لاهوت العشق في قصيدة رشا السيّد أحمد: قراءة تفكيكية–صوفية/ بقلم: فراس الوائلي
تمهيد:
في قصيدة “في ليل مدائن العشق” للشاعرة رشا السيّد أحمد، لا يُطرح العشق بوصفه تجربة شخصية، بل كقوة كونية كامنة في اللغة، تُعيد تشكيل العالم من جديد. النص لا يكتفي برسم ملامح علاقة حميمية، بل يقتحم الفضاءات الرمزية والدلالية، ليؤسس لـ لاهوت شعري يرى في الحب خلاصًا، وفي الحبيب كوكبًا دريًّا، وفي القصيدة وسيلة عبور نحو الأبدية.
القصيدة ككائن مهاجر
تفتتح الشاعرة نصها في فضاء مكاني مشحون بالدلالة (شيكاغو)، لكن المدينة هنا لا تؤخذ بوصفها موقعًا جغرافيًا، بل كمنصة إقلاع من الواقع إلى المتخيل. تقول:
“على طرف مدينة شيكاغو
سهرت في عينيه ذاك المساء حتى الفجر…”
في هذا السهر، يحدث أول اختراق للمكان، حيث تتحول العينان إلى مأوى، والفجر إلى حدٍّ يفصل بين الشهادة والغياب. القصيدة منذ بدايتها تصنع عالمًا بديلًا، يُلغى فيه الضجيج الأرضي لصالح البصيرة العاشقة.
تفكيك الزمان والمكان وإعادة تخليقهما بالعشق
القصيدة تمحو الزمن التقليدي، وتمنح المكان وظيفة جديدة: أن يكون مرآة للروح. كل شيء خارجيّ يُمحى، ليبقى الحبيب “كوكبًا”، والعاشقة “قصيدة حرّة”:
“قصيدة مسافرة للأعالي
تتجه لكون خيّم عليه سلام أبدي
وعرشت في قبته نجوم السماء…”
هذه الصورة التكوينية لا تشير إلى مشهد غرامي، بل إلى ميتافيزيقا العشق، حيث تتحول القصيدة إلى كائن طائر، يتجه نحو كينونة أخرى، يتجاوز فيها صراعات البشر وقلق السياسة نحو فضاء تتكلّم فيه الملائكة.
الحبيب بوصفه كوكبًا لا يُرى
يُعيد النص رسم صورة الحبيب، لا بوصفه شخصًا، بل كجرم سماوي روحي:
“وهو كوكب دري، يا إلهي، يدهشني كل ليلة بأنوارهالخفية…”
يتجلّى هنا التناص مع قوله تعالى: “يكاد زيتها يضيء ولو لمتمسسه نار، نور على نور”، وهو تناص ليس اقتباسًا بل تجلّيًا شعريًا للبعد الصوفي في رؤية الآخر.
الحبيب لم يعد فقط موضوعًا للعشق، بل مصدر نورٍ تتوجه إليه الذات لتتطهّر، وتتحول، وتنجو.
الإيقاع الداخلي والانزياح الصوتي
رغم غياب الوزن الخليلي، فإن النص يخلق موسيقاه الخاصة من خلال:
• التكرار البنائي: “كلما ارتقينا… كلما استمعنا… كلمالمسنا…”
• الانسيابية النثرية: الجمل تتلاحق دون توقفات حادة، مما يُنتج إيقاعًا تأمليًا عذبًا، يشبه صوت الذات حين تناجي محبوبها في ليل طويل.
هذه الموسيقى ليست صوتية فقط، بل روحية، توازي بين اللفظ والصعود، بين التكرار والارتقاء.
تناصّات كونية ودينية
يحضر في النص حقل دلالي ثري، يربط بين العشق، والنصوص المقدّسة، واللغة الصوفية:
• “نور على نور” (سورة النور): حضور الحبيب كتجلٍّ نوراني.
• “ملائك السماء يقرؤوننا”: توسيع للفضاء الحواري ليشمل عالم الغيب.
• “رتّل، سبح، غلالات نور، عالم سبّحه نور، وكلماته نور…”: توظيف لألفاظ ذات طاقة صوفية قوية، تمتح من القرآن والموروث العرفاني، لكنها تُعيد إنتاجها بشعرية حديثة.
الحب كقوة خالقة للكون
لا تُقدّم القصيدة الحب كعاطفة، بل كـ”قانون كوني” يعيد تشكيل العالم:
“وهو نور على نور، ما عرف يوما قلبه غير العشق.”
بهذا، يصبح الحبيب مبدأ التكوين، والعشق هو المادة الأولى، لا للأدب فقط، بل للوجود كله.
هنا يلتقي النص مع تصوّرات ابن عربي عن “الإنسان الكامل”، حيث لا يكون المحبوب فردًا، بل مرآةً للحقّ، وتجليًا للوجود الأسمى.
خاتمة: الشعر كطقس خلاص
إن قصيدة “في ليل مدائن العشق” ليست سردًا شعوريًا، بل بناءٌ لغويّ ذو طابع كوني، ينتج عالَمه الخاص ويتحرّك فيه.
رشا السيّد أحمد لا تكتب عن الحبيب، بل تصنع له كونًا يتجلّى فيه، وتستدعي القارئ ليحلق معها في فضاء يتجاوز اللغة، ويتعالى عن المعنى العابر.
القصيدة هنا محراب صوفي، وسفر وجودي، وكوكب لغوي…
نصٌّ لا يُقرأ، بل يُسبّح فيه.
النص
في ليل مدائن العشق
على طرف مدينة شيكاغو
سهرت في عينيه ذاك المساء حتى الفجر
وحين راحت تغيب النجوم مغادرة لمضاجعها أصابتني روحه بلذة النعاس المُسكرِ
كانت نجمة الصباح ترقبني وأنا أغفو في عينيه قصيدة حرة لا تعرف غير التحليق و هو كوكب دري يا ألهي يدهشني كل ليلة بأنواره الخفية التي يفردها أمامي بروح ساحرة كل عوالمه كانت فاتنة تسحرني برهيف أضواءها الليلية و جمال مدنه كان يأخذني بحب معه لاستكشاف جمالها يوما بعد يوم
قصيدة مسافرة للأعالي تتجه لكون خيم عليه سلام أبدي و عرشت في قبته نجوم السماء وحين حلقت معه عرفت أني تركت خلفي كل الحروب والصراعات الهوجاء التي لا تنتهي على هذا الأديم وقلق السياسة الذي لا يعرف غير التضاد
فقط هو وأنا كنا نلهو مع النسمات تارة وتارة نستمع لملائك السماء ماذا تقرؤنا و كلما استمعنا لما يقرؤنه نرتقي أكثر وكلما أرتقت أرواحنا كنا نلمسها فنجدها غلالات نور جعلها الحب رهام فتردة لنا عالم العشق علام سبحه نور وكلماته نور وهو نور على نور ما عرف يوما قلبه غير العشق.
سيدة المعبد
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط