بمناسبة اليوم العالمي للقصة القصيرة : أنام متدليا كخفاش عاشق

بمناسبة اليوم العالمي للقصة القصيرة :

أنام متدليا كخفاش عاشق

بقلم مهدي قاسم

كانت فكرة أن أطلّق هذا العالم الرمادي والخانق كما الزوجين يمّلان البعض لحد الضيق الخانق.. أو مثلما يخلع المرء متأوها حذاءه الضيق والمؤلم ليرتاح قليلا من عناء سفر طويل ومزعج ، فقد رافقتني هذه الفكرة بإلحاح متزايد .. كانت ثمة غربان شرسة من رؤيا معقوفة تقف عند حافة نافذتي و تنقرها ناعقة بشدة و شراسة .. وكأنما لتستدعي حولي مزيدا من عتمة و برد وضباب أسود ، ومخلوقات وأشكال وهيئات وهياكل منفرة وعدائية على وشك تفسخ وانحلال وتفتت .. وهي تلوّح لي هاتفة ب : لا شيء يشجع على الأمل يا صاحبي / فلا تنتظر خيرا ولا رجاء من هؤلاء الأوغاد ، بل ولا كلمة مواساة حتى ..
كانت الأشجار نفسها قد بدت و كأنها تهرأت منخورة ومتفحمة برؤوسها كجماجم كالحة ، لتبدو مثل فزاعات طيور ..
فيا للعنة.. فكل شيء يضيق بنا ونحن به : ــ ضيق يضيق بضيقه الضيّق وهكذا إلى ما لا نهاية .. ولكنني سأقاوم كل هذا الخواء و التفاهة والتسطيح المريع الذي يحيطني من كل حدب وصوب !ــ فكرت مع نفسي ــ ثم وجدتُ الطرافة وهي منقذتي دائما ـــ وكأنما استجابة لأمر من قدري الجميل ـــ طرافة مرحة تمسكني من يدي وتقودني إلى حديقة الغناء والهزل والخفة البريئة .. شيء حلو .. شيء حلو فعلا !.. هكذا كنتُ أهمس مع نفسي جذلانا : فكل ما ينقصنا هو ذلك الشيء القليل من الهزل الطرافة والضحك العميق من قلب إلى قلب وعبر قلب دافئ ووديع إلى قلب متآخ ودود ومحب ..آنذاك كان البحر يقترب من نافذتي ، خيمة مرتفعة من زرقة عميقة على محفة من أجنحة نوارس ناعسة ، مارا من قربي و محيّيا و مصافحا ، بأمواجه العالية و المتطاولة برشاقة حوريات حلم غامضات و مدهشات ..
فهل انتهى زمن الاختناقات وهذا الشلل الداخلي الرهيب ؟.. ثم التفتُ نحو البيانو ، حيث كان شوبان الطيب والكادح يجلس مستغرقا ، فهمستُ برجاء :

ـــ أعزف لنا شيئا بالله عليك يا عزيزي شوبان ! .. لكي أتمكن من النوم بهدوء ..

ثم جلستُ نازعا حذائي من قدمي والعالم الصاخب من رأسي .. ثم فككتُ أطرافي قطعة ، قطعة ، وكذلك عمودي الفقري وقصبات أضلاعي ورأسي ، واضعا كلها في الصندوق ، والصندوق فوق الرف ، والرف فوقي كتفي .. وحيث استحال عزف شوبان إلى سلالم من أنغام و أمواج وخيوط حرير ومدارج أثير ، تسلقتُ الرف المترب صاعدا فوق الصندوق ونمتُ فوقه متدليا كخفاش عاشق .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here