حكايات ثاني إذاعة في الشرق الأوسط

هنا بغداد صوت سيدة الأثير

رياض المحمداوي

احتفلت قبل الايام وتحديدا في الاول من تموز الحالي اذاعة جمهورية العراق بالذكرى 81 على تاسيسها ، وكان الملتقى الاذاعي والتلفزيوني الذي حرص على ان يحتفل بهذه المناسبة قد اعد حفلا مهيبا بالمناسبة وتم خلاله تكريم رواد اذاعة بغداد الام ومع الجيل الشبابي احيوا ذكرى عزيزة على منتسبي الاذاعة وجمهورهم الكبير من المستمعين في العراق والوطن العربي ، نعم احتفلوا وفي دواخلهم غصة مدوية لما تشهده الاذاعة خلال هذه الايام من محاولات تحجيمها وتهميشها من قبل المسؤولين الذين يحاولون ادراج الاذاعة الرائدة الى قسم من اقسام شبكة الاعلام العراقي ، تلك الاذاعة الرائده والام التي كانت ومازالت وباذنه تعالى ستبقى صوت العراق القدي الذي لايمكن اسكاته او تهميشه ،نعم احتفل رواد الاذاعة وقدموا كلمات الحب والاعتزاز لاذاعتهم الحبيبة واستذكروا رحلتهم الطويلة مع الروقة الاذاعة ومايكرفونها واقسامها فاعدوا كلمات المحبة والتثر لامهم وحبيبتهم اذاعة بغداد نختار ماكتبه الرائد الاذاعي عبد الواحد محسن وهو يقول  ( الى اذاعة جمهورية العراق في ذكرى تأسيسها .

سيدة الاثير..

في كنف بهائك الاصيل يضيع صوتي وهو يحاول مناداتك باحب الاسماء الى ذاتك(هنا اذاعة جمهورية العراق من بغداد)..لقد تجاوز عمرك الثمانين عاما ياامنا ياام المبدعين ولكأنك رشفت من معين الخلد..لااثر لملامح الشيخوخة على وجهك وملامحك وذاك عودك مازال اخضر طريا وخطواتك رشيقة واثقة وعيناك ترسلان نظرة من امل وثقة بالمستقبل …عين لك على دجلة واخرى صوب الفرات ونفسك ترنو للقاء محبيك واحتضانهم وهذا سجل التاريخ يكتب اسمك باحرف من ذهب ياسيدة الاثير وبوابة الاصالة والابداع وشعاع الامل والثقافة والحضارة . على مدى سنينك البهيه تكسرت على بواباتك الاحداث وحكت لك الايام قصتها وعاش الناس معك احلى سنيت عمرهم ..عاصرت عهودا واجيالا وظلت قامتك شامخة لم تعرف الانكسار …اقرأ في عينيك ياسيدة الاثير عبق التاريخ وبساطة بغداد وصور الكرخ والرصافة ومقاهي الصالحية وضوع ايامنا الخالدات. ياسيدة الاثير دخلت باحتك وانا غض غرير ونهلت من ينابيع الثقافة والمعرفة في اقسامك البرامجية واحمد الله انني اليوم احتفل مع المحتفلين بعيدك واواصل العطاء عبر اثيرك الخالد ياسيدة الاثير. تحية وتهنئة الى  كل الزميلات والزملاء بهذه المناسبة العزيزه وتبقى اذاعة جمهورية العراق عنوانا للعطاء والابداع الاصيل وكل عام واذاعتنا بخير ).

المقدمة ..

قبل ان اروي لكم  قصصاً حية عن تاريخ اكبر مؤسستين عراقيتين بنيا باياد عراقية مبدعة . ساروي لكم هذه الطرفة الحقيقية والتي حدثت في ثلاثينات القرن العشرين من تاريخ العراق وعنوانها النشيد الوطني العراقي.

في خلال فترة حكم المغفور له باذن الله جلالة الملك غازي ملك العراق, كان الفنان التشكيلي حافظ الدروبي على رأس الوفد العراقي المشارك في مهرجان الكشافة العالمي الذي أقيم في ألمانيا في الثلاثينات القرن الماضي قبل الحرب العالمية الثانية, وكان يرعى المهرجان آنذاك الزعيم النازي هتلر, وضمن التقليد المعمول به في هذا المهرجان إن الوفد المشارك عندما يقترب من المنصة التي يقف عليها هتلر يردد النشيد الوطني لدولته وهو يقابلهم بتحية مرحبا بهم. لكن الوفد العراقي وقع في حيرة من أمره فلم يكن لنا نشيد وطني متفق عليه آنذاك , مثلما هو الحال الذي نحن عليه ألان, لكن الفنان حافظ الدروبي رحمه الله طمأن الوفد بأنه سيتدبر حلا لهذه المشكلة, وعندما اقترب الوفد العراقي من منصة هتلر ارتفع صوت حافظ الدروبي (بلي … يبلبول) والأولاد يرددون معه بحماسة (بلي) (ما شفت عصفور) (بلي) (ينكر بالطاسة) (بلي …وحني راسه .. بلي.. والمفاجأة الأكبر إن الجمهور الذي امتلأت به مدرجات الملعب تفاعل مع النشيد الوطني العراقي وتمايل طربا دون سائر الأناشيد الأخرى وهو يردد (بلي ).

اذاعة سلكية ..

في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي.. حيث بدأت بوادر الحداثة تاخذ طريقها الى الحياة العراقية المدنية فقد فانتشرت المقاهي بطريقة لافتة في مدن العراق الكبرى . وبدأت يؤدي دورا ثقافيا تنويريا رائدا خاصة في بعض المقاهي الكبيرة في بغداد التي قامت بنصب محطات اذاعية (سلكية) لتبث الى روادها الاغاني والمقامات العراقية .. وكان صاحب المقهى انشئ جهاز راديو كبيراً في ركن المقهى ويوصله باسلاك الى الحاكي (المغرافون) الذي تذاع منه الاغاني وتراتيل القران الكريم المسجلة في اسطوانات كبيرة .. كان اول مقهى انشأ هذا الاذاعة البسيطة يعود الى الحاج عبد العزيز الكائن في محلة الفضل الشهيرة الواقعة في جانب الرصافة ببغداد حدث ذلك عام 1932 تبعه بعد قليل من ذلك الحاج عبيد الذي انشا استوديو صوتيا في بيته الذي يجاور المقهى ثم اوصله بسلك الى الراديو الموجود في مقهاه الكائن على نهر دجلة .. وما تميز به الحاج عبيد على منافسه الحاج عبد العزيز انه كان يبث موسقى حية الى رواد مقهاه بعد ان استاجر فرقة موسيقية لهذا الغرض .فقد طورت مقاه اخرى الفكرة وخاصة تلك الموجودة بالقرب من جامع الفضل بعد ان استأجر اصحابها تختا موسيقيا متكاملا مؤلفاً من فرقة وعازفين مع مطرب مقام . اضافة الى منشد مدائح نبوية وقاموا بتوسيع البث السلكي ليغطي عددا من المقاهي في وقت واحد بينما كان عبد السلام العزاوي وزكي خطاب المحامي يتلوان ايات القران الكريم من هذه الاذاعة السلكية التي انشئت في عام 1933 وهكذا تطورت المحاولات وشملت اغلب المقاهي في بغداد وتعدت الظاهرة الى المدن الاخرى مثل البصرة والموصل .

اذاعة الزهوراول الاذاعات.

ففي عام 1933 توفى اول ملوك العراق جلالة المغفور له باذن الله فيصل الاول وتوج ابنه الشاب غازي على العرش وكان عمر الملك الجديد 21 سنة فقط وكان عائدا للتو من لندن بعد ان تخرج في كلية (هارو) الانكليزية وكانت تستهوي غازي بعض الملامح الحضارة الغربية فقد كان يحب قيادة السيارات السريعة نوع (كوبيه) ولديه الاهتمام بالمخترعات الحديثة وخاصة بالراديو لذا جاء في مقدمة اولوياته انشاء اذاعة خاصة به وكان له ما اراد عندما انشأ في مطلع عام 1936 اول اذاعة لاسلكية وقد كلف احد المهندسين الاجانب بنصب جهاز ارسال بقدرة كيلوا واط واحد في القصر الملكي الذي يطلق عليه قصر الزهور . وقد اخذت الاذاعة اسم القصر وسميت اذاعة الزهور .

الطريف في الامر ان الملك الشاب كان يعمل في اذاعته لوحده فهو يعد ويقدم البرامج والاغاني التي كان يؤديها المطربون في بث حي ومباشر وعلى الهواء لعدم وجود اجهزة التسجيل الصوتية (الشريط) حينها ومن الذين ضيفهم في اذاعته المطرب المقامي الاول محمد القبانجي والمطرب الريفي اللامع حضيري ابو عزيز اضافة الى الاغاني استثمر الملك الاذاعة في القاء الخطب السياسية التي كان الملك من خلالها ايصال افكاره المعادية للانكليز الى الناس . وبالفعل بدا يشن من اذاعته حملة شرسة ضدهم . ولم يكن الملك الشاب مدركا خطورة تصرفاته تلك بسبب قلة خبراته في السياسة والحياة . وكانت اذاعة الزهور تبث على الموجة المتوسطة ولاتسمع الا في مدينة بغداد وضواحيها ومن خلال عدد محدود من اجهزة الاستقبال وزعها على بعض الاماكن العامة في بغداد وعندما توفي الملك غازي في حادث السيارة بظروف غامضة وتوقفت هذه الاذاعة عن العمل الى الابد.

وبعد إن قامت الحكومة المصرية بتأسيس إذاعة لاسلكية عام 1934. وتبعتها سلطة الاحتلال البريطاني في القدس ودخول الراديو العراق عن طريق بعض الميسورين. ارادت الحكومة العراقية انشاء اذاعة اسوة بالبلدان التي خطت الى امام بهذا المجال حيث انتشرت فيها الاذاعات التي تنطق باللغة العربية فهي تلك السنة أي 1936 جرت محاولة عراقية لشراء معدات ارسال لاسلكي والسعي لتأسيسها.

وفي شهر مايس من تلك السنة عهدت الحكومة في المملكة العراقية والتي كان يرأسها السيد ياسين باشا الهاشمي الى لجنة في وزارة الاقتصاد والمواصلات لانجاز بناء محطة للاذاعة وقد خصص مبلغ اولي قدره الفان وثمانمئة دينار ثم زيد المبلغ الى ثلاثة الاف وثمانمئة دينار عراقي واعتبر هذا المبلغ كبداية ريثما يتوفر ظرف مالي يسمح بتخصيص الميزانية التي تساعد على بناء ستوديوهات وفعلا خصصت وزارة المالية في ميزانية سنة 1936 مبلغ خمس وثلاثين الف دينار لاكمال مستلزمات الاذاعة من استوديوهات وغيرها.وقد تألفت لجنة انشاء الاذاعة من رئيس الوزراء ياسين باشا الهاشمي ووزير المعارف السيد صادق البصام مع عدد من الاعضاء ثم انشئت لجنتان الاولئ برئاسة المفتش العام للمعارف وعضوية السيد طه الراوي سكرتير مجلس الاعيان ومدير الرعاية العام السيد ابراهيم حلمي العمر واللجنة الثانية برئاسة السيد خليل اسماعيل البستاني مدير المعارف العام و ذلك لدراسة الملاك والعاملين والفنيين وكل ما يتعلق بالاجور والمخصصات واستمرارية ادامة الاذاعة و ملء الشواغر ووضعت عناوين للعاملين (مدير اذاعة، فنيين، كتاب محاضرين (مقدمي برامج) مطربين، موسيقيين..) وقدوضعت سلما لرواتبهم. مدير ستوديو براتب 21 ديناراً مهندس فني براتب 30 دينار و مذيع براتب 15  ديناراً شهريا الى جانب موظفين خدمه.

رسم الراديو ..

حينها اعترضت وزارة المالية على هذا الملاك لعدم وجود التخصيصات المالية اللازمة لمثل هذا الملاك. ولم يخطر ببال واضعي الميزانية وظائف كهذه من قبل . فقامت وزارة المالية بفرض رسم سمي برسم الراديو يؤخذ من اصحاب المقاهي والمحلات والبيوت التي تضع جهاز راديو ظاهر للعيان او مسموعا وفرضت مبلغ نصف دينار شهريا على كل جهاز راديو و هكذا نشأ جيش من الجباة بزي موحد يجوبون المقاهي والمحلات و يطرقون ابواب البيوت و يتنصتون على الناس من خلف الشبابيك – فكم مفارقة حدثت معهم من اصحاب البيوت و كم سطل ماء رشقوا من السطوح ثم اخذوا يطرقون الابواب قائلين(عدكم راديون و يكون الجواب لا يابة ماعدنه عدنة ) .

ومن محصلة هذه الجباية تدفع اجور العاملين من محاضرين وكتاب وموسيقيين ومطربين وغيرهم. وكانت اجور المطربين لا تتعدى الدينار والربع عن الحفلة الواحدة و كان المطرب عبد الامير طوبرجاوي يتقاضى مبلغ دينار وربع عن الحلقة الاسبوعية وامدها نصف ساعة وهكذا مع بقية المطربين مثل سليمة مراد باشا و امثالها.

قبل البث الرسمي بدأت ارسالها التجريبي لمدة ثلاث ساعات في الاسبوع مرتين من الساعة 8-11 مساء و نجح الارسال لكنه لم يصل حدود مدينة العمارة والبصرة و كركوك والموصل.

وأخذت الناس نشوة فرح غامرة بميلاد شيء جديد في حياتهم كما حدث يوم دخلت الكهرباء مدينة بغداد بعد ظلام القرون واعتبر يوما تأريخيا في حياتهم و يقال انه قد بيعت في مناسبة عام الميلاد ولمناسبة ذكرى تتويج الملك فيصل الاول خمسة الاف جهاز راديو.

الاذاعة في بداياتها لم تكن تعتمد التسجيل للبرامج التي تذيعها. كانت كل المواد الاذاعية تذاع على الهواء مباشرة عدا الاغاني المسجلة على الاسطوانات و كم من مفارقة و كم من هفوة او زلة او خطأ اصبحت حديث الناس .

برامج واسطوانات ..

استمر هذا الحال حتى الاربعينات من القرن الماضي لم تتوفر لدى الاذاعة اجهزة تسجيل حتى عام 1948 جاءت فرقة اذاعية موفدة من قبل الاذاعات البريطانية والامريكية وبخاصة اذاعة الشرق الادنى للحصول على البرامج والاغاني المحلية و كانت تجلب معها اجهزة اذاعية خاصة واتخذوا مقرا لهم في احد استوديوهات الاذاعة . فخطرت فكرة  من مدير الاذاعة وبعض المذيعين الاستفادة من الاجهزة

والاسطوانات بعد الانتهاء من العمل عند الساعة السادسة من كل يوم فقاموا بتشغيلها والاتصال بصالات العرض السينمائية التي تعرض افلاما عربية لتسجيل اغاني الافلام عن طريق التليفون واستطاعوا ان يسجلوا مجموعة من الاغاني لصباح واسمهان وفنانيين اخرين. وتشير المصادر ان اول من استعمل جهاز التسجيل من نوع الواير ريكوردر ( مسجل ابو السيم ويستخدم سلكا فولاذيا رفيعا مكان الاشرطة المغناطيسية المألوفة )هو المرحوم عبد الله الجقماقجي الذي كان يمتلك محلا مقابل مقهى خليل كان قد اشتراه من احد الامريكان ضمن حاجات اخرى ونجح المرحوم الجقماقجي بتسجيل الحفلات الدينية التي كانت تذاع على اذاعة القاهرة. في تلك الفترة كانت الاذاعة تفتقر الى اجهزة التسجيل فاقترح بعض العاملين على السيد حسين الرحال مدير الاذاعة انذاك ان يشتري اجهزة تسجيل لتتمكن الاذاعة من تسجيل برامجها وقد كلف المهندس بديع امين زكي لشرائها من شركة فلكو. اما استعمال جهاز تيب ريكوردر فقد تم شراؤه من احد المواطنين الذين درسوا في امريكا كان قد جلبه بعد عودته من امريكا الى العراق بعد ان استطاع احد المهندسين اقناعه لبيع الجهاز لغرض استخدامه في تسجيل تلاوات القران الكريم للقراء ابو العينين شعيشع وعبد الفتاح الشعشاعي وعبد الباسط عبد الصميد لمناسبة وفاة الملكة عالية سنة 1951-1952 وقد سجلت بواسطته اندر التلاوات التي لا تزال تسمع الى اليوم. وفي تلك الفترة بدأت اذاعة بغداد تحسن من مستوى البث الذي كان ينتهي عند الساعة العاشرة مساءا بسبب قدرة المرسلات البسيطة التي لا تتجاوز كيلو واط (الموجة المتوسطة) اما الموجة القصيرة فكانت قدرتها 3/1 كيلو واط وهي من صنع شركة ( (RCAالامريكية .

مرسلات ابو غريب ..

بعد ذلك وفي عام  1951انشأت مرسلات جديدة في منطقة ابو غريب من نوع ماركوني البريطانية بقوة 20  كيلو واط وكان يدير هذه المرسلات مهندس انكليزي من نفس شركة ماركوني وقد استطاع ان يجلب للاذاعة اجهزة تسجيل متطورة وقد تم ذلك حيث اخترع عملية تسجيل الاغاني على اسطوانات من الفافون المطلي بمادة قيرية كما جلب المهندس المذكور اجهزة اذاعية تسمى ايسي. وبمرور الزمن دخلت الاذاعة اجهزة صوتية متطورة و توسعت قدرات المرسلات و اخذت تبث بحدود الف الى الفين كيلوا واط واستعملت اجهزة التسجيل الحديثة بدل الاجهزة القديمة التي مسحت وشوهت اجمل الاصوات فكم من اغان رائعة ضاعت مع البث الحي و ضاع معها تراث غنائي حافل لم يبق منه الا القليل وحين مابثت هذ الؤسسة الوطنية العراقية اول برامجها على الهواء .

ففي مساء يوم الاربعاء الاول من تموز عام 1936 ترك الكثير من سكان بغداد بيوتهم وتجمهروا في الساحات التي نصبت فيها اجهزة الراديو للاستماع والاطلاع على هذا الجهاز العجيب وهو يتحدث اول مرة بصوت عراقي . بعضهم لم يكن مصدقا ان هذا الصندوق الخشبي الانيق الذي يحتوي على بضعة ازرار عاجية ولوحة زجاجية مستطيلة تشع بلون اخضر باهت يتحرك فيها مؤشر احمر نحيف يمكن ان ينطق ويغني بمجرد تحريك هذا المؤشر فيأتيك باخبار الدنيا .. فكيف دخل هذا الجهاز العجيب الى بغداد .. في عام 1928 السيد عبد العزيز البغدادي صاحب شركة الدخان العراقي اراد ترويج بضاعته فاجرى مسابقة لنشرها في الصحف بقصد الدعاية لمنتجات شركته وجعل الجائزة الاولى جهاز مذياع ..وكان المذياع يعد سلعة ثمينة وفريدة بمقياس ذلك الزمان وعلى الرغم من اننا لانعرف من صاحب الحظ السعيد الفائز بتلك الجائزة غير ان تلك الواقعة سجلت رسميا وشعبيا دخول المذياع أول مرة الى الشارع العراقي

هنا بغداد ..

ففي يوم الاربعاء الاول من تموز 1936 . كان اول صوت انطلق من اذاعة بغداد ليقول (هنا بغداد) هو صوت المذيع عبد الستار فوزي بعد ان افتتح وزير المعارف المحطة وكان اسمها الاذاعة اللاسلكية للحكومة العراقية . 1936 . واعدت الاذاعة لذلك اليوم برنامجا حافلا جاء فيه .

  • في الساعة 6?30 مساء الافتتاح الرسمي للاذاعة من قبل وزير المعارف . في الساعة السابعة تلاوة من القران الكريم للمقرىء عبد العزيز الحكيم . نشرة الاخبار يقرأها ابراهيم حلمي العمر وكيل مدير الدعاية والنشر. عزف على الكمان لجميل بشير. • محاضرة عن مكافحة الامراض الشائعة للطبيب خليل افندي . في الساعة 8?45 اسطوانتان شرقيتان واحدة لام كلثوم والثانية لمغنية تركية• في الساعة التاسعة امسية غنائية للمطربة سليمة مراد بمصاحبة فرقتها . وكان للمطربة سليمة مراد الشرف في ان تكون اول مطربة تغني يوم الافتتاح وكان البث مباشراً ولمدة ثلاث ساعات ولثلاثة ايام في الاسبوع من الايام السبت والاثنين والخميس .

بلبل الاذاعة الميكانيكي ..

معظم العراقيين يعرفون بلبل الاذاعة ولصوته على سامعهم وقع خاص . اذ كانت الاذاعة العراقية تبدأ بثها التجريبي صباح كل يوم بصوت هذا البلبل الشهير الذي كان يغرد لمدة خمس دقائق يوميا قبل الافتتاح وقد تم استحداثه لضرورات ضبط مستوى الموجات الصوتية ولقياس اعلى وادنى ذبذبة صوتية كانت عندما تبدأ الإذاعة العراقية بثها نسمع صوت البلبل وكانه اصبح شاعرا او بصمة تميز الإذاعة الرسمية العراقية عن سواها . لم يحصل أي تغيير في فترة الثلاثينيات في برامج الإذاعة التي كانت تتضمن تلاوة من القران الكريم ونشرة الاخبار ثم اغانٍ وبعض التمثيليات والمنولوجات والحفلات الموسيقية لفريق الاذاعة الذي يتكون من صالح الكويتي (كمان) وابراهيم طفو (جلو ) وداود الكويتي (عود ) ويوسف زعرور (قانون) وحسين عبد الله ( ايقاع ) ويعقوب مراد (الناي).

برامج الاطفال كان لها حصة ايضا في برامج الاذاعة من تاسيسها وكان اول مقدم برامج اطفال الفنان كريم مجيد وكان نجما لامعا يعرفه كل الاطفال خاصة الذين كانوا يملكون في بيوتهم راديو وكانت قصة عمو كريم وحكايته بهجة وسعادة للاطفال وللكبار ولكنه لم يستمر طويلا فحل مكانه عمو محجوب ثم تلاه الفنان المشهور عمو زكي عام 1938 ولايمكن ان ننسى صوت رائد المونولوجات عزيز علي منذ افتتاح الاذاعة حيث كانت تتجمع النسوة والصغار في البيوت .

اما في المقاهي فكان يتجمع الرجال والاولاد وكلهم ينصتون لعزيز علي وصوته العذب وهو يقدم مونولوجاته الساخرة من الحكومة والانكليز والظواهر الاجتماعية التي كانت سائدة في المجتمع فتتعالى الضحكات وتتردد الاحاديث والضحكات . اما اول صوت نسائي يقول هنا بغداد فكان صوت المذيعة فكتوريا نعمان ثم تسابق اصوات المذيعين والمذيعات للفوز بمكريفون الاذاعة فبرز صوت الاذاعي الشهير يونس بحري وسلمان الصفواني وحسين الكيلاني وكاظم الحيدري . ومحمد عبد اللطيف وهؤلاء الجيل الاول من المذيعين الذين عملوا مقدمي فقرات البرامج اليومية وكان المذيع في العادة يعلن اسم المغني وكاتب الكلمات والملحن واسماء الموسيقيين جميعا ثم ينتظر صامتا حتى انتهاء الاغنية او الوصلة التي كانت تقدم على الهواء مباشرة لمدة لاتقل عن نصف ساعة ليعلن المذيع بعدها اسم مغنٍ اخر واسماء جوقته . ومع بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939 تحولت الى شعبة تابعة الى مديرية الدعاية والنشر التابعة لوزارة الداخلية وتغير اسمها الى الاذاعة اللاسلكية للحكومة العراقية وزيدت ساعات البث الى خمس ساعات وبدأت تعمل على مدار الاسبوع ولمدة ثلاثة ايام فقط . وكان يعمل فيها يوميا خمسة مذيعين ونحو سبعة موسيقيين وفي عام 1943 اقترح حسين الرحال الذي كان يشغل منصب ملاحظ الاذاعة تشكيل فرقة مستقلة تختص باقامة حفلات موسيقية للإذاعة وتالفت فرقة اخوان الفن لهذا الغرض من سبعة فنانين برئاسة داود اكرم (الكمان )الياهو جوري (الكمان ) وسليم صيون كراكلي (الكمان) ومؤيد نقار عود ويوسف ربيع (جلو ) وموشي شماس (دف) .. ونذكر ان الاجور التي كانت تدفع للمطربين عن الحفلة الغنائية والواحدة تتراوح بين دينار ودينارين كما ان اول فرقة دخلت الى الاذاعة هي فرقة الفنان الرائد حقي الشبلي في منتصف الاربعينيات ..

ثم اسس عبد الله العزاوي قسم التمثيليات واول فرقة للتمثيل عام 1948 ثم تلتها فرقة انوار الفن لتوماس حبيب وفي عام 1949 قدمت اول تمثيلية اذاعية باسم مجنون ليلى باللغة العربية الفصحى باشراف الفنان عبد الله العزاوي ويوصف بانه اول من ابتدع هذا الفن من دون دراسة واطلاع على تجارب الاذاعات الاجنبية التي سبقتنا وبرز في تلك الايام الجيل الثاني من المذيعيين الذين عملوا في فترة الاربعينيات امثال ( وديع خوندة . نايف الشبلي وهو ابن الفنان حقي الشبلي .رؤوف توفيق وسعاد الهرمزي . ومشتاق طالب . والمذيعة فكتوريا نعمان . وعبد الحميد الدروبي . ومحمد علي كريم وناظم بطرس وصبيحة المدرس ) اما المذيعان يونس بحري وعبد اللطيف الكمالي فكانا من اوائل الاذاعيين العراقيين الذين سمعناهم يذيعون من محطات الاذاعات الاوروبية وباللغة العربية وذلك في اثناء سنوات الحرب العالمية الثانية .. وقد اشتهر صوت يونس بحري من اذاعة برلين الالمانية في ايام هتلر .

وهكذا تبقى اذاعة بغداد الام والرائدة وصوت العراقيين القوي الذي سيبقى معطاء عبر الاثير وتبقى تحتفل كل عام وتكرم روادها وتحتضن جمهورها الكبير من المستمعين في العراق والوطن العربي .

متابعة صوت العراق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here