العلمانية والمجتمع العراقي محاور الأختلاف

محمد مهدي الشكري ان الدليل الذي قامت عليه العلمانية منذ نشؤها ودليل صحتها, قد اعتمد على مناهج النظرة المادية التجريبية, أوما تسمى عند الفلاسفة بالمدرسة التجريبية، والتي تذهب إلى أن المعرفة تنحصر في عالم الوجود والمادة, مبتعدين عن أية أفكار ما ورائية, لذا تقعدت العلمانية على هذا المبدأ العلمي, محاولة أن تبتعد وتنأى بكل أشكال المؤسساتالمجتمعية المعتمدة على الماورائيات والغيبيات، والأفكار الدينية او الروحية, التي لا يمكن إخضاعها لقوانين العلم والمعرفة التجريبية. كان لتجربة العلمانية عوامل اساسية ساعدت على قيامها, وبسط نفوذها المعرفي, ومنها العوامل السياسية والأجتماعية  والأقتصادية وثقافية، واي اختلاف فكري في هذه المصطلحات سوف يعطي تجربة مغايرة عنالتجربة الاولى، فأن تجربة العلمانية التي قامت في الغرب وما تحويه من إرهاصات وعوامل ضغط  تأريخية ومجتمعية، ليست بالضرورة ناجحة لتكن أداة للتعلمن في الشرق, بحكم اختلاف المباني الاجتماعية والثقافية لكل من المجتمعات، لذا تبقى تجربة العلمانية غير مطلقة اي ليس صالحة لكل نظام او دولة، حيث ان العلمانية تفترض تأمين الحياة الكريمة على مبدأ الأغلبية، وهذا غير صحيح حيث لا يمكن ان تكون الأغلبية دائماً معياراً صالحاً للوصول إلى مبدأ  الحقيقة. فمثلاً , لو توافق الاغلبية على فعل غير صحيح,  ومخالف للطبيعة والفطرة البشرية, ويقود إلى كوارث، فهل هذايعني ضرورة إمضاء هذا الفعل والموافقة عليه؛ فمثلاً لو اتفق الأغلبية على تأييد زواج المثليين, وامتنعت البشرية عن اقامة العلاقات الأسرية الطبيعية، مما قد يتسبب بأنقراض البشرية وتقلص اعداد البشر، فهل أن كون هذاالرأي يمثل رأي أغلبية، يفرض علينا قبوله والتعاطي معه بإيجابية ؟  و نفس  الحال في أطر وأشكال أخرى من المخالفات والإنحرافت,  كالقبول مثلاً بزواج المحارم او تعدد العلاقات اللاشرعية للمرأة المتزوجة, حيث نجد أن العلمانية وما تحويه من مبادئ احترام الحريات الفردية، تقف موقف التأييد المطلق مع هذه الإنحرافات, بحجة  أن المجتمع بأغلبه يؤيدها أو يريدها, حيث لا تكون العلمانية مع صدام في هذه المواضيع ,حتى وإن كانت تتنافى مع الدين والعلم والمنطق, فالأغلبية معيارهم في تحديد الصالح من غيرالصالح، والجدير بالذكر وسؤال للعلمانين ماذا لو ان الأغلبية اختارت نظام الحكم الأسلامي ما موقف العلمانية منها!؟ حتى القيم الخلقية تكون خاضعة للتجربة حيث كل خُلق يكتب قيمتة من خلال التجربة، وان الخُلق نسبي في العلمانية مادام خاضع للتجربة، مثل الصدق والكذب والأمانة والمساواة تكون نسبية بما يقتضي المنفعة للمجتمع وخاضعة للتجربة ومن مبادئ التي ترفعها العلمانية (الحرية، المساواة، والاخاء) وهنا كان للأسلام الدور في طرح هذه المبادئ قبل العلمانية فقد قال تعالى في محكم كتابة (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا) وهنا لا بد للإشارة الى مسألة الحرية المطلقة في الإسلام وان ديننا جعل الحرية نسبية وليست مطلقة، لأن هنالك من الأفكار ما يؤثر نسبياً على المجتمع أما في العلمانية كل الأفكار مباحة وهنا يطرح سؤال؟ ماذا لو أفراد من المجتمع اعتنقوا الفكر الداعشي وآخرون الفكر المثلي ويبدأ الترويج له، هنا العلمانية مع تبني كافة الأفكار بشكل مطلق أما الإسلام فيكون بشكل نسبي بما يلائم تقاليد وأعراف المجتمع وتكون الحرية في مجال كرامة الإنسان،أي لا تتحول المرأة إلى سلعة رخيصة والرجل إلى منعدم للقيمة الأخلاقية وينتقل من الفضيلة الى الرذيلة وانالحرية التي تهدر كرامة البشر فليست قيمة من قيم الحرية وقال الله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم). اما قضية الأيمان بالغيب فأن العلمانية تعتبرها مسألة شخصية لا تتعدى الطابع الشخصي والنفسي ، وتتحولالى ظاهر اجتماعية لأن الإيمان بالغيب هو مسألة شخصية بين الفرد وربه، ولكن في الواقع فإن الأيمان  بالغيب يعتبر أهم أداة لكي تبقى النفس البشرية متعلقة بأمل الخلود والبقاء, وتبتعدعن فكرة الموت والفناء الأبدي, تلك الفكرة المرعبة التي تعمد إلى تقزيم الإنسان, وتحجيم  دوره في الوجود، معتبرةإياه (لحظة) في سيلان الزمن. جائت فكرة الإيمان الديني لتطرح فكرة الخلود, أو الإستمرار في الوجود عبر مراحل تنتهي بالحياة الآخرة, لتبدأعندها حياة أبدية أخرى, إما في شقاء أو نعيم، مجرد وجود مثل هذه الفلسفة, تعد أكبر حافز للإنسان لكي يسعى لإصلاح وتهذيب نفسه, محاولا إكسابها الكمالات اللائقة, التي تبعدها عن نمط الحيوانية, وتخلق لدى الفرد رادع نفسي يحيد الشخص عن التجاوز على حقوق الآخرين، وذلك من خلال ثنائية الثواب والعقاب؛ لذا فإن وجودمسألة الأيمان بالغيب الديني الماورائي, والإيمان بعالم الآخرة, ضروري جدا في المجتمع, وذلك لتحد من كثرةالاعتداءات بين الناس وتخوف الناس من حساب وعقاب آخروي, نتيجة ما يقترفوة من فعل لا يتناسب مع الدين والأنسانية, او التي يجمع العقلاء على خطأها وإنحرافها, مثل ايذاء الجار ، والسرقة وعدم العدل وتجاوز علىاملاك الآخرين والقتل وعدم احترام حرمة الآخرين.  هذه المفاهيم يشكل بها الدين الجانب المهم لتطبيقها وتسهيل عملها للجريان في النفس البشرية، ولأن القانون والعذاب المادي وحدة غير كافي لردع الروح الشريرة في النفس ولذلك يحتاج الى عامل آخر يساعد القانون في عملية الضبط النفسي للفرد داخل المجتمع, وحتى في الدول المتطورة نجدها تمر بين فترة وأخرى بحالات اهتزازفي كيان الدولة وفوضى في المجتمع و بمجرد حصول حالات ضعف القانون, تنتشر الفوضى, ولا ينفع هنا وجودالقانون بذاته, لأن القانون بذاته لا يكون رادعاً إلا بوجود  قوة خارجة عنه تقوم بتفعيله, فهو لا ينجح بذاته ليكون عامل في ردع الناس وهذه المعدلات خير دليل على صحة القول : تشير المصادر الى ان  إنجلترا في مقدمة الدول التي تشهد حالات تحرش واغتصاب. ففي 2017، تعرضت 48 ألف و122 امرأة للاغتصاب، فيما تأتي فرنسا في المرتبة الثانية بـ14 ألف و899 حالةاغتصاب، ثم ألمانيا بـ 7 آلاف و831 حالة اغتصاب، فالسويد بـ6 آلاف و810 حالة. ان مشكلة النخب الفكرية والعلمية في الدول العربية, أنها فاشلة في خلق نماذج حرة أصيلة للنهضة, بل تعتمدفي أغلبها على نماذج الفكر السياسي والأخلاقي والقانوني الغربي, حيث انها عاجزة على انتاج مفهوم يناسب بيئتها الثقافية والأجتماعية  من جهة وسياستها وحكمها من جهة اخرى, ويكون نظام صالح للحكم؛ وهذا مانشهده  في الفترة الممتدة من الخمسينات الى الثمانيات, عندما تولدت قناعة عامة عند الفرد العربي ان النظامالأصلح للحكم هو الشيوعي, ولكن ثبت أنها لم تنجح, بل لم تستمر لفترة طويلة  حيث بعد أضمحلالها ، وبروز نجم الليبرالية ذهب الكثير من مثقفي العرب إلى تأييد النظام الليبرالي واعتباره هو الاصلح والأفضل لتحقيق الحياةالكريمة في بلداننا, وغاب عنهم أيضا أن تهجين هذا النمط من الفكر, ومحاولة تدجينه في مجتمعنا من حيث تمثلاته السياسية والقيمية والإجتماعية, سيقود إلى فشل ذريع, لأنه نظام استند على بنى وأنساق مجتمعية، لهاتراكماتها المعرفية التأريخية والأخلاقية والسياسية، هي ليست بالضرورة مشابهة للبنية العربية والعراقية بالذات. لذا نلحظ تشظي وتعارض بل وتنافر كبير, بين أصحاب الدعوات التغريبية التي تدعو إلى “علمنة ولبرلة ” المجتمع العراقي, وبين أسس وأصول القيم والأخلاق والأعراف التي تمثل بنيتنا المجتمعية, لذابانت بوادر فشل أطروحتهم, وبدأت تزداد عوامل القطيعة بينهم وبين المجتمع.