رفيق البعث (قصة قصيرة) ح3 الاخيرة

ذات مساء .. بينما كنت أراجع واجباتي اليومية في المنزل , طرق الباب , فإذا بالرفيق ابو رضاب:
– خيراً .. رفيقي ابا رضاب .. ماذا هناك ؟.
– ليس هناك الا الخير .
– حسناً .
– رفيقي .. تعلم ان يوم غد هي الذكرى السنوية لرحيل الرفيق المؤسس ميشيل عفلق .
– نعم .. غداً .. نعم .. هذا صحيح.
– سيقام حفلاً تأبينياً بهذه المناسبة ولابد لي من إلقاء كلمة في هذا الحفل المبارك .
– وما المطلوب مني ؟!.
– أريدك ان تكتب لي تلك الكلمة .. فأنت تفهم في كل شيء .. وانا لا اجيد سوى الالقاء .
– حسناً .. ومتى تريدني ان اكتب لك ؟.
– في هذه الليلة يجب ان تكون الكلمة جاهزة .. كي اتمرن عليها قبل صبيحة الغد.
– في الليل ستكون جاهزة .
تبادلنا التحايا الرفاقية وانصرف , أغلقت الباب وأسرعت نحو الورقة والقلم , وشرعت بالكتابة بطريقتي المعهودة غير المفهومة , لا أتذكر كل ما كتبت الا من جملتين او اكثر , فقد كتبت من جملة ما كتبته ( الشوفينية هي الحل الوحيد والانجع الانفع لحل جميع قضايانا المعاصرة , لا حياد عنها ولا بديل !) , فجاء الرفيق ابو رضاب ليلاً وسلمته الورقة , قرأها بشكل سريع , نالت اعجابه شكرني شكراً بعثياً رفاقياً , وانصرف , بعدها لم اره ولم يرني , لا أعرف ماذا حدث ؟ , لكنه أختفى .
ذات يوم كئيب , كما كانت كل ايام البعث كئيبة , توقفت عدة سيارات رفاقية امام المنزل , ألقوا القبض عليّ , واقتادوني الى مقر قيادة الفرع , أوقفوني في مكتب الذاتية , جردوني من كل أغراضي ومنها هويتي (هوية طالب) , ثم ادخلوني في ممر ضيق , وتوقفوا امام غرفة خاصة , طرق احدهم الباب , جاء الاذن بالدخول , أدخلوني , كان هناك شخص يقبع خلف المكتب , وواحد فقط يجلس في الجانب الايمن , يرتدي بدلة زيتوني (بدلة الرفاق المشؤومة) , واخرون بالزي المدني الى اليسار , وقفت بالوسط , حلّ احدهم وثاقي , وفي احدى الزوايا لاحظت وجود الرفيق ابو رضاب , لكن حالته لا تبشر بخير , فقد كان موثقاً وآثار التعذيب بادية عليه , استجمعت قواي مستعداً لأي سؤال طارئ , سألني الشخص على اليمين بكبرياء وعجرفة :
– هل تعرف ما هي الشيمفونية ؟!.
فهمت انه يقصد الشوفينية , فكرت قليلاً وقلت بصوت هادئ:
– لم يسبق لي ان سمعت بهذه العشبة .. رفيقي ..
حدق الجميع في وجوه بعضهم البعض , وقال مقاطعاً كلامي :
– أي عشبة !.
قلت له :
– رفيقي .. انا اعرف جميع الاعشاب المتداولة في المحافظة .. فمثلا هناك الكزبرة تستعمل في عدة مجالات علاجية كالتخفيف من الام القرحة وازالة عوارض ارتفاع الحموضة , وكذلك تعتبر الكزبرة فاتح للشهية وطاردة للغازات , كما وانها تساعد في هضم الطعام ونافعة جداً في حالات الامساك …
لم اكمل كلامي قاطعني بشدة وبكل عجرفة:
– ماذا تقول أنت ؟ .
أستمر كلامي وكلي ثقة :
– كما وتعتبر الكزبرة من مطيبات الطعام ..
لم يسمح لي بالاستمرار :
– أسئلك عن الشيمفونية ؟!.
– حسناً .. رفيقي .. لا أعرف هذه العشبة .. سوف اسأل عنها لدى تجار الاعشاب في بغداد .. وان حصلت عليها سأجلب لك بعضاً منها .. الا اني اجهلها وأجهل استعمالاتها في الوقت الراهن .
بادر الجميع الى الضحك , وتوجه لي بالسؤال واحدا من اليسار بالزي المدني :
– ماذا تعمل انت ؟ .
– محل عطارية وأعشاب طبية .. توارثنا هذه المهنة أباً عن جد.
شرعوا بالسخرية مني وتبادلوا النكات , أثناء ذلك دخل رجلين بالزي الزيتوني احدهم يحمل عدة حبال , والاخر يحمل مجموعة من الهراوات (صوندات) , تركاها في مكان وأخذوا معهم الرفيق ابو رضاب , بكيل من السباب والشتائم وبعض الضربات , ثم دخل رجل ضخم الجثة , ابيض الشعر , مشمراً عن ساعديه , وحصل على الاذن من الرجل القابع خلف المكتب , وشرع بربط كلتا يداي الى ظهري , وأخر قام بتمرير احد الحبال من على المروحة السقفية , ثم بطحني ارضا وشرع بربط قدماي , بعدها ربط يداي بقدماي , وصنع عقدة لتعليقي بالحبل النازل من المروحة السقفية , وفجأة طرت في الهواء , وبدأت أرتفع عن الارض رويداً رويداً , على ارتفاع مترا او مترين لا اعرف , لاحظت هناك زجاجة ذات عنق طويل (بطل) في الزاوية خلف مكتب الرفيق الاكبر , فقلت في نفسي انهم سوف يستخدمونها في المرحلة الثانية , يجب ان أحسم الامر ها هنا , وان لا اسمح للأمر ان يصل الى تلك المرحلة الشائنة !.
تناول الرجال بالزي المدني الهراوات , وقف اثنان من على يميني , وواحد مع الرجل الضخم ذو الشعر الابيض على يساري , وانتظروا اوامر الرجل القابع خلف المكتب , الذي لم يتحرك قط , هذه المرة تحرك , فتح احد ادراج مكتبه وأخرج ورقة , فتحها ثم نهض , عرضها عليّ قائلاً :
– هل أنت كتبت هذه الورقة للرفيق ابو رضاب ؟ .
لا مناص للأنكار , فالخط خطي , لكن لابد لشيء من المراوغة :
– نعم .. الخط خط يدي ..
– حسناً .. أنك لا تنكر ذلك إذاً .
– رفيقي .. دعني أوضح لك الامر.
– أي امر ؟ .
– هذه الورقة جلبها لي الرفيق ابو رضاب وطلب مني إعادة كتابتها لأن خطه ليس جيداً وخط يدي جيد كما ترى .
تبادل الجميع النظرات , وغيًر ملامح وجهه الكالح :
– ماذا تقول ؟ .
– كما سمعتم رفيقي .
– هو الذي جلب الورقة لتعيد كتابتها بخط واضح .
– هذا ما حدث رفيقي .. حتى أني لم افهم شيئاً منها .. فأنا لست سياسياً .. ما أنا الا مجرد طالب بائس لا أكاد أفهم دروسي .. مع أني عطار ممتاز .
– حسناً هل اخبرك الرفيق ابو رضاب من أين جاء بها ؟ .
– على ما أتذكر ولأني لم أفهم ما كان مكتوباً سألته عن ذلك .
– وما كان جوابه ؟ .
– قال لي أنه استعان بشخص بارع في السياسة .. بعثياً , لكنه معارض للبعث الحالي .. اي بعثياً منشق .. ولا يعترف بكل المسميات البعثية الحالية .. واخبرني ان هذا الشخص لازال محتفظاً بالخط البعثي الصحيح الذي رسمه القائد المؤسس ميشيل عفلق .
– وهل أخبرك من هذا الشخص؟ .
– سألته .. رفيقي .. لكنه قال بكل تبجح وزهو (هذا سر) .
دار بينهم كلاماً وجدلاً , بين مصدق وبين مشكك بصحة ما سردت عليهم , أحد الاشخاص بالزي المدني أعتقد قائلاً:
– رفيقي .. اعتقد ان الرفيق ابو رضاب ينتمي الى تنظيم رفاقي سري معاد .. وأتهم هذا الشاب ليخلص نفسه ومن ثم يرمي التهمة في ميدان أخر كي يضللنا ويسلم هو ورفاقه البعثيين المنشقين .
– أتعتقد انه ورط هذا المعلق في هذا الامر كي ينفد بجلده ويتستر على رفاقه الانفصاليين الشعوبيين.
لدى سماعي بهذه الكلمات تظاهرت بالمسكنة , هنا تدخل الأخر بالزي المدني :
– تحقيقنا مع هذا الشاب مضيعة للوقت .. فلنتعجل بالتحقيق مع الخائن الحقيقي الرفيق ابو رضاب! .. ولنتحرك وبسرعة قبل ان يفلت أفراد التنظيم الانشقاقي!.
أستحسن الجميع مداخلته واستصوبوا رأيه , أسرعوا خارج المكتب , وطلبوا من الضخم ذو الشعر الابيض انزالي وفك وثاقي , ومن ثم إخلاء سبيلي , وانصرف الجميع .
بينما أنزلني , دخل شخص برداء زيتوني وتناول الحبال والهراوات ومضى , وعندما شرع بفك وثاقي , دخل رجل اخر , باحثاً عن الزجاجة ذات العنق الطويل (البطل) , أخذها وانصرف , وطلب مني الانصراف , فأسرعت خارجا , متوجهاً الى الذاتية حيث هويتي وأغراضي , بينما أنا في الممر الضيق الطويل , شاهدت الرجل يحمل الزجاجة ذات العنق الطويل (البطل) بزهوٍ وافتخار يدخل في غرفة ما , هرولت خوفاً الى مكتب الذاتية واستلمت هويتي وبعض متعلقاتي , وفجأة .. وبدون سابق إنذار , وبشكل لا إرادي هرولت قدماي مسرعةً الى الخارج , بعد ان سمعت صراخ الرفيق ابو رضاب يتردد صداه في الممر الضيق الطويل .
لابد أنهم قد …. !.

حيدر الحدراوي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here