الروضة العلوية

السلام عليكَ يا أمير المؤمنين، كأنَّ النورَ يردُّ السلامَ قبل أن تُنطقَ الكلمات، كأنَّ الأبدية تنتفضُ عند اسمك، فتتشظى العصورُ وتلتحمُ في نقطةٍ واحدةٍ هي أنت. هنا، لا زمن، لا مسافات، لا حروف، بل إشراقٌ سرمديّ، امتدادُ الكونِ في اسمك، تجلّي الألوهة في أصداء صوتك. ليس المكانُ هنا موضعَ قدمٍ، بل هو العرشُ الذي يُطوى إليه الزمان، المدى الذي يسري في أعمق حواس الوجود، حيث لا شيء إلاك. أرضُك، يا علي، ليست ترابًا، بل صراطُ الضوء، ذاكرةٌ تنبضُ بقلبِ الكون، مجدُ الخلقِ مذ كان، حيث الأنبياءُ والملائكةُ يطوفون بكَ تسبيحًا، وحيث الشهودُ ينصتونَ إلى صمتكَ، فيرتجفُ المعنى عند سمعهم. في شارع الطوسي، المدى يفيضُ بزائرين كأنهم خرجوا من رحمِ الأزل، وجوههم لا تعبر الزمن، بل تحملهُ على أكتافِهم، كلُّ خفقةِ قلبٍ تهتف: “يا علي”، وكلُّ دمعةٍ تسقطُ ليست ماءً بل شظيةُ ضوء، وكلُّ يدٍ امتدت إلى صدورٍ تلطم، كأنها تعيدُ إيقاع الخلقِ الأول، كأنها تُحيي ما كان تحت العرشِ مكتوبًا: “عليٌّ مع الحقّ، والحقُّ مع عليّ”. الأقدامُ تتقدمُ نحو العتبةِ كأنها تمشي على نهرٍ من نجوم، كلّ خطوةٍ عروجٌ، كلّ نظرةٍ انخطاف، حتى تصلَ الأرواحُ إلى حيث لا حدودَ للوجود، إلى مقامكَ يا سيد الوصيين، حيث لا تمييزَ بين الإنسانِ والنور. في شارع زين العابدين، الأيدي تمتدُّ بالطعامِ والشرابِ، لكنه ليس زادًا للمعدة، بل زادُ الأرواح، كل لقمةٍ يقين، كل شربةٍ ماءٍ شهادة، كل بسمةٍ تُقدم فيها لقمةٌ، هي كرمُ السماواتِ يتجلى في الأرض، كلّ عينٍ تبكي كأنها بئرٌ يتدفّقُ من عمقِ التكوين. بحر النجف، ليس ماءً، بل مرآةُ العوالمِ الخفية، كلّ موجةٍ تسجدُ عند أعتابِ اسمكَ، كلّ قطرةٍ تهمس: “يا علي”، الليلُ يطفو فوق سطحه، لكنه لا يُظلم، فالنورُ المنبعثُ من الضريحِ يعيدُ تشكيلَ الأفق، كأنّ النجومَ تنحني، كأنّ الكونَ نفسهُ يصلي في حضرةِ السرِّ الأعظم. في الحولي، الطرقُ تنسابُ كنهرٍ من
العائدين، مسيرٌ لا يشبهُ المسير، إنما هو انخطافٌ أبدي، المواكبُ كأنها
أفلاكٌ تدورُ حول مركزِ العشقِ، الراياتُ تعلو كأنها أعمدةُ النورِ في فضاءِ العروج، والهتافاتُ ترتفعُ كصدى الملائكةِ يومَ اجتمعتْ عند العرشِ لتُقرَّ أنَّ عليًّا هو بابُ المدينة، هو الصراطُ، هو البوابةُ التي تفضي إلى المجهولِ المقدسِ الذي لا يُحدّ. يا أمير المؤمنين، عندك تنتهي الكلمات، عندك تسجدُ الحروف، عندك، تصمتُ الألسنُ ليُسمع صوتُ الأرواح، في حضرتِك، ليس هناك إلا النقاءُ المطلق، السرُّ الذي لم يُكتب، المعنى الذي لا يُنطق، اللغزُ

الذي يحلُّ نفسهُ بنفسه، لأنك أنتَ البدايةُ وأنتَ المآل، وأنتَ النورُ الذي
يفيضُ حتى على العدم، فيصيرُ كلُّ شيءٍ بكَ، وفيكَ، ومنكَ، وإليك.

فراس الوائلي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here