طبقة الأفندية ودورها في بناء بغداد.. تقي الحاج عبد البلداوي.. أنموذجاً
طبقة الأفندية ودورها في بناء بغداد.. تقي الحاج عبد البلداوي.. أنموذجاً


2016-05-28 17:54:03
د. عادل البلداوي

يَنبغي أن نشير هنا إلى، أن "أمانة العاصمة" قد اتخذت شعاراً لها منذ عام 1936، وهو عبارة عن شارة كانت تمثل نمرا متحفزاً للانقضاض وقد ظهرت إلى خلفه نخلة، ولكن في العام 1950 استبدل الشعار بشعار آخر، وهو عبارة عن شارة فيها شكل مدور يدل إلى مدينة السلام المدورة التي بناها أبو جعفر المنصور سنة 145هجرية، وفي وسط الشارة قصره المعروف بقصر الذهب وحولها ثلاثة أسوار مدورة الشكل بينهما قطائع الأمراء و دور كبار رجال الدولة، وفي كل سور أربعة أبواب متقابلة تؤدي إلى أربع جهات طريق البصرة وطريق الشام وطريق الكوفة ثم طريق خراسان. وقد وضع في اعلى الشعار ما يشير الى شروق الشمس، وفي أسفله ارض العراق الخضراء ونهر دجلة الجاري وسط بغداد وترمي ألوان الشعار الى ألوان العلم العراقي. على أي حال، عين تقي عام 1942 بموجب الأمر الديواني المرقم (96) في 31 آذار 1942 بوظيفة مساعد مأمور بيع السكر في مديرية التموين العامة، وبراتب قدره 6 دنانير شهرياً. وقد اصدر أمين العاصمة الأمر الديواني الآتي: "يعين كل من المذكورة أسماؤهم أدناه مراقبين انضباط احتياط براتب 5 دنانير لكل منهم اعتباراً من 1/6/ 1942 صباحاً محسوبين على الملاك المؤقت المصدق بقرار مجلس الأمانة المرقم والمؤرخ في 31/3/1942 الذي وافقنا عليه". وبعد صدور هذا الأمر، صدر بيان بالمسؤولين عن مراقبة التسعير ومحلات الفواكه والخضروات. وقد كان تقي عبد وزميله حمود حمد "مسؤولين عن مراقبة الأسعار في الأسواق" الواقعة في منطقة الكرخ. وقد بقي في مديرية التموين العامة لمدة عشرة أشهر فقط، ثم استقال منها بناءً على رغبته. ننقل نصاً ما جاء في عريضة الاستقالة: "نظرا لدخولي في المدرسة لذا أقدم لمعاليكم استقالتي راجيا قبولها ولكم الأمر". وفي العام 1943، أُعيد تعيينه في امانة العاصمة. مع العلم، ان خدمته في مديرية التموين العامة قد أضافها فيما بعد الى سنوات خدمته، بناءً على مصادقة المديرية العامة لصندوق التقاعد عام 1969 الذي أكد على "اعتبار خدماته في مديرية التموين العامة الملغاة من ضمن الخدمات التقاعدية". وفي العام 1946، حصلت موافقة أمانة العاصمة على تعيينه على الملاك الدائم. فقد وجهت امانة العاصمة كتاباً الى رئاسة صحة لواء بغداد لغرض اجراء الفحص الطبي له. ننقل نصاً ما جاء في هذا الخصوص:
"في النية تعيين تقي الحاج عبد كاتب طابعة في هذه الدائرة لذا يرجى فحصه وإعلامنا بنتيجة ذلك.
امين العاصمة ".
أعلمت صحة لواء بغداد، امانة العاصمة بنتيجة الفحص التي كانت وفق المعلومات الآتية:
"الاسم: تقي الحاج عبد
القابلية البدنية: جيدة
الرؤية : جيدة
نتيجة الفحص: جيدة
توصيات اللجنة: لائق ان يكون كاتب طابعة".
وفي العام 1950، كانت مهمته الوظيفية "جباية رسوم البناء في مديرية وحدة الكرخ"، وفي العام 1951 باشر بوظيفة مراقبا في شعبة الطوابع، ثم مراقبا في شعبة الواردات عام 1953، ثم كاتبا في مديرية الحدائق وكاتبا في شعبة التبليط. وقد بقي في هذه الشعبة لغاية تموز عام 1963. مع العلم، ان شعبة التبليط كانت تعد من اهم الشعب في امانة العاصمة من حيث تقديم الخدمات للمواطنين. والدليل على ذلك ان امناء العاصمة كانوا يركزون في احاديثهم الصحفية على هذه الشعبة اكثر من الشعب الاخرى، فمثلاً ان عبد الله القصاب امين العاصمة قد اكد في حديث صحفي على ان امانة العاصمة "وضعت منهاجاً لتبليط اكبر مجموعة من الشوارع في بغداد". ومن اجل الوقوف على حجم الخدمات التي كانت تقدمها هذه الشعبة لسكان بغداد، نشير الى ان مساحة الطرق التي تم تبليطها خلال العهد الملكي قد بلغت 721.881 م2، وان المساحة المبلطة خلال الفترة 1958 -1968 قد بلغت 1.481.253م2 طبقا لما ذكرته الملفات المحفوظة في امانة العاصمة. ومما يؤكد، ان شعبة التبليط كانت من اهم الشعب في امانة العاصمة، ان موظفيها كانوا يقومون باعمال اضافية، الامر الذي جعل اللواء عبد المجيد حسن امين العاصمة أن يصدر امراً اداريا هذا نصه: "يمنح الموظفون المدرجة أسماؤهم ووظائفهم ادناه اجور اعمال اضافية كلاً بنسبة 25% من راتبه الاسمي لمدة ثلاثة اشهر اعتباراً من تاريخ صدور هذا الامر وذلك لقيامهم بالاعمال المعهودة اليهم خارج اوقات الدوام الرسمي". لقد ادى تقي الحاج عبد واجبه في شعبة التبليط على احسن ما يرام، بدليل انه حصل هو وزملاؤه عل كتاب "تلطيف" موجهاً من اللواء عبد المجيد حسن امين العاصمة هذا نصه: "نظراً لما قام به موظفو ومستخدمو هذه الشعبة من همة ونشاط في سبيل تحصيل نفقات التبليط خلال سنة 1961-1962، فاننا نثني على كافة موظفي ومستخدمي شعبتكم راجين ان يكونوا قدوة لغيرهم". وقد كتب رئيس شعبة التبليط على كتاب امين العاصمة هذا الهامش بخصوص تقي عبد محمد: "السيد تقي يطيب لي تهنئتكم لاستحقاقكم بهذا التلطيف وتستحقونه بجدارة". وفي تموز عام 1963، باشر تقي عبد محمد بوظيفته في رئاسة وحدة الكرادة الذي كان رئيسها نذير يونس الدباغ، اذ كان عنوانه الوظيفي "ملاحظ الحسابات لوحدة الكرادة"، وفي العام 1964، اصبحت رئاسة وحدة الكرادة بمثابة مديرية، حيث اصبح مسؤولها كيلان زكي، وقد اصدر امراً خاصاً جاء فيه: "يكون ملاحظ الحسابات السيد تقي الحاج عبد مسؤولا عن كافة الاعمال الحسابية والاشراف على اعمال الصندوق مباشرة". ثم صدر امر خاص هذا نصه: "نخول ملاحظ الحسابات السيد تقي الحاج عبد محمد بالتوقيع عنا عن مذكرات اذن القبض اعتباراً من تاريخ صدور هذا الامر". وفي مايس عام 1964، تم ترقيته من وظيفة كاتب الى معاون ملاحظ بناء على امر اداري صادر عن اللواء اسماعيل مصطفى امين العاصمة وقد كتب رئيس شعبة التبليط هذا الهامش: "ترسل الى السيد تقي مع التهاني". وفي السادس من تشرين الاول عام 1965 صدر امر اداري بالعمل (عدادا) في القطاع (91) في المنطقة (24) التابعة الى ناحية الكرادة الشرقية. وفي العام1965، صدر امر اداري بنقل تقي الحاج عبد محمد الى شعبة الواردات التابعة لمديرية الحسابات. وفي 16 شباط عام 1967، اصدر مدحت الحاج سري امين العاصمة امراً اداريا "منح مخصصات اجور خدمات خاصة بنسبة 15% من رواتبهم لقاء اشتغالهم بالاعمال المعهودة اليهم..". فضلاً عن ذلك، فقد وجه امين العاصمة شكراً وتقديراً الى رئيس وملاحظي الواردات في مديرية وحدة المركز "للجهود المبذولة من قبلكم وموظفي الحسابات العاملين بمعيتكم... من اجل زيادة مبالغ رسوم الواردات المستحصلة من المكلفين آملاً ان تستمروا بجهودكم هذه لما في ذلك خدمة للصالح العام. ثم عمل في شعبة المباني. وفي العام 1970، عمل في مديرية وحدة الاعظمية، حيث انيطت به مهمة "اعمال التبليط". مع العلم، ان شعبة التبليط خلال السبعينيات من القرن العشرين كانت تقدم خدمات كبيرة للمواطنين، فقد بلغت المساحة المبلطة لبغداد 5,001,461 م2 خلال فترة 1968-1976 طبقا لما ذكرته مجلة "امانة العاصمة"، مما جعل المؤرخ العراقي المعروف عبد الرزاق الحسني ان يثني على جهود امانة العاصمة، عندما قال هذا الكلام: "ان مدينة بغداد مدينة لفضل امانة العاصمة، لان بغداد اصبحت لا تقل عظمة وجلالة عن دمشق وبيروت والقاهرة والقدس والرباط". وفي العام 1973، شكل سعدي الدوري مدير وحدة الاعظمية لجنة، كان تقي احد اعضائها، مهمتها "التحقيق عن كيفية قيام بعض الاشخاص الاهلين بسحب المياه من قناة الجيش وسقي المزروعات في اراضي الوقف المتجاوز عليها ولتحديد المساحات والكلفة ومعرفة المتجاوزين لمطالبتهم بالكلفة". وفي العام 1974، تم ترفيع تقي من عنوان ملاحظ الى رئيس ملاحظين. ثم عمل في مديرية وحدة القناة، اذ كان رئيس ملاحظي شعبة الحسابات، و"مسؤولا عن ادارة ومراقبة اعمال الجهاز الحسابي ومحاسبة موظفيه" طبقاً لما جاء في الامر الاداري الموقع من كنعان شوكت امين مدير وحدة القناة"، ولكون هذه المديرية كانت بعيدة عن منطقة سكناه، فقد قدم عريضة الى امين العاصمة بوساطة مدير وحدة القناة يطلب فيها نقله الى احدى الوحدات القريبة من سكنه. ننقل نصاً ما جاء في العريضة:
"السيد امين العاصمة المحترم بواسطة السيد مدير وحدة القناة المحترم نظراً لبعد محل سكناي في مدينة الحرية عن محل دائرتي في مديرية وحدة القناة وما الاقيه من صعوبات في الذهاب والاياب علاوة على ان ما اتكبده من اجور نقل باهظة حيث تبعد دائرتي عن محل سكناي بخمس مناطق عليه ارجو التفضل بالموافقة على نقلي الى احدى الوحدات القريبة بالنسبة لمحل سكناي وشكراً".
وقد كتب مدير وحدة القناة على العريضة هذا الهامش:
"لا اوافق لانك من الموظفين الكفوئين واني معتز بكم".
وفي العام 1976، عمل في مديرية وحدة بغداد الجديدة ثم عمل في مديرية وحدة المنصور الا انه على ما يبدو لم يستمر فيها طويلاً، اذ صدر امر اداري بنقل "السيد تقي عبد رئيس الملاحظين في مديرية وحدة المنصور الى مثل وظيفته في مديرية الواردات". وفي هذه المديرية، حصل على شكر وتقدير مع مجموعة من الموظفين "للجهود التي بذلت من قبلكم لرفع مستوى الايرادات للسنة المالية 1976، ولما لمسته من جهد متواصل وتفان ونكران الذات لا يسعني الا ان اسجل شكري وتقديري اليكم راجيا ان تكون جهودكم لخدمة الوطن دائما وابداً". وفي العام 1977 نقل تقي من مديرية الواردات الى مؤسسة المجازر، وقد اصبح مدير الادارة والذاتية في المؤسسة المذكورة، وحصل على شكر وتقدير، لنتابع معاً ما جاء في كتاب الشكر والتقدير من كلمات:
"السيد مدير الادارة والذاتية السيد تقي عبد محمد حسن
م/ شكر وتقدير
بالنظر لجهودكم المخلصة وتفانيكم بالعمل هذه للمصلحة العامة لا يسعنا الا ان نقدم لكم شكرنا وتقديرنا لذلك آملين مزيداً من التفاني خدمةً للمصلحة العامة".
وبعد انفكاك مؤسسة المجازر عن امانة العاصمة وارتباطها بوزارة الزراعة والاصلاح الزراعي، اصبحت تسمى مصلحة المجازر العامة، وقد ظل تقي مديرا للادارة والذاتية في المصلحة. مع العلم انها اصبحت عام 1979 تسمى "المنشأة العامة للمجازر"، والتي كانت آخر محطة في عمله الوظيفي، اذ احيل على التقاعد بناء على طلبه، وذلك بعد وفاة زوجته في 9 آب 1979، فبعد شهر تقريبا من وفاتها، قدم طلباً للاحالة على التقاعد حتى يتفرغ لتربية ابنائه وشؤون بيته. وقد اصدر سامال مجيد فرج وزير الزراعة والاصلاح الزراعي امراً اداريا جاء فيه: "بناء على الطلب المقدم من قبل السيد تقي عبد محمد حسن المدير في المنشأة العامة للمجازر.. يحال الموما اليه على التقاعد اعتباراً من تاريخ الانفكاك". وقد همش الدكتور زهير عبد الحليم عبد الله العاني على كتاب الوزير هذه الكلمات:
((نتمنى لكم الموفقية مع تقديرنا)).
هكذا ادى تقي الحاج عبد واجبه الوظيفي دون ان ينال اية عقوبة ادارية، ولم يتذمر يوما من الايام عندما كان يصدر امر بنقله من دائرة إلى اخرى، لانه كان مؤمنا بان الوظيفة هي تكليف وليس تشريفاً، لذا نال احترام وتقدير جميع مرؤسيه الذين كانوا يثبتون في استمارة تقويمه السنوي هذه الفقرة:
((أويد بان خدمات الموظف المبحوث عنه اعلاه مرضية من جميع الوجوه خلال السنة)).
فضلاً عن ذلك، ان ترفيعه الوظيفي ولا سيما خلال العهد الملكي، كان يتم على وفق سياقات ادارية رصينة، اذ كان يجرى امتحان للموظف المراد ترقيته، وغالبا ما كانت اسئلة الامتحان تتعلق في كيفية مخاطبة الدوائر ومخاطبة المسؤولين، وكان المسؤولون عن اجراء الامتحان ياخذون بنظر الاعتبار خط الموظف الممتحن ومظهره الشخصي. مع العلم، انه كان يشترط على الموظف الممتحن ان تكون اجاباته بالقلم الحبر (الباركر 21)، لذا يلاحظ ان اغلب الموظفين في العهد الملكي، كانوا يتمتعون بخط جميل للغاية، وباسلوب لغوي رصين في تحرير الكتب الادارية، ولكن ما يؤسف عليه حقا، ان هذه التقاليد الادارية قد فقدت في العهود الاخيرة، اذ اغلب الموظفين لم يكن خطهم واسلوبهم اللغوي بالمستوى المطلوب. مما سبق يبدو واضحا، ان تقي قد قضى 37 عاما من عمره في خدمة بغداد العاصمة التي خدمها بالغالي والنفيس، وامانة واخلاص وتفانٍ كبير، مما جعله مفتخرا كل الافتخار بذلك، فقد كتب على غلاف اضبارته التقاعدية التي يحتفظ بنسخة مصورة منها، هذه العبارة المعبرة:
"والحمد لله الذي اخرجنا من اشغالنا في الدوائر مرفوعي الراس وبوجه ابيض".
ثمة حقيقة تاريخية، ان تقي الحاج عبد ولد في بغداد، وعاش فيها، وخدمها 37 عاما من عمره الوظيفي باخلاص كبير، وقد اودعها امانة في اعناق من تولى المسؤولية عنها من بعده. ولكن مما يؤسف حقا، ان (تقي) قد ودع بغداد وهو يتحسر الماً على ما حل بها جراء الاحتلال الامريكي لها عام 2003، فقد كان يردد حتى الايام الاخيرة من حياته هذا الشعر:
"بلادي وان جارت عليّ عزيزة، وقومي وان شحوا علي كرام".

3- وفاته:
تعرض تقي الى جلطة دماغية في العام 2005، وبدأت صحته بالتدهور رويداً رويدا، ولكن بفضل الله سبحانه وتعالى اولاً، وبفضل افراد اسرته ثانياً، ولاسيما ولده حيدر وابنته رجاء اللذان تحملا الجزء الاكبر من المسؤولية في تقديم افضل الخدمات له، فقد اديا واجبهما على احسن ما يرام. فضلا عن جهود ابنائه الاخرين امل وعادل وباسم واسعد. ومن الجدير بالذكر، ان تقي كان يطلب باستمرار حضور ولده اسعد المقيم في مسقط لاشتياقه الكثير له، وبالفعل، فقد وصل اسعد وولده احمد الى بغداد في الساعة الرابعة عصراً من يوم الثلاثاء الموافق 19 كانون الثاني 2016، وبعد ان تناولوا العشاء معاً، ظل تقي يتسامر الحديث مع ولده اسعد حتى الساعة الحادية عشرة من اليوم المذكور، ثم طلب تقي ان يخلد الى سرير النوم، وبعد نصف ساعة تقريباً لفظ انفاسه الاخيرة وفارق الحياة. مع العلم، ان اسعد قد جلب لوالده هديةً "ثوب"، الا ان يد المنون اختطفت تقي قبل ان يرتدي الثوب اسوةً بوالده عبد الذي لم يرتد الثوب كما اشرنا الى ذلك سابقاً، وهذه المصادفة مع المصادفتين الاخريتين، وهما ان كلاهما (تقي ووالده عبد) قد اقترنا بامرأتين تنتميان الى "طبقة السادة" من دون اخوتهما، وكلاهما رزقا بالعدد نفسه من الاناث والذكور، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هل هذه المصادفات، مجرد مصادفة، او لها تفسير آخر". وقد اصاب اللواء الركن المتقاعد عبد الصاحب داود سلمان كبد الحقيقة عندما كان يشير في مناسبات عدة الى ان الحاج تقي قد أخذ الكثير من والده الحاج عبد. ولكن يبقى التفسير الاصح لهذه المصادفات هو عند الله وحده "وفوق كل ذي علم عليم".

الخاتمة:
لم تكن المعلومات الواردة في هذا الكتاب، مجرد تاريخ شخص محدد بذاته فحسب، بل تصلح ان تكون تاريخاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وحتى مهنياً لحركة المجتمع بأجمعه، فهذه المعلومات تعد بحد ذاتها دروساً وعبراً لمن يريد ان يعتبر في هذه الدنيا، فقد أكدت تجارب التاريخ على ان من لا يتعلم من دروس التاريخ، لا يمكن ان يكون من زمرة العقلاء ابداً. ثمة حقائق عدة في هذا الكتاب ابرزها، ان (تقي) موضوع (دراستنا) كان ينتمي الى اسرة ارستقراطية، الا انه لم يعتمد على ثروة ابيه، بل اراد ان يشق طريقه بنفسه، لانه كان يدرك، وهو مصيب في ذلك، ان "العصامية" هي وحدها تصنع "الرجولة" بمعنى آخر ان الثروة قد تجعل الانسان اتكالياً، ضعيف الشخصية، في حين، ان "العصامية" تجعل الانسان مدبراً وجدياً، واكثر اتزاناً، واشد تماسكاً امام الشدائد، وهذا ما جعل تقي ان يكون اكثر اتزاناً من الناحية الاجتماعية، فهو لم يهتز امام مغريات الحياة في بغداد على الرغم من انه قدم اليها، وهو في ربيع عمره. بتعبير ادق، انه ظل ملتزماً في عبادته، رزيناً في سلوكه، مدبراً في حياته. فضلا عن ذلك، فان حياته في مجتمع بغداد الحضاري لم يسلخه عن مجتمع بلد المحافظ، ولم يبعده عن اهله واخوته واصدقائه، فقد ظل وفياً كل الوفاء لوالديه واخوته. وقد اثمر هذا الوفاء عن وفاء اولاده معه فيما بعد، الامر الذي يؤكد حقيقة تاريخية، وهي كيفما تكن مع والدك، يكن اولادك معك، فالشوك لا ينبت الا شوكاً، والورد لا ينبت الا ورداً! ثمة حقيقة تاريخية اخرى، ان طبقة "الافندية" كانت تهتم بالتوثيق اهتماماً كبيراً ليس من قبيل الترف، بل كانت تعد التوثيق جزءً لا يتجزأ من الهوية الوطنية للبلد عموماً، وللفرد خصوصاً. فضلا عن، ان طبقة "الافندية" كانت تنظم حياتها الاجتماعية على احسن ما يرام، فكانت تولي مظهرها الخارجي اهتماماً كبيراً لانها تعده جزءً من هيبتها الشخصية اولاً، وهيبة الدولة ثانياً. والاهم من كل ذلك، ان طبقة "الافندية" كانت تعيش صراعاً امام مدرستين ، هما المدرسة السياسية، والمدرسة المهنية، فاختارت الثانية لانها كانت مؤمنة ان "المهنية" افضل بكثير من "الحزبية". بتعبير ادق، ان تسييس المهنة لم يضعف الدولة فحسب، بل يقلل ويضعف من هيبة "الافندي"، لذا ظل تقي مستقلاً في مهنيته، دون ان ينتمي الى هذا الحزب أو ذاك، فكان موظفاً مثالياً، ومحط اعجاب وتقدير جميع مرؤوسيه وزملائه في الوظيفة، فكان بذلك، خير حاصد اذا حصد، ويشهد على ذلك سجله الوظيفي الذي كان سجلاً نظيفاً ابيض كبياض ثياب حجاج بيت الله الحرام. فقد خدم بغداد بـإخلاص كبير، وافنى احلى سنوات عمره من اجلها، وبذل كل ما بوسعه من اجل ان يطرز اسمه في بناء بغداد، فبنى "طابوقة" في عمرانها، وزرع "وردة" في حدائقها، وحافظ على خزينتها ، فلم يهتز امام لمعان نقودها، لانه كان يخشى الله كثيراً، ولانه كان من "اولاد النعمة" الذين لا يريدون ان يدخل المال الحرام الى بطونهم لذا اصاب الامام علي عليه السلام كبد الحقيقة، عندما اكد في خطبه البليغة ما معناه لا تخافوا من اولاد النعمة، وان جاعت بطونهم، فالخير والشرف وحب الوطن لا يتخلون عنه ابداً في السراء والضراء على حد سواء.



Advertise on Sotaliraq.com? Click here for more information!

Copyright © 1998-2017 Sotaliraq.com - All rights reserved / جميـــع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لصوت العراق
Home | News & Reports | Articles | Privacy Policy | Contact Us

Google