سامراء في شعر الجواهري!!

الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري كان يمضي بعض أشهر الصيف في سامراء , وقد نظم قصيدة “سامراء” في عام 1932. وهي قصيدة مفعمة بالمؤثرات , التي تمليها المدينة على الإنسان الشاعر , بشواهدها ومعالمها التأريخية وحكايات أطلالها , التي تخبرنا عن حياة متألقة تفاعلت على ضفاف نهر دجلة , وتعاظمت ثم هوت , وتركت لنا آثارها ودلائل توهجها وسطوعها الحضاري الخلاق.
يبدأ الشاعر قصيدته بخمسة عشر بيتا , يعكس فيها هذا التأثير الفعال على النفس الروح البشرية , لمدينة بحجم سامراء تأريخا وحضارة على روح الشاعر , الذي عشقها في شبابه وحسبها مصيفا روحيا وفكريا وثقافيا , يتعلم فيه حكاية الحضارة والتأريخ , ومفردات التألق والأفول الإنساني في الأرض.
وفي هذه الأبيات يقف على أطلال حياته , ويبدو أن حياته التي عمرها اثنان وثلاثين عاما , قد تماهت مع مدينة سامراء فراح ينعاها , وكأنه تحول إلى ناطق بلسان حال المدينة التي أحبها. فنرى الصدمة والخوف واليأس والاستفهام في الأبيات, وهذه مشاعر تبعثها الوقفة على أطلال عاصمة الدولة العباسية بأوج تألقها وقوتها , وكيف يرى الناظر إلى القصور والجوامع الكبرى, وإذا بها أطلال خاوية مستوحشة , بعد أن كانت للحياة مركزها وقوتها التي تحركها في كل الآفاق.

يأس تجاوز حده حتى لقد أمسيت أخشى الشر قبل حلوله
وبَلُدْتُ حتى لا ألذّ بمُفرح حذر انتكاسته وخوف عدوله!

وفي هذين البيتين وصف دقيق للمشاعر الإنسانية التي تجيش في أعماق الإنسان وهو يواجه أطلال العز والكبرياء والقوة والشموخ.
ويشبع أبياته حنينا إلى الماضي ولوعة على أفول أيام الصبا فيقول:

لتشوقني ذكراكم ويهزني طرب إلى قال الشباب وقيله
ثم يبدأ بتحية سامراء في المقطع الثالث من القصيدة قائلا:
حييت “سامراء” تحية معجب برواء متسع الفناء ظليله

ثم يأخذ بوصف المدينة بحس ومنظار شاعر مرهف خلاق, فيرى أن حسن يومها قد تساوى, فهي مدينة حسناء لا يخفي حسنها الظلام بل يزيده بهاءا وروعة.

بلد تساوى الحسن فيه, فليله كنهاره, وضحاؤه كأصيله

وهواء سامر المنعش العليل الذي يصافح أمواج المياه قبل أن يطوف في أرجاء المدينة يبعث الفرح والسكينة في النفوس التي تسير في مدينة الحضارة والأحلام الفائقة في زمن الجمال والتفوق الابداعي والعمراني الكبير.

ساجي الرياح كأنما حلف الصَّبا أن لا يمر عليه غير عليله

وفي البيت التالي إشارة إلى ضيافة أهلها واهتمامهم بالزائرين وحسن رعايتهم لهم

وكفاك من بلد جمالا أنه حدب على إنعاش قلب نزيله
وقد بدى تأثير الزهو الحضاري في أعماق الشاعر حتى انعكس على ما يراه من حوله من جسد المدينة التي لا زالت تعانق الحياة فيقول

عجبي بزهو صخوره وجباله عجبي بمنحدراته وسهوله

ويمضي بوصف مياه مدينة سامراء وشاطئيها الذين كانا مسرحا لنزهة الزائرين وسهرات الشباب والشعراء والمغنين على أنغام الأمواج وضوء القمر وطيب النسيم والسكون المشحون بالأمان والإيمان والحب.

بالماء منسابا على حصبائه بالشمس طالعة وراء تلوله
بالشاطئ الأدنى وبسطة رمله بالشاطئ الأعلى وبرد مقيله
بجماله, والبدر يملأ سنا بجلاله رهن الدجى وسدوله
بالنهر فياض الجوانب يزدهي بالمطربَين: خريره وصليله

ثم يأخذ بوصف القوارب وهي تتهادى على وجه المياه عند الصباح وفي المساء فتسمع أصوات مجاديفها وغناء أصحابها ومواويلهم المتناغمة مع الريح والأمواج.

أو صوت مجداف يبين بوقعه فوق الحصى عن شجوه وعويله

وينتقل في المقطع الرابع من القصيدة إلى وصف لحظة جمالية رائعة من عالم السكون الزاهي فيقول:

ساد السكون على العوالم كلها وتَجلب الوادي رداء سكونه
وتنبهت بين الصخور حمامة تصغي لصوت مطارحٍ بهديله
وأشاع شجوا في الضفاف ورقة إيقاظ نوتيّ بها لزميله

وفي المقطع الخامس من القصيدة يأخذ بوصف نهر دجلة وهو يتفاعل مع الشمس بكل حالاته وتحولاتها أثناء النهار فينشد:

ولقد رأيت فويق دجلة منظرا الشعر لا يقوى على تحليله
شفقا على الماء استفاض شعاعه ذهبا على شطآنه وحقوله
حتى إذا حكم المغيب بدا له شفق يحيط البدر حين مثوله

ويتألق في وصفه للحظات الروعة في سامراء ليصل بقوله

والجو أفرط في الصفاء فلو جرى نفس عليه لبان في مصقوله
هذي الحياة لمثلها يحنو الفتى حرصا وإشفاقا على مأموله

وفي المقطع السادس من قصيدة سامراء يعود الشاعر إلى مخاطبة الأطلال ومحادثة التأريخ والتفاعل معه بروح شاعر متلهف لإدراك المعنى وبواطن الفحوى من الأحداث

بدت القصور الغامرات حزينة من كل منهوب الفناء ذليله
“العاشق” المهجور قوض ركنه كالعاشق الآسي لفقد خليله
و”الجعفري” لم يقصر رسمه الباقي برغم الدهر عن تمثيله
بادي الشحوب تكاد تقرأ لوعة لنعيمه المسلوب فوق طلوله
فضّت مجالسه به وخلون من شعر “الوليد” بها ومن ترتيله

وفي المقطع السابع من القصيدة يبدأ بوصف مشاعره وهو يدخل هذه القصور وكيف تنهال عليه الخيالات والتساؤلات والحيرة

ولقد شجتني عبرة رقراقة حيرانة في العين عند دخوله
إني سألت الدهر عن تخطيطه عن سطحه , عن عرضه, عن طوله

فيجيب عن تساؤلاته وحيرته

مدت بنو العباس كف مطاول فمشى الزمان لهم بكف مغوله
وكذا السياسة في التقاضي عنده تسليم فاضلة إلى مفضوله

وفي المقطع الأخير من القصيد يأخذ بمدح مدينة سامراء يقول

خلدت سامراء لم أوصلك من فضل حشدت عليَّ غير قليله
يا فرحة القلب الذي لم تتركي أثرا للاعج همه ودخيله
هذا الجميل الغضّ سوف يرده شعري مضاعفا بجميله
ولقد غلوتُ فكم بقلبي خاطر عجزت معاني الشعر عن تمثيله!

د-صادق السامرائي
22\2\2013

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here