق 19﴾ سَكْرَةُ المَوْت: غمرة الموت وشدته. وجاءت شدة الموت وغَمْرته بالحق الذي لا مردَّ له ولا مناص، ذلك ما كنت منه – أيها الإنسان – تهرب وتروغ. وجاء في تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله جل وعلا “وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ” ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ” (ق 19) “وجاءت سكرة الموت” غمرته وشدته “بالحق” من أمر الآخرة حتى المنكر لها عيانا وهو نفس الشدة “ذلك” أي الموت “ما كنت منه تحيد” تهرب وتفزع.

جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله جل وعلا “وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ” ﴿ق 19﴾ سكرة الموت: هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الإضطراب والإنقلاب والتبدّل، وربّما إستولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره. وكيف لا تكون كذلك مع أنّ الموت مرحلة إنتقالية مهمّة ينبغي أن يقطع الإنسان فيها جميع علائقه بالدنيا التي تعلّق بها خلال سنين طويلة، وأن يخطو في عالم جديد عليه مليء بالأسرار، خاصّة أنّ الإنسان ـ لحظة الموت ـ يكون عنده إدراك جديد وبصر حديد ـ فهو يلاحظ عدم إستقرار هذا العالم بعينيه ويرى الحوادث التي بعد الموت، وهنا تتملّكه حالة الرعب والإستيحاش من قرنه إلى قدمه فتراه سَكِراً وليس بسكر. حتّى الأنبياء وأولياء الله الذين يواجهون حالة النزع والموت بإطمئنان كامل ينالهم من شدائد هذه الحالة نصيب، ويصابون ببعض العقبات في حالة الإنتقال، كما قد ورد في حالات إنتقال روح النّبي الأكرم صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله وسلم‌ إلى بارئها عند اللحظات الأخيرة من عمره الشريف المبارك أنّه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ويضعها على وجهه ويقول: (لا إله إلاّ الله) ثمّ يقول: “إنّ للموت سكرات”. وللإمام علي كلام بليغ يرسم لحظة الموت وسكراتها بعبارات حيّة بليغة إذ يقول: (إجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم ومنطقه وانّه لبيّن أهله ينظر ببصره ويسمع باُذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره؟ و فيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها). كما أنّ هذا المعلّم الكبير ينذر في مكان آخر البشرية فيقول: (إنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب). ثمّ يضيف القرآن في ذيل الآية قائلا: “ذلك ما كنت منه تحيد” أجل إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناءً لا نافذةً إلى عالم البقاء، أو أنّهم لعلائقهم وإرتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها، أو لسواد صحيفة أعمالهم. أيّاً كان فهم منه يهربون. ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في إنتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه، ولابدّ أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم منه تفرّون. وقائل هذا الكلام ربّما هو الله أو الملائكة أو الضمائر اليقظة أو الجميع. والقرآن بيّن هذه الحقيقة في آيات اُخر كما هو في الآية (78) من سورة النساء إذ يقول: “أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ” (النساء 78). وقد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها باُمّ عينيه على أثر حبّ الدنيا وحبّ الذات حتّى يبلغ درجةً يقسم فيها أنّه خالد كما يقول القرآن في هذا الصدد: “أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال”. ولكن سواء أقسم أم لم يقسم، وصدّق أم لم يصدّق فإنّ الموت حقيقة تحدق بالجميع وتحيق بهم ولا مفرّ لهم منها.

جاء في صفحة الشيخ مشتاق الحمداني عن كتاب سبل السلام: في الموت موعظة ما بعدها موعظة وبه تظهر سلطة الله على عباده وقد حثَّ المعصومون عليهم السلام على تذّكره لإحياء القلب وإزالة ما يصيبه من أدران بسبب الخوض في أمور الدنيا وإطاعة النفس واتّباع أهوائها وشهواتها، وكثيراً ما كانوا (سلام الله عليهم) يذكّرون الناس بـ(هادم اللذات) يعني الموت. خرج الإمام الكاظم عليه السلام في تشييع جنازة فلما أنزلوها إلى القبر وقف على شفيره وقال (إنّ شيئاً هذا آخره وهي الدنيا لحقيق أن يُزهَد في أوله،وإنّ شيئاً هذا أوله وهي الآخرة لحقيق أن يخاف من آخره). وقد ورد الحث على عيادة المرضى وتشييع الجنائز لما فيها من تذكير وتقليل من غلواء النفس الطامحة التي تغفل عن هذه الحقائق المروّعة، وإنّ الليل والنهار يبليان كل جديد ويقضمان العمر بسرعة، ولا يحسّ الإنسان إلا وقد أشرف على الموت ولا ينفعه الندم على التقصير والإساءة لأن الفرصة لا تعوّض ولا يقبل عذر الإنسان لأن الحجج والمواعظ والنذر تتوالى عليه. وقد حفل القرآن الكريم ونهج البلاغة وجوامع الحديث وكتب الموعظة والأخلاق بالكثير منها، ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عنها لأنّه يقع حينئذٍ في فخ الغفلة “وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ” (ق 19-22).

جاء في موقع منظمة معارف الرسول: روى الصدوق رحمه الله في العلل: مسنداً عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتن إلاّ بوتر، قلت: يعني الركعتين بعد العشاء الآخرة؟ قال: نعم، إنّهما بركعة، فمن صلاّهما ثُمَّ حدث الموت مات على وتر، فإن لم يحدث به حدث الموت يصلّي الوتر في آخر اللّيل، فقلت له: هل صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله هاتين الركعتين؟ قال: لا، قلت: ولِمَ؟ قال: لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأتيه الوحي. وكان يعلم أ نّه هل يموت في تلك الليلة أم لا، وغيره لا يعلم، فمن أجل ذلك لم يصلّهما وأمر بهما.

جاء في کتاب الرسول الأعظم على لسان حفيده الإمام زين العابدين للسيّد محسن الحسيني الأميني: يستطرد مؤلف الكتاب السيد محسن الحسيني الأميني عن دعاء الامام عليه السلام قائلا: وأمّا غيرهم من أهل الأهواء المنتشرة والطرائق المتشتّة فمنهم: العرب أهل مكّة وغيرهم، وقد كانت منهم معطّلة، ومنهم محصّلة نوع تحصيل. أمّا المعطلة: فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا: بالطبع المحيي والدهر المفني، وهم الذين حكى القرآن عنهم: “وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ” (الجاثية 24) وقصروا الموت والحياة على تحلّل الطبائع المحسوسة وتركّبها، فالجامع هو الطبع، والمهلك هو الدهر: “وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ” (الجاثية 24). وصنف منهم: أقرّوا بالخالق وإبتداء الخلق عنه، وأنكروا البعث والإعادة، وهم المحكيّ عنهم في القرآن الكريم: “وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ” (يس 78-79) وصنف منهم: إعترفوا بالخالق ونوع من الإعادة، لكنّهم عبدوا الأصنام وزعموا أنّها شفعاؤهم عند الله كما قال تعالى: “وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ” (يونس 18). ومن هٰؤلاء: قبيلة ثقيف وهم أصحاب اللات بالطائف وقريش، وبنو كنانة، وغيرهم أصحاب العزّى. ومنهم: من كان يجعل الأصنام على صور الملائكة ويتوجّه بها إلى الملائكة. ومنهم: من كان يعبد الملائكة كما قال تعالى: “بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ” (سبأ 41). وأمّا المحصّلة: فقد كانوا في الجاهلية على ثلاثة أنواع من العلوم. أحدها: علم الأنساب والتواريخ والأديان. والثاني: علم تعبير الرؤيا. والثالث: علم الأنواء، وذلك ممّا يتولّاه الكهنة والقافة منهم. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: مطرنا بنوء كذا فقد كفر بما اُنزل على محمّد). ومن غير العرب: البراهمة من أهل الهند، ومدار مقالتهم على التحسين والتقبيح العقليين والرجوع في كلّ الأحكام إلى العقل وإنكار الشرائع، وإنتسابهم إلى رجل منهم يقال له: براهام. ومنهم: أصحاب البددة والبددة عندهم شخص في هذا العالم لم يولد ولا ينكح ولا يطعم ولا يشرب ولا يهرم ولا يموت. ومنهم: أهل الفكرة، وهم أهل العلم منهم بالفلك وأحكام النجوم. ومنهم: أصحاب الروحانيّات الذين أثبتوا وسائط روحانيّة تأتيهم بالرسالة من عند الله في صورة البشر من غير كتاب فتأمرهم وتنهاهم. ومنهم: عبدة الكواكب. ومنهم: عبدة الشمس. ومنهم: عبدة القمر، وهٰؤلاء يرجعون بالأخرة إلى عبادة الأصنام، إذ لا تستمرّ لهم طريقة إلّا بشخص حاضر ينظرون إليه ويرجعون إليه في مهمّاتهم، ولهذا كان أصحاب الروحانيّات والكواكب يتّخذون أصناماً على صورها، فكان الأصل في وضع الأصنام ذلك، إذ يبعد ممّن له أدنى فطنة أن يعمل خشباً أو حجراً بيده ثم يتّخذه إلٰهاً إلّا أنّ الخلق لما عكفوا عليها وربطوا حوائجهم بها من غير إذن شرعي وبرهان من الله تعالى كان عكوفهم عليها وعبادتهم لها إثباتاً لإلٰهيّتها ووراء ذلك من أصناف الآراء الباطلة والمذاهب الفاسدة أكثر من أن تحصى وهي مذكورة في الكتب المصنّفة في هذا الفنّ، ويدخل أربابها جميعهم تحت أهل الكفر.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here