بقلم مهدي قاسم
عندما مضى نهائيا لم يشيعه سوى حشد كبير من أوهامه وبعض من عمال مدافن ، مع نعيق متقطع لغربان كانت تتشاجر فيما بينها وهي تقتات على حافة الطريق وبين الأعشاب ، وهو الذي اعتقد طوال حياته بأنه دون قصائده ونصوصه سيختل توازن العالم و يهتز منهارا ، وتنتشر المجاعة في الأرض وتشحّب المحيطات والبحار والينابيع والخلجان و تنتهي قاحلة و قفارا ، وتتيبّس الغابات و تصفر وتتصادم الكواكب والمجرات مرتطمة ، و تتعثر العواصف والصواعق عاجزة مشلولة وخرساء ..
كان مؤمنا بذلك الوهم إيمانا قويا و راسخا وعميقا ، فحوّل مخيلته إلى حدائق لزرع أزهار زاهية و فراشات من أوهام جميلة ويانعة ، أدُمن عليها إدمانا شديدا وهو يتمدد على أرجوحة أيامه بكسل ولا مبالاة انتظارا لمخاض قصيدة جديدة تلو أخرى ، مستدعيا كل أنواع المخلوقات الحية والمنقرضة إلى ضيافة مخيلته ليضفي عليها مسحة وهيئة من تكوينات وإشكال جديدة ، كل ذلك ليبقى العالم نابض القلب متماسكا ومتين البنية و الأركان والأعمدة شامخا ، والبحار والمحيطات هادرة ، والغابات راقصة برؤوس أشجارها ، والطيور تنشد مغردة وفرحة ، وهو ملكا للمخيلة وأميرا فريدا للأوهام ، ومقيما دائما في دار الأبدية..
بينما هو يمضي نهائيا ، محمولا بتابوت من صمت و سكون ، و دون أي أمل في العودة ثانية من سديم الفناء ، كان العالم لا زال كما هو ، ومثلما كان ، بدون قصائده ولا حدائق أوهامه ، دون أن يهتز أو ينهار محطما متشظيا كمزهرية من بلور مثلما تصور ..
فلم ينهار العالم أو يرحل معه غير أوهامه الجميلة فقط ..
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط